أصول الكفر (1)- الكِبْر
مآب المذنبين
روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أصول الكفر ثلاثة: الحِرص والاستكبار والحسد، فأمّا الحِرص فإنّ آدم عليه السلام حين نُهِيَ عن الشّجرة حمله الحِرص على أن أكل منها، وأمّا الاستكبار فإبليس حيث أُمِرَ بالسّجود لآدم فأبى، وأمّا الحسد فابْنَا آدم حيث قتل أحدهما صاحبه"
عدد الزوار: 360
أصول الكفر:
روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أصول الكفر ثلاثة: الحِرص والاستكبار
والحسد، فأمّا الحِرص فإنّ آدم عليه السلام حين نُهِيَ عن الشّجرة حمله الحِرص على
أن أكل منها، وأمّا الاستكبار فإبليس حيث أُمِرَ بالسّجود لآدم فأبى، وأمّا الحسد
فابْنَا آدم حيث قتل أحدهما صاحبه"1.
إن المتتبِّع لروايات أهل البيت عليهم السلام - خصوصاً ما ورد في موضوع "الكفر
والإيمان" - يجدها أعطت للكفر عناوين متعدِّدة، نذكر منها: أصول الكفر، علامات
الكفر، منازله، موجباته، وغير ذلك.
وسوف نعرض في هذا الدرس مصطلح "أصول الكفر"، وهي الأمور التي تؤدّي إلى الكفر أو
تكون مسبّبة له، والتي تتمثَّل في الروايات بثلاث خصال تشكِّل ثالوث الكفر، وهي: "الاستكبار،
الحِرص، الحسد"، وذلك حسب ما تقدَّم في رواية الإمام الصادق عليه السلام. وإلى هذه
الأصول ترجع أغلب الذنوب، روي عن محمد بن مسلم بن شهاب قال: سئل علي بن الحسين عليه
السلام أي الأعمال أفضل عند الله عز وجل؟ فقال: "ما من عمل بعد معرفة الله عز وجل
ومعرفة رسوله صلى الله عليه واله أفضل من بغض الدنيا، وإن لذلك لشعباً كثيرة
وللمعاصي شعباً، فأوّل ما عصي الله به الكبر، وهي معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان
من الكافرين، والحرص وهي معصية آدم وحوا حين قال الله عز وجل لهما: "كُلَا مِنْ
حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ"، فأخذا مالا حاجة بهما إليه فدخل ذلك على ذريتهما إلى يوم القيامة، وذلك أن أكثر ما
يطلب ابن آدم ما لا حاجة به إليه، ثم الحسد وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله،
فتشعب من ذلك حب النساء، وحب الدنيا، وحب الرئاسة، وحب الراحة، وحب الكلام، وحب
العلو والثروة، فصرنّ سبع خصال، فاجتمعنّ كلهنّ في حب الدنيا، فقال الأنبياء
والعلماء بعد معرفة ذلك: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والدنيا دنياءان: دنيا بلاغ ودنيا
ملعونة"2.
حقيقة الكِبْر:
الكِبْر على نحوين:
- كِبْر الباطن: وهو خُلُق في باطن الإنسان ونفسه.
- كِبْر الظاهر: وهي الأعمال التي تصدر بواسطة جوارح الإنسان.
إنّ سلوك المتكبِّر وأعماله الجوارحية الظاهرية هي - في الحقيقة - ثمرةُ باطنه، لأن
الباطن هو الأصل، والظاهر فرعٌ منه. فعندما يرى الشَّخص نفسه فوق مستوى الآخرين،
بحيث يغدو ذلك معتقداً عنده، فيفرح به ويركن إليه، ويعتزُّ به في نفسه، يكون قد
اتَّصف بـ "بخُلُق الكِبْر". وعندما يظهر ذلك الخُلق على سلوكيات الشخص تجاه
الآخرين يسمى ذلك الخُلق بالتكبُّر، وهو ما أراد بيانه الإمام عليه السلام عندما
تحدَّث عن الخُلُق الذي منع إبليس من السجود لآدم عليه السلام.
