سلمان الفارسي
قصص الصالحين
كان الوقت ضحى، وقد جلس بعض المسلمين في مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ينتظرون أذان الصلاة ليؤدوا فريضة الظهر. دخل " سلمان " المسجد وسلّم على إخوانه من المؤمنين.
عدد الزوار: 345
كان الوقت ضحى، وقد جلس بعض المسلمين في مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ينتظرون
أذان الصلاة ليؤدوا فريضة الظهر.
دخل " سلمان " المسجد وسلّم على إخوانه من المؤمنين.
أرادوا أن يعرفوا نسب هذا الرجل الفارسي، فتحدّثوا مع بعضهم البعض بصوت يسمعه "سلمان".
قال أحدهم أنا من قبيلة تميم.
وقال آخر أنا من قريش.
وقال ثالث: أما أنا فمن الأوس.. وهكذا.
ظلّ سلمان ساكتاً، فأرادوا يعرفوا نسبه، فقالوا:
ـ وأنت يا سلمان، ما هو نسبك وحسبك؟
أجاب ليعلمهم معنى الإيمان:
أنا ابن الإسلام..
كنتُ ضالاً فهداني الله بمحمّد.
وكنت فقيراً فأغناني الله بمحمّد.
وكنت مملوكاً فاعتقني الله بمحمّد.
فهذا حسبي ونسبي.
سكت الرجال وقد تعلّموا درساً من دروس الإيمان والإسلام.
من هو سلمان؟
ولكن حقّاً، من هو سلمان الفارسي؟ وما هي قصة إيمانه بالإسلام؟
كان اسمه "روزبه" أي "سعيد". ولد في قرية من قرى مدينة اصفهان.
كان أبوه رئيس القرية وكان رجلاً ثريّاً، وفي ذلك الوقت كان أهل فارس يعبدون النار
لأنّها رمز النور.
فالنار مقدسة عندهم، لهذا كانت عندهم معابد توقد فيها النار لتبقى مشتعلة دائماً،
وهناك رجال مقدّسون يتولّون المحافظة على اشتعالها ليل نهار.
عندما كبر "روزبه" وأصبح فتى أراد أبوه أن يكون له شأن، فعهد إليه أن يتولّى المعبد
ويحافظ على اشتعال النار.
فكّر روزبه في شأن النار، فأبى ذهنه المتوقد أن تكون النار إلهاً: لأن الإنسان هو
الذي يتولّى رعايتها حتى لا تنطفئ.
وذات يوم خرج الفتى يتجوّل في المروج البعيدة.
شاهد من بعيد بناءً جميلاً فقصده، وكان البناء كنيسة بناها الرهبان لعبادة الله.
وكانت النصرانية في ذلك الزمان هي دين الله الحقّ.
تحدّث الفتى مع الرهبان، ودخل قلبه حبّ الدين الإلهي، فسأل عنه، فقالوا: أصله من
بلاد الشام.
الهجرة
قرّر روزبه الهجرة الى الشام فانتظر عودة إحدى القوافل.
وافق تجّار القافلة اصطحابه الى بلادهم. وعندما وصلها راح يبحث عن دين الله فدلّوه
على كنيسة كبيرة.
حلّ الفتى ضيفاً على الأسقف وعاش معه يتعلّم منه أصول الدين ومكارم الأخلاق وتعاليم
الإنجيل.
وبعد مدّة مات الأسقف، فهاجر روزبه الى مدينة الموصل وعاش في إحدى كنائسها، ثم
انتقل الى مدينة اُخرى هي "نصيبين" ثم الى مدينة "عمّورية".
وفي عمّورية عاش روزبه فترة من الزمن، وكان أسقفها رجلاً صالحاً، فقال لروزبه قبل
أن يموت:
ـ انّ الله سيبعث نبياً في هذا الزمان يأتي بدين إبراهيم الخليل، وانّه سيهاجر إلى
أرض فيها نخيل كثير.
سأل روزبه:
ـ وما هي علاماته؟
ـ من علاماته انّه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوّة.
