أبو ذر الغفاري
قصص الصالحين
كانت قبيلة غفّار من قبائل العرب الوثنية، تسكن في المناطق القريبة من المدينة المنوّرة (يثرب)، حيث تمرّ قوافل مكّة التجارية. وأفراد قبيلة غفار يعبدون صنماً اسمه "مناة" و يعتقدون أن "مناة" بيده القضاء والقدر والحظ، ولذلك فإنّ أفراد القبيلة يذهبون إليه ويقدّمون له القرابين.
عدد الزوار: 462
كانت قبيلة غفّار من قبائل العرب الوثنية، تسكن في المناطق القريبة من المدينة
المنوّرة (يثرب)، حيث تمرّ قوافل مكّة التجارية.
وأفراد قبيلة غفار يعبدون صنماً اسمه "مناة" و يعتقدون أن "مناة" بيده القضاء
والقدر والحظ، ولذلك فإنّ أفراد القبيلة يذهبون إليه ويقدّمون له القرابين.
وذات يوم توجّه شاب من قبيلة "غفار" إلى مناة وكان فقيراً فقدّم إلى مناة "اللبن"،
وراح ينظر إليه ولكن مناة لم يحرّك ساكناً ولم يشرب اللبن فظلّ ينتظر. وفي الأثناء
مرّ ثعلب لم ينتبه إلى وجود "جندب" فشرب اللبن. ولم يكتف بذلك بل رفع قدمه وبال في
اُذن "مناة"، وظلّ مناة جامداً.
ضحك الشابّ ساخراً من "مناة" ومن نفسه لأنّه يعبد صخرة صمّاء لا تفهم ولا تعي شيئاً.
وفي طريق عودته الى القبيلة تذكّر "جندب" كلمات سمعها ذات يوم وهو يمشي في سوق "عكاظ"
في مدينة مكّة.. تذكّر كلمات "قيس بن ساعدة" وهو يهتف بها في السوق:
أيُّها الناس اسمعوا وعوا
إنّ من عاش مات
ومن مات فات
كلّ ماهو آتٍ آت
ليل داج
وسماء ذات ابراج.
مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟!
أرضوا بالمقام فأقاموا؟
أم تركوا هناك فناموا؟!
نظر "جندب" إلى السماء الزرقاء الصافية، وإلى الصحراء الممتدة بتلالها ورمالها،
وتذكّر ما فعله الثعلب ب "مناة"، فآمن بأنّ لهذا العالم إلهاً كبيراً أكبر من مناة
ومن هبل ومن اللات ومن كلّ الأوثان.
ومنذ ذلك الوقت وجندب بن جنادة يتوجّه بقلبه إلى السماء والأرض.
طلوع الشمس
كان أهل الكتاب يبشّرون بظهور نبي جديد أطلّ زمانه، وكانت القبائل العربية تتناقل
هذه الأخبار. وكان الذين يسخرون من الأصنام والأوثان يتشوّقون لرؤية النبي الجديد.
وذات يوم مرّ رجل قادم من مكّة فقال لجندب:
ـ ان رجلاً في مكة يقول: لا إله إلاّ الله ويدّعى انّه نبي.
وسال جندب: من أي قبيلة هو؟
قال الرجل: من قريش.
فقال جندب: من أي قريش؟
أجاب الرجل: من نبي هاشم.
سأل جندب: وماذا فعلت قريش؟
قال الرجل: كذّبته وقالت انّه ساحر ومجنون.
انصرف الرجل، وظلّ "جندب" يفكّر ويفكّر.
أنيس
فكّر "جندب" أن يرسل أخاه أنيساً إلى مكّة ليأتيه بأخبار النبيّ الجديد، وانطلق
أنيس يقطع مئات الأميال الى مكّة، وسرعان ما عاد ليخبر أخاه:
ـ رأيت رجلاً يأمر بالخير وينهى عن الشرور ويدعو إلى عبادة الله وحده.
ورأيته يصلّي عند الكعبة وإلى جانبه فتى اسمه علي بن أبي طالب وهو ابن عمّه،
وخلفهما امرأة وهي زوجته خديجة.
وسأل جندب أخاه: وماذا رأيت بعد؟
أجاب أنيس: هذا ما رأيته ولم أجرؤ على الاقتراب منه خوفاً من زعماء قريش.
إلى مكّة
لم يقنع جندب بما سمعه، فانطلق نفسه إلى مكّة ليتعرّف على النبيّ.
مالت الشمس إلى المغيب عندما وصل الشاب الغفاري مكّة فطاف حول الكعبة، ثم جلس في
زاوية من الحرم ليستريح ويفكّر في طريقة يلتقي فيها النبي.