والكِبْر حالةٌ نفسيَّةٌ تجعل الإنسانَ يترفّع ويتعالى على الآخرين ويحتقرهم، ويرى
أنّ لنفسه الفضلَ على النَّاس كلّهم. وهو من الأمراض النَّفسيَّة والقلبيَّة
المذمومة شرعاً وعقلاً، ومنشؤه -بشكلٍ أساسٍ- إعجابُ الإنسان بنفسه وحبّه المفرط
لها. ومن النَّاس من يتكبَّر على الغير بعلمه، أو بعبادته، أو بحَسَبِه، أو بجماله،
أو بقوّته، أو بكثرة أولاده وأهله، أو بمنصبه، وهكذا.
والكِبْر يُخرِجُ الإنسانَ عن طور النموّ الطَّبيعي إلى طور النّمو الوهميّ، والذي
يُظهر الإنسانَ أكبر من واقعه وأضخمَ من حقيقته، فيرى نفسَهُ ولا يرى غيره، أو يرى
نفسه ولا يرى لغيره من شأنٍ ولا خطرٍ. والاستكبار في أصوله بِذرةُ تمرُّدٍ في داخل
النَّفس، قوامها حبُّ النَّفس والشَّغف بحفظِ تفرُّدها وذاتيَّتها المظلمة، ومنعها
من الطَّاعة حتَّى لو كانت لله الكبير المتعال.
وتاريخ التكبّر والاستكبار في العالم تاريخٌ طويلٌ، بدأ مع "إبليس الطَّريد"، فكان
الفاتحُ لباب الاستكبار وهو أخطر الأبواب، يقول تعالى:
﴿يا إِبْليسُ ما مَنَعَكَ
أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ
الْعالينَ﴾3.
درجات الكِبْر:
الكِبْرُ كأيّ مرضٍ من الأمراض القلبية يشتدّ ويضعف في النَّفس بحسب حال الإنسان
ومدى استفحال هذه الآفة في باطنه، ويمكننا أن نقسّم الكِبْر إلى ثلاث درجاتٍ
أساسيَّةٍ، هي:
الأول: التكبّر على الله تعالى وأوامره:
وهذا النَّوع من أفحش أنواع التكبّر ويؤدّي بصاحبه إلى الكفر، كما حدث لإبليس
اللعين:
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين﴾4.
وفرعون الذي كان ملكاً
على مصر والذي استكبر وطغى، والذي حدثت بينه وبين نبي الله موسى عليه السلام
مناظرات كثيرة، حتَّى إذا أمره موسى عليه السلام بالإيمان لله تعالى وعبادته، أبى
واستعلى وادّعى الربوبية لنفسه، كما ذكر ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى:
﴿َقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي
فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي
أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾5.
ومنشأ هذا النوع من الكِبْر كما يقول الإمام الخميني قدس سره : "هو منتهى الجهل،
وعدم معرفة الممكن 6 حدود نفسه، وعدم معرفة مقام واجب الوجود"7.
أمّا عن مرجع هذه الدرجة من الكِبْر فيقول الإمام الخميني قدس سره مبيّناً حقيقة
هذه الدرجة: "أمّا التكبّر على أوامر الله تعالى فيظهر في بعض العاصين، كأن يمتنع
أحدهم عن الحجّ بحجّة أنّه لا يستسيغ مناسكه من إحرام وغيره، أو يترك الصَّلاة؛ لأنَّ
السُّجود لا يليق بمقامه، بل قد يظهر ذلك عند أهل النُّسك والعبادة وأهل العلم
والتديُّن، كأن يتركَ الأذان تكبّراً، أو لا يتقبَّل مقولة الحقّ إذا جاءت ممن هو
قريبٌ له أو دونه منزلةً؛ فقد يسمع الإنسان قولاً من زميلٍ له فيردّه بشدّة ويطعن
في قائله، ولكنّه إذا سمع ذاك القول نفسه من كبيرٍ في الدين أو الدُّنيا قبله. إنّ
شخصاً هذا شأنه لا يكون من طلاب الحقّ، بل يكون تكبّره أخفى عنه الحق، وأعماه
تملُّقه لذاك الكبير وأصمَّه. ومثل هذا من يترك تدريس علمٍ أو كتابٍ باعتباره لا
يليق به، أو يرفض تدريس أشخاصٍ لا مركزيّة لهم، أو لأنّ عددهم قليل، أو بترك صلاة
الجماعة في مسجد صغير...."8.