مات الأسقف الطيب و بقي روزبه وحيداً.
فكّر أن يهاجر إلى جزيرة العرب.
وذات يوم مرّت قافلة تريد العودة إلى الحجاز، فعرض عليهم كلّ ما يملك لقاء السفر
معهم إلى مكّة.
ولكن التّجار لم يكتفوا بما أخذوه من أموال فصادروا حرّيته وباعوه إلى أحد اليهود
كرقيق.
تألّم روزبه لهذا الغدر ولكنه صبر، وراح يعمل باخلاص في بستان الرجل اليهودي.
وتمرّ الأيام، وذات صباح جاء من يهود بني قريظة لزيارة ابن عمه، فرأى روزبه
وانهماكه في العمل فقال لابن عمه:
ـ ارجو أن تبيعني هذا العبد.
فرح "روزبه" لأن بني قريظة يسكنون في مدينة يثرب المليئة بأشجار النخيل، وهي
المدينة التي قال أسقف "عمّورية" أن النبي الموعود سيهاجر اليها.
كان روزبه يعدّ الأيام مترقّباً ظهور النبي.
وذات يوم و بينما كان يعمل في البستان سمع سيّده يتحدّث إلى أحد أصدقائه:
ـ لقد وصل محمّد منطقة "قبا" وقد استقبله بعض أهل يثرب هناك.
وشعر "روزبه" بالفرحة فقد حانت اللحظة التي كان ينتظرها منذ أعوام طويلة.
انتظر إلى المساء، وعندما حلّ الظلام تسلل "روزبه" بعد أن أخذ معه كمية من التمر.
كانت المسافة بين "يثرب" و "قبا" تبلغ ميلين قطعهما "روزبه" بسرعة. وعندما وصل إلى
"قبا" دخل على سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) وقال:
ـ سمعت بأنّك رجل صالح ومعك أصحاب غرباء فأحضرت لكم هذا التمر صدقة.
وزّع سيّدنا محمّد التمر على أصحابه ولم يأكل منه.
قال روزبه في نفسه:
ـ هذه العلامة الاُولى.
وفي اليوم التالي جاء مرّة اُخرى ومعه كمية اُخرى من التمر أيضاً وقال لسيّدنا
محمّد:
ـ هذه هدية.
تناول النبيّ التمر شاكراً ووزّعه على أصحابه وأكل منه.
فقال روزبه في نفسه:
ـ وهذه العلامة الثانية.
هكذا تأكّد "روزبه" ان هذا هو النبي الموعود فعانقه وأعلن إسلامه فسمّاه سيّدنا
محمّد (صلى الله عليه وآله) "سلمان".
الحرية
جاء الإسلام ليحرّر البشر من عبادة غير الله عزّ وجلّ، فلقد وهب الله الإنسان نعمة
الحرّية، لهذا قال سيّدنا محمّد لأصحابه:
ـ أعينوا أخاكم سلمان على فكاك رقبته.
كان الرجل اليهودي قد اشترط على سلمان أن يغرس له ثلاثمائة نخلة.
جمع له إخوانه فسائل النخل، وقام سيدنا محمد بغرسها فعاشت جميعاً.
وهكذا أنعم الله على سلمان بنعمة الحرية فعاش سعيداً مع سيدنا محمّد (صلى الله عليه
وآله).
الدفاع عن المدينة
في شهر رمضان من العام الخامس للهجرة سمع المسلمون عن نيّة المشركين بغزو المدينة.
كان اليهود يخططون لذلك، فقاموا بتحريض قريش والقبائل العربية على غزو المدينة
والقضاء على الإسلام.
تمكّن اليهود من تحشيد عشرة آلاف مقاتل وأنفقوا من أجل ذلك مبالغ طائلة.
كان سيّدنا محمّد يستشير أصحابه في مواجهة المشاكل التي تعترض المسلمين.
اجتمع المسلمون في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) للتشاور.