حلّ الظلام وأقفرت الكعبة من الناس، وفي الأثناء دخل فتىً ساحة المسجد الحرام وراح
يطوف حول الكعبة بخشوع، وانتبه الفتى إلى وجود الرجل الغريب فتقدّم إليه وسأله بأدب:
كأنّك غريب؟
أجاب الغفاري: نعم.
قال الفتى: انهض معي إلى المنزل.
وشكر جندب في نفسه الفتى وهو يتبعه إلى المنزل صامتاً.
وفي الصباح ودّع جندب الفتى وانطلق إلى بئر زمزم لعلّه يتعرّف على النبيّ.
ومرّت الساعات وجندب يترقّب وينتظر إلى أن حلّ الظلام.
اللقاء
مرّةً أُخرى جاء الفتى وطاف حول الكعبة كعادته ورأى الرجل الغريب في مكانه فقال له:
أما آن للغريب أن يعرف منزله؟
أجاب جندب: لا.
قال الفتى: انطلق معي الى المنزل.
نهض "جندب" مع الفتى إلى منزله، كان صامتاً أيضاً.
قال الفتى: أراك تفكّر، فما هي حاجتك؟
قال جندب بحذر: إذا كتمت عليّ أخبرتك.
قال الفتى: أكتم عليك إن شاء الله.
وارتاح جندب إلى ذكر الله فقال بصوت خافت: سمعت بظهور نبي في مكة فأردت أن ألقاه.
قال الفتى وهو يبتسم: لقد أرشدك الله.. سأدلّك على منزله فاتبعني من بعيد. فإن رأيتُ
أحداً أخافه عليك، وقفت كأنّي أصلحُ نعلي، فلا تقف وامض في طريقك.
ومضى الفتى إلى منزل سيّدنا محمّد وجندب يتبعه إلى أن وصلا.
الإيمان
ويدخل جندب منزل النبي ويلتقي سيّدنا
محمّد (صلى الله عليه وآله)، فاذا هو أمام إنسان يجسّد كلّ مكارم الأخلاق.
سأل سيّدُنا محمّد ضيفه: ممّن الرجل؟
أجاب جندب: من قبيلة غفار.
وسأل النبيّ: ما هي حاجتك؟
قال جندب: أعرض عليّ الإسلام.
قال النبيّ: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله.
وبعد؟
أن تنتهي عن الفحشاء والمنكر وتسلك مكارم الأخلاق، وتترك عبادة الأوثان إلى عبادة
الله وحده لا شريك له، وان لا تسرف ولا تظلم..
وامتلأ الشابّ إيماناً بالله ورسوله، فقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول
الله.. رضيت بالله ربّاً وبك نبيّاً.
وفي تلك اللحظة ولدت شخصية اُخرى هي شخصية الصحابي الكبير أبي ذر الغفاري جُندب بن
جنادة.
نهض أبو ذر وهتف بحماس: والذي بعثك لأصرخنّ بها.
وقبل أن يغادر المنزل سأل أبو ذر سيّدنا محمّداً: من هذا الفتى الذي دلّني عليك.
أجاب النبيّ باعتزاز: هو ابن عمّي عليّ.
وأوصاه سيّدنا محمّد قائلاً: يا أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلادك.
وأدرك أبو ذر أن رسول الله يخشى عليه انتقام قريش فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً
لأصرخن بها بينهم ولتفعل قريش ما تريد.
وفي الصباح انطلق أبو ذر إلى الكعبة بيت الله الحرام، كانت الأصنام جامدة في
أماكنها لا تتحرّك وأبو ذر يشقّ طريقه، وجبابرة قريش جالسون يفكّرون بأمر الدين
الجديد.
وفي تلك اللحظات دوّت صرخة جريئة: يا معشر قريش.. إني أشهد أن لا إله إلاّ الله
وأشهد أنّ محمداّ رسول الله.
واهتزت الأوثان وقلوب المشركين.
وصاح قرشي: من هذا الذي يسبّ آلهتنا.
وركضوا نحوه وانهالوا عليه ضرباً حتى فقد وعيه والدماء تنزف منه.
وتدخّل العباس عمّ سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) وأنقذه قائلاً: ويلكم يا معشر
قريش تقتلون رجلاً من "غفار"! وطريق قوافلكم على قبيلته.
وأفاق أبو ذر وذهب إلى "زمزم" فشرب من مائها وغسل من جسمه الدماء.
ومرّة اُخرى أراد أبو ذر أن يتحدّى قريش بإيمانه، فانطلق نحو الكعبة ودوّت صرخته:
أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمّداً رسول الله.
وهجموا عليه مثل الذئاب وراحوا يكيلون له الضربات.