الثاني: التكبّر على عباد الله تعالى:
وهذه الدَّرجة منبتها هو التكبُّر على الله تعالى أيضاً، وذلك بأن يستعظم نفسَه
ويستحقرَ غيره، فتأبى نفسه عن الانقياد لهم، وتدعوه إلى الترفُّع عليهم، فيزدريهم
ويستصغرهم ويأبى مساواتهم. ويظهر هذا النوع من خلال مظاهر متعدِّدة، منها رفضُ
مجالسة الفقراء، والتقدُّم في المجالس، وفي المشي، ونحو ذلك...
يقول الإمام الخميني قدس سره مبيّناً بعض مصاديق هذه الدرجة من الكِبْر: "وأقبحه
التكبّر على العلماء، ومفاسده أهم وأكثر من كلّ شيء. ومن هذا التكبّر رفض مجالسة
الفقراء، والتقدّم في المجالس والمحافل، وفي المشي والسلوك. وهذا النوع من التكبّر
رائج وشائع بين مختلف الطبقات، ابتداءً من الأشراف والأعيان والعلماء والمحدّثين
والأغنياء حتَّى الفقراء والمعوزين، إلا من حفظه الله من ذلك"9.
أسباب الكِبْر:
يرى الإمام الخميني أنَّ للكِبْر أسباباً ومناشئ عديدةً، ولكن: "ترجع كلّها إلى سببٍ
أساسٍ واحد، وهو توهُّم الكمال في النَّفس، ما يبعث على العُجب الممزوج بحبِّ
الذَّات، فيحجب (عن الإنسان) كمال الآخرين ويراهم أدنى منه، ويترفَّعُ عليهم
قلبيَّاً أو ظاهريَّاً"10.
وهناك عوامل وأسباب أخرى بالإضافة إلى هذا السبب، منها:
1. الجهل: إنّ جهل الإنسان بحاله وعدم إدراكه لوضاعته ونقصه واحتياجه، وغفلته عن
حقيقة خلقته، وتناسيه أنّ أصلَه نطفةٌ من مني، وأنّه في طريقه ليكون جيفةً نتنةً،
وتغافله عن مثواه الأخير، والعاقبة التي بانتظاره في يوم من الأيام التي لا مفرَّ
منها ولا مهربَ، هذا الجهل بحقيقة النَّفس وما ستؤول إليه، هو من الأسباب المهمَّةِ
الدَّاعية لتكبّر الإنسان وتعاليه على الآخرين.
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال: "عجبت للمتكبّر الفخور، كان أمس نطفة
وهو غداً جيفة!"11.
2. العُجب: إذا توهّم الإنسان أو رأى في نفسه صفةَ كمالٍ ما، فاستحسنها، وانتابته
حالةٌ من السّرور والفرح والاعتداد بالنَّفس حتَّى صار معجباً ومفتوناً بما توهّمه
أو رآه، فغدا لا يرى أيّ قيمةٍ لأعمال الآخرين، بل يجدها دائماً ناقصةً ولا ترقى
لمستوى أعماله وإنجازاته، فيحتقرها ويزدريها ويبخِّس من قيمتها ما استطاع إليه
سبيلاً، وفي المقابل يجدُ نفسه أهمّ من الآخرين وأعظم، فيقع في شراك التكبّر
المهلكة.
3. الحِقد: الحقود لا يمكن أن تطاوعه نفسه للتواضع أمام الآخرين، خصوصاً إذا ما
امتزج هذا الحقد بالغضب والعصبية، ففي هذه الحالة سوف يجد التكبّر أرضاً صالحة لغرس
بذوره السيّئة والمفسدة في النَّفس.