كان الغزو الجديد يحمل أخطاراً كبيرة، فالمسلمون لا يملكون العدد الكافي لمواجهة
الأعداء، والقوّات الإسلامية لا تتجاوز الألف مقاتل فقط، بينما الغزاة عشرة آلاف
مسلّحين بأفضل أنواع السلاح.
حار المسلمون في أمرهم وشعر البعض بالخوف. وكان المنافقون يخوّفون الناس ويبثّون
الشائعات.
وبينما كان المسلمون يتبادلون الآراء لمواجهة الخطر القادم، نهض سلمان فقال: ـ يا
رسول الله كنّا في أرض فارس إذا غزانا العدوّ حفرنا الخنادق.
وكانت فكرة سلمان مفاجأة للجميع.
استبشر النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمون جميعاً.
الخندق
كانت نقطة الضعف في شمال المدينة رأى سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) أن يكون
طول الخندق خمسة آلاف متر تقريباً، وبعرض تسعة أمتار، أما عمقه فيكون سبعة أمتار.
وفي اليوم التالي خرج المسلمون وهم يحملون أدوات الحفر. ولكي تكون عملية الحفر
منظّمة ودقيقة أمر سيّدنا محمّد أن يشترك كل عشرة مقاتلين بحفر أربعين متراً من
الخندق.
كان الفصل شتاءً والرياح باردة جدّاً والمسلمون صائمون، ومع كل ذلك كانوا يعملون
بحماس ولا يصغون الى الشائعات التي يبثّها اليهود والمنافقون.
وكان سيّدنا محمّد يعمل بنشاط و يبثّ روح العزيمة في نفوس أصحابه وينشد شعراً
حماسياً لأحد أصحابه وهو عبد الله بن رواحة.
اللّهم لولا أنت ما اهتدينا.
ولا تصدقنا ولا صلّينا.
فأنزِلن سكينةً علينا.
وثبِّت القلوب إن لاقينا.
الصخرة
كان سلمان يعمل مع اخوانه من المهاجرين والأنصار. وذات يوم اعترضت عملهم صخرة بيضاء
قاسية.
حاول سلمان تحطيمها بمعوله فلم يستطع.
حاول أصحابه ولكنّهم عجزوا أيضاً، وكانوا كلّما ضربوها تطاير منها الشرر.
فاستشار المسلمون سلمان في ذلك.
ذهب سلمان ليخبر سيّدنا بقصة الصخرة وان يسمح لهم في تغيير اتجاه الحفر.
جاء النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى منطقة الحفر وأخذ المعول من سلمان ونزل في
الخندق، وطلب منهم أن يحضروا بعض الماء.
صبّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) الماء فوق الصخرة، وأمسك بالمعول وهتف، بسم الله،
وضرب الصخرة فانشق ثلثها.
هتف النبيّ (صلى الله عليه وآله):
ـ الله اكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها.
و ضرب النبيّ (صلى الله عليه وآله) الصخرة مرّة ثانية فقطع ثلثاً آخر وهتف:
ـ الله أكبر أُعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن.
وضرب مرّة ثالثة فقطع ما تبقّى من الصخرة فقال:
ـ الله أكبر اُعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء.
فرح المسلمون واستبشروا بنصر الله.
أما المنافقون فقد راحوا يسخرون ويقولون للمؤمنين:
ـ كيف تصدّقون بفتح بلاد فارس والروم واليمن وأنتم تحفرون الخندق في يثرب؟
ولكن المؤمنين لم يكونوا يشكّون بنصر الله لأن الله ينصر عباده المخلصين.
استمر المسلمون في حفر الخندق ليل نهار مدّة شهر كامل.
وخلال تلك الفترة كان المسلمون يقومون بعمل آخر وهو نقل المحاصيل الزراعية إلى داخل
المدينة، لكي تساعدهم على تحمّل مدّة الحصار، وحتى لا يستفيد منها العدوّ.
الحصار
وصلت جيوش "الأحزاب" بقيادة أبي سفيان. وعندما رأى المشركون الخندق تعجّبوا وقالوا:
ـ ان العرب لا يعرفون هذه المكيدة.