وسقط على الأرض فاقداً وعيه، وأنقذه العباس أيضاً.
العودة
ذهب أبو ذر إلى سيّدنا محمّد (صلى
الله عليه وآله).
وتألم النبي لمنظره فقال له بإشفاق:
ـ ارجع إلى قومك وادُعهم إلى الإسلام.
قال أبو ذر:
ـ سأذهب يا رسول الله إلى قومي وسأدعوهم إلى الإسلام ولن أنسى ما فعلته قريش بي.
وعاد أبو ذر إلى قبيلته وراح يدعوهم إلى نور الإسلام. فأسلم أخوه أنيس وأسلمت اُمّه
وأسلمت نصف قبيلته. أما النصف الآخر فقالوا: حتى يأتي النبيّ.
الهجرة
وتمرّ الأيام والشهور والأعوام..
ويهاجر سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) من مكّة إلى المدينة، وتصل الأخبار إلى
أبي ذر. فخرج مع قبيلته إلى استقباله في الطريق.
ولاح سيّدنا محمّد من بعيد على ناقته "القصواء" فأسرع أبو ذر إليه وأخذ بزمام
الناقة وقال مبشّراً:
ـ يا رسول الله أسلم أخي وأسلمت اُمي وأسلم الكثيرون من قبيلتي.
وفرح سيّدنا محمّد وهو يشاهد جموع المستقبلين.
قال احدهم:
ـ يا رسول الله إن أبا ذر علّمنا ما علمته فأسلمنا و هدنا انّك رسول الله.
وأسلم الباقون من قبيلة "غفار" ثم جاءت قبيلة اُخرى مجاورة اسمها "أسلم" فأسلمت
وأعلنت أن لا إله إلاّ الله وأن محمّداً رسول الله.
فقال سيّدنا محمّد متأثراً:
ـ "غفار" غفر الله لها، و"أسلم" سالمها الله.
ومضى رسول الله إلى مدينة "يثرب" ورافقه أبو ذر مسافة من الطريق.
وعندما عاد أبو ذر إلى قبيلته سأله بعضهم:
ـ هل حدّثك رسول الله بشيء؟
فقال أبو ذر:
ـ نعم أمرني بسبع:
أمرني بحبّ المساكين والدنو منهم.
وأمرني أن أنظر من هو دوني ولا أنظر من هو فوقي.
وأمرني أن أصل الرحم و إن أدبرت.
وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً.
وأمرني أن أقول الحق ولو كان مرّاً.
وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم.
وأمرني أن أكثر من قول "لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم".
فانّهنّ كنز تحت العرش.
وظلّ أبو ذر في قبيلته يرشدهم و يعلّمهم، وكان مثال المسلم المؤمن.
أوصني يا رسول الله
ذات يوم دخل أبو ذر المسجد فوجد
سيّدنا محمّداً وحده، فجلس قربه.
قال سيّدنا محمّد:
ـ يا أبا ذر إن للمسجد تحية وهي ركعتان.
نهض أبو ذر وصلّى ركعتين ثم عاد فجلس قرب النبيّ وقال:
ـ يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟
ـ إيمان بالله عز وجل وجهاد في سبيل الله.
ـ أي المؤمنين أكمل إيماناً؟
ـ أحسنهم خلقاً.
ـ يا رسول الله فأي المؤمنين أسلم؟
ـ من سلم الناس من لسانه و يده.
ـ يا رسول الله فأي الهجرة أفضل؟
ـ هجر السيئات.
ـ يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟
ـ جهد من مقل يسير إلى فقير.
ـ يا رسول الله فأي آية مما أنزل الله أعظم؟
ـ آية الكرسي.. يا أبا ذر ما السماوات السبع مع الكرسي إلاّ كحلقة ملقاة بأرض فلاة.
ـ يا رسول الله كم الأنبياء؟
ـ مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً..
يا أبا ذر أربعة سريانيون: آدم و شيت و خنوخ ـ إدريس ـ وهو أول من خط بالقلم ونوح،
وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيّك.
ـ يا رسول الله كم كتاب لله تعالى؟
ـ مائة كتاب وأربعة، أُنزل على شيت خمسون صحيفة، وأُنزل على خنوخ (إدريس) ثلاثون
صحيفة، وأُنزل على إبراهيم عشر صحائف، وأُنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف،
وأُنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان (القرآن).
ـ يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم (عليه السَّلام)؟
ـ أمثالاً كلّها: " أيّها الملك المسلّط المبتلى المغرور فإنني لم أبعثك لتجمع
الدّنيا بعضها إلى بعض ولكن لترد عني دعوة المظلوم فاني لا أردها ولو كانت من كافر..