4. الحسد: هو أيضاً من العوامل الرئيسة المسبّبة للتكّبر والترفّع على الآخرين.
فالحسد يوجب البغض للمحسود، وإن لم يكن من جهته إيذاء وسبب يقتضي الغضب والحقد،
ويدعو أيضاً إلى الجحود بالحقّ، حتَّى أنّه يمنع من قبول النصيحة وتعلّم العلم. فكم
من جاهل بقي في رذيلة الجهل لاستنكاف نفسه من أن يستفيد من أحد علماء بلدته أو
أقاربه حسداً وبغياً عليه! فهو يُعرض عنه ويتكبّر عليه مع معرفته بأنّه يستحقّ أن
يُتواضع له بفضل علمه، ولكنّ الحسد يبعثه على أن يعامله بأخلاق المتكبّرين وشمائلهم.
مفاسد الكِبْر:
رذيلة الكِبْر صفةٌ قبيحة، وهي بحدّ ذاتها أحد الأمراض القلبية المهلكة، والتي
يتولّد منها مفاسدُ وآثارٌ أخرى، ومن هذه الآثار القبيحة:
1. التعرّض للمقت الإلهي: فالكِبْر يمنع الإنسان من الوصول إلى كمالاته الظاهرية
والباطنية، والحظوظ الدنيوية والأخروية؛ لأنّ المتكبّر يمقته اللهُ ويذلّه، ففي
الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "يا هشام، إيّاك والكِبْر على أوليائي،
والاستطالة بعلمك؛ فيمقتك الله، فلا تنفعك بعد مقته دنياك ولا آخرتك"12.
2. يولِّد في النُّفوس الحقد والعداوة: لأنَّ المتكبر لا يحبّ أن يرى أحداً أفضل
منه، وهي صفةٌ تحطّ من قدر الإنسان في أعين الآخرين، وتحمل الناس على أن يعاملوه
بالمثل، روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما من عبدٍ إلا وفي رأسه حكمة ومَلَكٌ
يمسكها، فإذا تكبّر قال له: اتّضع، وضعك الله. فلا يزال أعظم الناس في نفسه، وأصغر
الناس في أعين الناس، وإذا تواضع رفعها الله عزّ وجلّ، ثم قال: انتعش، نعشك الله.
فلا يزال أصغر الناس في نفسه، وأرفع الناس في أعين الناس"13.
3. يمنع الإنسان من قبول الحق: كما قال تعالى:
﴿وَجَحَدُوا بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾14.
4. يدفع الإنسان إلى احتقار الناس وانتقاصهم: قال تعالى عن استعلاء فرعون وقومه على
موسى عليه السلام وبني إسرائيل:
﴿ُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ
بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا
وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا
وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾15.
5. الحرمان من العلم والمعرفة: الإنسان المتكبّر يحرم نفسه من العلم والمعرفة،
ويعيش حالة الجهل المركب دائماً؛ لأن المتكبّر غير مستعدٍ لتحصيل العلوم والمعارف
من الأشخاص الذين يراهم دونه أو في مرتبته، في وصيّة الإمام الكاظم عليه السلام
لهشام بن الحكم، يقول عليه السلام: "إنّ الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا،
فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع، ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار؛ لأنّ الله
جعل التواضع آلة العقل، وجعل التكبّر من آلة الجهل"16.
6. مصدر لكثيرٍ من الذنوب: لو تأمّلنا في حالات الأشخاص الذين يعيشون الحسد،
والحِرص، وبذاءة اللسان، والذنوب الأخرى، لرأينا أنّ الداعي لارتكاب جميع الذنوب
منشؤه في الأصل هو التكبّر. فهؤلاء لا يجدون في أنفسهم رغبةً لرؤية من هو أفضل منهم،
ولذا فإنّ أي نعمة وموهبة تكون من نصيب الآخرين سوف يتعاملون معهم من موقع الحسد،
روي عن الإمام علي عليه السلام: "الحِرص والكِبْر والحسد دواعٍ إلى التقحُّم في
الذنوب"17.