و عرفوا انّها فكرة سلمان الفارسي.
فرض المشركون الحصار على المدينة.. وكان أبو سفيان يبحث عن ثغرة في الخندق يمكن
اقتحام الخندق منها ولكن لا فائدة.
وخلال مدّة الحصار تبادل المسلمون والمشركون إطلاق السهام.
وذات يوم تمكّن فرسان المشركين من اقتحام الخندق والعبور إلى جبهة المسلمين.
أمر سيدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) بقطع الطريق على المقتحمين، ونهض علي بن أبي
طالب (عليه السَّلام) لقتال قائدهم "عمرو بن عبد ودّ" وكان من أبطال المشركين.
وعندما توجّه الإمام علي لقتال عدوّ الإسلام دعا سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله)
له بالنصر وقال:
ـ اليوم برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه.
و انتصر فتى الإسلام على عدوّه، وصاح المسلمون:
ـ الله أكبر.. الله أكبر.
وفرّ المشركون باتجاه الخندق فطاردهم فرسان الإسلام وقتلوا بعضهم.
الانتصار
فشل المشركون في عبور الخندق وطالت مدّة الحصار ونصر الله رسوله والمؤمنين، فكانت
العواصف العاتية تهبّ على جيوش الأحزاب فتقلع وتدخل في قلوبهم الخوف.
وذات ليلة وبعد أن ملّ المشركون الحصار قرّر أبو سفيان الإنسحاب.
وفي الصباح أرسل سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله) حذيفة ليستطلع له جبهة العدوّ.
أخبر حذيفة رسول الله بهزيمة جيوش الأعداء.
عمّت الفرحة جيش الإسلام وشكروا الله على أن نصرهم على أعداء الدين والإنسانية.
وعاد المسلمون إلى منازلهم فرحين بعد حصار بلغ شهراً كاملاً.
في مسجد النبي
اجتمع المؤمنون في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) يشكرون الله سبحانه وكانوا
ينظرون بحبّ واحترام إلى الصحابي الجليل سلمان الذي أنقذ بخطّته المدينة المنوّرة
والإسلام من الغزاة.
لهذا قال الأنصار من أهل المدينة:
ـ سلمان منّا.
وصاح المهاجرون:
ـ سلمان منّا.
ونظر المسلمون إلى سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) ما يقول في سلمان.
قال النبيّ بحبّ:
ـ سلمان منّا أهل البيت..
ثم قال (صلى الله عليه وآله):
ـ لا تقولوا سلمان الفارسي ولكن قولوا سلمان المحمّدي.
ومنذ ذلك اليوم والمسلمون ينظرون إلى سلمان باحترام وإجلال.
الجهاد
لم يفارق سلمان سيدنا محمّداً (صلى الله عليه وآله) في الجهاد والدفاع عن رسالة
الإسلام، فاشترك في جميع المعارك الإسلامية، مع اليهود في "بني قريظة" و"خيبر" وكان
في طليعة الذين بايعوا رسول الله تحت "الشجرة" والتي تدعى "بيعة الرضوان" وفي فتح
مكّة ومعركة "حنين" ورافق النبي (صلى الله عليه وآله) في مسيرته إلى "تبوك".
كان سلمان صادق الإيمان مخلصاً في جهاده، حتى سمع المسلمون سيّدنا محمّداً (صلى
الله عليه وآله) يقول:
ـ إنّ الجنّة تشتاق إلى ثلاثة: عليّ وعمّار وسلمان.
ذات يوم كان سلمان يتحدّث الى أخويه بلال الحبشي وصهيب الرومي. كان منظرهم جميلاً
فهم من ثلاثة بلدان مختلفة جمعهم الإسلام فأصبحوا إخواناً.
وفي الأثناء مرّ أبو سفيان فنظر إليهم باستعلاء، فهو ما يزال يفكّر بطريقة أهل
الجاهلية، فالعرب في رأيه أفضل من سائر الأقوام والشعوب.