7. دخول النّار: توعّد الله سبحانه وتعالى صاحب الكِبْر بالعذاب والنّار، فكان
الكِبْر سبيلاً وباباً لدخول للعذاب الأليم. قال الإمام الباقر عليه السلام: "العزّ
رداء الله، والكِبْر إزاره، فمن تناول شيئاً منه أكبّه الله في جهنم"18، وعنه عليه
السلام: "الكِبْر مطايا النّار"19.
8. الخروج من رحمة الله: إنّ الكِبْر من أخلاق الشّياطين المميّزة، وهذه الصفة كانت
أوّل معصية عصي الله بها، فأدّت إلى طرد الشيطان من حضرة الله، وهو يريد أن يوقع
الناس في مثل هذه الرَّذيلة. فالشيطان لم يتكبّر على الباري (عزّ وجّل)، بل على آدم
عليه السلام، وهو من مخلوقات الحقّ حيث قال:
﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ
خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾20.
وكانت النتيجة أن أصبح إبليس
مطروداً من ساحة الرحمة الإلهية، كما أخبر عزّ وجلّ:
﴿قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما
يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرينَ﴾21.
علاج الكِبْر:
الكِبْر في حقيقته هو تضخيم للذات وتقليل وتحقير لذوات الآخرين. وهذه الحالة
المرضية قد تتعاظم لتصبح مرضاً خطيراً جداً، كجنون العظمة الذي عاشه فرعون والنمرود
وغيرهما من طواغيت الماضي وبقيّة طواغيت الحاضر. ولهذا حاربت الأديان السماوية
كلّها هذه الحالة المرضية، ودعت إلى أخلاقيات مضادة لها، مثل التواضع الذي من شأنه
أن يعالج هذه الاضطرابات الفكرية والسلوكية. فالكِبْر سلوك مُكتَسَب، وهو لا يولد
مع الإنسان، وعلاجه ممكن من خلال مراعاة الأمور الآتية:
1. تشخيص المرض:
إنّ لمعرفة وجود الكِبْر في النَّفس، ومعرفة درجته دور أساس في معالجة هذه الآفة،
بالإضافة إلى تحديد مدى تجذّرها في الباطن؛ فإنه يساهم مساهمةً كبيرةً في تحديد
العلاج المناسب لطبيعة الحالة. وتلعب المعرفة النظرية المسبقة بهذا المرض دوراً
فعالاً في اكتشافه وتشخيصه المبكر، وذلك من خلال القراءة المسبقة حول هذه المرض،
والتفكُّر الدَّائم بآثاره المدمّرة على الصّعيدين الفردي والاجتماعي، أو من خلال
الاستماع إلى موعظة حسنة تحيي القلب وتفتِّح الروح، يقول تعالى:
﴿فَذَكِّرْ إِن
نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾22.
2. القرار والمراقبة:
بعد تشخيص المرض، لا بدّ من أخذ القرار بمباشرة العلاج، ويساعدنا على ذلك سماع رأي
الآخرين فينا، وتقبّل توجيهاتهم وانتقاداتهم لنا. ولا بدّ من المراقبة الذاتية
للنفس؛ لمعرفة مدى التزامها بالقرار الذي اتخذته بعدم التكبّر على عباد الله. ولا
مانع من الاستعانة بأشخاصٍ نثق بهم، خصوصاً في بداية الطريق؛ لأن تقييمنا لأنفسنا -
في الأغلب - سيكون متحيِّزاً أو غير موضوعي.
3. التنفيذ:
وهي المرحلة الأهم، بل هي نتيجة التّشخيص والقرار، وهناك أساليب متعدِّدة، منها:
أولاً: الرصد اليومي: لمظاهر الكِبْر، وإحصاء حالات التكبّر ومواردها في اليوم،
ونوعيّة التكبّر وكيفيّته. فعلى من تكبّرت؟ على فقيرٍ؟ على عالمٍ؟ على عاجزٍ؟...
وبأيّ كيفية؟ بالعبوس؟ بالمشاجرة؟...
ثانياً: وضع نظام للتأديب: بمعنى أن يلجأ الإنسان - في محاسبة النَّفس ومعاقبتها -
إلى الطرق الشرعية، في حال تبيّن له أنها خالفت ما تعهّدت به وأقرّته على نفسها
بعدم التكبّر والتعالي على الآخرين. ومن طرق المحاسبة: التصدّق، الصوم، القيام
بالأسحار، وغيرها من العبادات التي يمكن أن تتثاقل منها النَّفس.
4. اللجوء إلى الله تعالى:
اللجوء إلى الله بالدعاء والتضرّع كي يخلّصنا وينجّينا من هذه الآفة المهلكة
والهدّامة، والتي تعتبر أهمّ مانعٍ وقاطعٍ لطريق التكامل والرقيّ الإنساني.
وقد ذكر علماء الأخلاق علاجاتٍ متعدِّدة لهذه الصفة، منها ما ذكره الفيض
الكاشاني(رضوان الله عليه) في المحجّة البيضاء، ومنها ما ذكره الشيخ النراقي (رضوان
الله عليه) في جامع السّعادات، وما ذكره الإمام الخميني قدس سره في الأربعون حديثاً،
وغيرهم ممّا ذكره العلماء في كتبهم القيّمة.
5. الاقتداء بتواضع رسول الله صلى الله عليه واله:
ورد في سيرة رسول الله صلى الله عليه واله - كما جاء في الروايات " أنَّه كان:
"... يعلف الناضح، ويعقل البعير، ويقمّ البيت، ويحلب الشاة، ويخصف النعل، ويرقع الثوب،
ويأكل مع خادمه، ويطحن عنه إذا أعيى، ويشتري الشيء من السوق، ولا يمنعه الحياء أن
يعلِّقه بيده أو يجعله في طرف ثوبه، وينقلب إلى أهله، يصافح الغني والفقير، والصغير
والكبير، ويسلّم مبتدئاً على كل من استقبله من صغير أو كبير، أو أسود أو أحمر، حرّ
أو عبد، من أهل الصلاة، ليست له حلّة لمدخله وحلّة لمخرجه، لا يستحي من أن يجيب إذا
دعي، وإن كان أشعث أغبر، ولا يحقّر ما دعي إليه، وإن كان لا يجد إلا حشف الدقل23،
لا يرفع غداء لعشاء ولا عشاء لغداء، هيّن المقولة، ليّن الخُلقة، كريم الطبيعة،
جميل المعاشرة، طلق الوجه، بسّاماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوس، شديداً في غير
عنف متواضعاً في غير مذلَّة، جواداً من غير سرف، رحيماً لكلّ ذي قربى، قريباً من كل
ذمّي ومسلم، رقيق القلب..."24.
1 - أصول الكافي، ج2، ص289.
2 - أصول الكافي، ج2، ص130-131.
3 - ص، 75.
4- البقرة، 34.
5- القصص، 38.
6- أي الموجودات دون الله تعالى، سواء أكانت الملائكة، أم الجن، أم الإنس، وهي التي
تحتاج في وجودها إلى واجب الوجود (أي الله تعالى).
7 - الأربعون حديثاً، ص104.
8 - الأربعون حديثاً، ص104- 105.
9 - الأربعون حديثاً، ص104ـ 105.
10 - الأربعون حديثاً، ص104ـ 105.
11 - بحار الأنوار، ج7، ص42.
12 - بحار الأنوار، ج75، ص311.
13 - بحار الأنوار، ج70، ص224.
14 - النمل، 14.
15 - المؤمنون، 45-46-47.
16 - بحار الأنوار، ج1، ص153.
17 - نهج البلاغة، الحكمة371.
18- أصول الكافي، ج2، ص309.
19 - وسائل الشيعة، ج15، ص377.
20 - الأعراف، 12.
21- الأعراف، 13.
22- الأعلى، 9.
23 - حشف الدقل: اليابس الفاسد البالي، والدقل:أردء التمر.
24- بحار الأنوار،ج70، ص208.