أما سيدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) فيقول:
ـ لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى.
أراد سلمان وبلال وصهيب أن يلقّنوه درساً ويذكروه بسماحة الإسلام فقالوا:
ـ ما أخذت السيوف من عدوّ الله؟
سمع أبو بكر ذلك فقال لهم منزعجاً:
ـ أتقولون هذا لشيخ قريش وزعيمها؟
ذهب أبو بكر ليخبر سيّدنا محمّداً (صلى الله عليه وآله) بما قالوه.
ولكن سيّدنا محمّد قال له:
ـ هل أغضبتهم يا أبا بكر؟ إن أغضبتهم أغضبت الله.
ندم أبو بكر على ما قاله لهم وعاد إليهم مسرعاً وقال:
ـ يا اخوتي لعلّي أغضبتكم.
أجابوا بتسامح الإسلام:
ـ لا يا أبا بكر يغفر الله لك.
وفاة النبي
في يوم الاثنين 28 صفر، انتقل سيّدنا محمّد الى الرفيق الأعلى وحزن المسلمون وبكى
سلمان.
كان سلمان يحبّ سيدنا محمّداً (صلى الله عليه وآله) كثيراً وكان يقتدي بسيرته ويسير
في طريقه ويحفظ كلّ ما يسمعه منه.
لهذا كان سلمان يحبّ عليّاً لأن الله و يحبّه ورسوله، وقد سمع أكثر من مرّة النبيّ
(صلى الله عليه وآله) يقول:
ـ عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ.
ـ أنت مني بمنزلة هارون من موسى ولكن لا نبيّ بعدي.
ـ من كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من
نصره واخذل من خذله.
كان سلمان قد سمع هذه الأحاديث وغيرها، ولهذا فهو يعتقد بإمامة علي وانّه خليفة
سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) بعده.
البيعة
بويع أبو بكر بالخلافة في سقيفة "بني ساعدة" وكان الإمام علي مشغولاً بتجهيز النبي
(صلى الله عليه وآله).
فوجئ الكثير من الصحابة بهذه البيعة واعترضوا عليها، لأن الخليفة الحقّ في رأيهم هو
عليّ (عليه السَّلام).
لهذا امتنع سلمان وأبو ذر والمقداد وعمّار بن ياسر وعبد الله بن عباس والزبير بن
العوام وقيس بن سعد واسامة بن زيد وأبو أيوب الأنصاري وعبد الله بن مسعود وغيرهم من
الصحابة.
وظلّ الإمام علي على موقفه من البيعة إلى أن توفيت زوجته فاطمة الزهراء بنت سيّدنا
محمّد (صلى الله عليه وآله).
بايع الإمام (عليه السَّلام) أبا بكر من أجل الإسلام، وكان سلمان ينتظر، فقال له
الإمام:
ـ بايع يا أبا عبد الله.
كان سلمان مطيعاً لله مطيعاً لرسول الله مطيعاً للإمام، فبايع.
كان علي (عليه السَّلام) يحبّ سلماناً ويقول عنه:
ـ سلمان امرؤ منّا أهل البيت.
ـ من لكم بمثل لقمان الحكيم.
ـ قرأ الكتاب الأوّل والكتاب الآخر أي الإنجيل والقرآن الكريم.
المدائن
شارك سلمان في معارك الفتح الإسلامي في بلاد فارس وكان يتقدّم المقاتلين بشجاعة
نادرة.
وكان إلى جانب قائد الحملة على المدائن سعد بن أبي وقاص فعبر النهر بجواده.
قام بدور الترجمة بين المسلمين وأهل فارس، فاستسلمت مدينة "إيوان" بدون إراقة
الدماء.
عيّنه الخليفة عمر بن الخطاب والياً على المدائن فكان مثالاً للحاكم المسلم العادل.
كان المرتّب الذي يتقاضاه خمسة آلاف درهم ولكنه كان ينفقه جميعاً على الفقراء.
كانت حياته بسيطة فهو يشتري خوصاً بدرهم واحد فيصنع منه سلالاً يبيعها بثلاثة دراهم،
ينفق درهماً واحداً على عياله و يتصدّق بدرهم و يدّخر الدرهم الثالث ليشتري به "الخوص".
كانت ثيابه بسيطة، وكان المسافرون والغرباء عندما يرونه يحسبونه رجلاً من فقراء
المدائن.
وذات يوم كان سلمان يمشي في السوق رآه أحد المسافرين وكان معه أمتعة فأمره أن
يحملها.
تقدّم سلمان وحمل الأثقال وراح يمشي وراء الرجل.
كان الناس في الطريق ينحنون إجلالاً للأمير ويسلمون عليه باحترام.
تعجّب الرجل الغريب و سأل:
ـ من يكون هذا الرجل الفقير؟
فأجابوه:
ـ هذا سلمان الفارسي صاحب رسول الله وأمير المدائن.
اندهش الرجل وتقدّم من سلمان معتذراً وطلب منه أن ينزل الأثقال.
رفض سلمان ذلك وقال:
ـ حتى أوصلك.
تأثّر الرجل وأدرك ان سلمان من أولياء الله.
الكوفة
بعد فتح المدائن كان المسلمون يبحثون عن مكان مناسب للسكنى، فانطلق سلمان وحذيفة بن
اليمان للبحث عن أرض تلائم طبيعة المسلمين.
وقع اختيارهما على أرض الكوفة فصلّيا فيها ركعات، ومنذ ذلك التاريخ نشأت مدينة
الكوفة التي أصبحت عاصمة للدولة الإسلامية فيما بعد ومركزاً من مراكز العلم
والمعرفة.
الجهاد مرّة اُخرى
أصبح عثمان خليفة المسلمين ويأتي قرار بعزله عن الولاية.
فرح سلمان وانطلق الى المدينة ليزور ضريح سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) ويصلّي
في مسجده.
كان يحبّ حياة الجهاد دفاعاً عن دولة الإسلام فالتحق بصفوف المقاتلين في فتح مدينة
"بلنجرد" وهي من مدن الخزر (في تركيا) وكانت له مواقف مشهودة.
العودة
أصبح سلمان شيخاً طاعناً في السنّ.
و يشعر بدنو أجله وهو راقد في فراش المرض، ويأتي المسلمون لعيادته يدعون الله له
بالشفاء.
كانوا ينظرون بحبّ إلى رجل قضى حياته زاهداً يحبّ الله والناس.
وذات صباح طلب من زوجته أن تحضر له صرّة. كان سلمان يحتفظ بها مند سنوات.
تساءلت زوجته عنها، فقال سلمان:
ـ قال لي حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله): اذا جاءك الموت حضر أقوام يجدون
الطيب ولا يأكلون الطعام.
فتح الشيخ الصرّة ورشّها بالماء ففاحت روائح طيبة ملأت فضاء الحجرة.
طلب سلمان من زوجته ان تفتح الباب.
ومرّت لحظات نورانية وأغمض الشيخ عينيه ليرقد بسلام.
مرقده
في منطقة يقصدها السواح لمشاهدة آثار المدائن حيث يرتفع طاق كسرى، يجد الزائر مقاماً
كبيراً يدعى (سلمان باك)، يضمّ مرقد الصحابي الجليل سلمان المحمدي.. سلمان ابن
الإسلام البارّ.
ذلك الفتى الذي غادر أرض إيران وطاف المدن في تركيا والشام والعراق والحجاز ليموت
في المدائن بعد حياة طويلة قضاها في الجهاد والزهد والعبادة.
ولا ننسى أن نذكر أن أهل المدائن كانوا يدعونه سلمان باك. وباك كلمة فارسية تعني
الطاهر.
نعم كان سلمان طاهر القلب والروح، وكان امرءاً من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم
الرجس وطهّرهم تطهيراً.
* جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد - لبنان.
2015-02-10