ـ يا رسول الله فما كانت صحف موسى (عليه السَّلام)؟
ـ كانت عبراً كلّها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، عجبت لمن أيقن بالنار ثم هو
يضحك، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، عجبت لمن رأى الدّنيا وتقلّبها بأهلها ثم
اطمأن إليها، عجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل.
بكى أبو ذر خشوعاً و قال:
ـ يا رسول الله أوصني؟
ـ أوصيك بتقوى الله فانّه رأس الأمر كلّه.
ـ يا رسول الله زدني.
ـ عليك بتلاوة القرآن فهو نور لك في الأرض وذكر لك في السماء.
ـ يا رسول الله زدني.
ـ حبّ المساكين و جالسهم.
في الطريق إلى تبوك
مضت سنوات وسنوات، أصبح المسلمون
اُمّة واحدة وأصبح لهم دولة، وانتصروا على أعدائهم من المشركين واليهود. ودخلت
القبائل العربيّة دين الله أفواجاً.
ولمّا كان سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) رسول الله إلى الناس جميعاً، فقد أراد
للإسلام أن يعبر حدود جزيرة العرب إلى العالم كلّه.
أعلن سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) الجهاد وأمر المسلمين بالاستعداد للتوجّه
نحو "تبوك" في شمال الجزيرة العربية.
وفوجئ المسلمون بإعلان النبي تحدّيه لأكبر دولة في العالم آنذاك.
وقال المنافقون:
ـ سوف يقهرهم "هرقل" بجيوشه الجرّارة.
وكانوا يجتمعون في بيت "سويلم" اليهودي ويخوّفون المسلمين من التوجّه إلى تبوك.
ولمّا غادر النبي المدينة وتخلّف المنافقون والذين في قلوبهم مرض، قرّر سيّدنا
محمّد أن يستخلف على المدينة ابن عمّه بطل الإسلام علي بن أبي طالب، حتى يحبط
مؤامرات المنافقين.
وشعر المنافقون بالضيق من "علي" فأشاعوا بين الناس: إنّ الرسول خلّفه استثقالاً له.
ولكي تتبيّن الحقيقة للناس أخذ علي سلاحه ولحق بالنبي خارج المدينة في منطقة تدعى "الجرف"
وأخبره بما يقوله المنافقون:
ـ يا نبيّ الله زعم المنافقون انّك إنّما خلَّفتني لأنّك استثقلتني.
ابتسم سيّدنا محمّد وقال:
ـ كذب المنافقون ولكنّي خلّفتك لتحفظ المدينة وتحميها من مكرهم. أفلا ترضى يا عليّ
أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ انّه لا نبيّ بعدي؟
أجاب علي:
نعم رضيت يا رسول الله.
وعاد علي إلى المدينة مسروراً بكلمات الرسول (صلى الله عليه وآله).
كن أبا ذر
مضى النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقود الجيش الإسلامي عبر الصحراء، وكان بعض
المسلمين من ضعفاء الإيمان يتخلّفون في الطريق ويعودون إلى المدينة فيخبر بعضهم
سيّدنا محمّداً قائلين: تخلّف فلان. فكان رسول الله يقول:
ـ دعوه فإن يَكُ فيه خير فسيلحقه الله بكم.
وفي منتصف الطريق قال أحد المسلمين:
ـ يا رسول الله تخلّف أبو ذر.
فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله):
ـ دعوه فإن يَكُ فيه خير فسيلحقه الله بكم.
واستمر الجيش الإسلامي يطوي الصحراء.
كان أبو ذر راكباً بعيراً هزيلاً لا يقوى على المسير.. و شيئاً فشيئاً كان يتخلّف
عن الجيش الإسلامي، حتى برك البعير عاجزاً عن التحرّك خطوة واحدة.
جلس أبو ذر حزيناً يفكّر ماذا يفعل؟
هل يعود إلى المدينة؟ أم يمضي ماشياً؟
ولكن أبو ذر لم يكن ليفكّر في العودة، فقد كان مؤمناً ويحبّ سيّدنا محمّداً (صلى
الله عليه وآله)، فقرّر أن يتبع آثار الجيش ماشياً.
راح أبو ذر يطوي الصحراء الحارقة، ونفد كلّ ما معه من الزاد والماء، ومع ذلك كان
يستمر في المشي يدفعه إلى ذلك إيمانه العميق بالله وحبّه لرسول الله.
كان يشعر بعطش شديد فرأى في صخرة محفورة ماءً بارداً، ولمّا ذاقه وجده عذباً، فأراد
أن يشرب ولكنّه امتنع وقال:
ـ لا أشرب حتى يشرب منه حبيبي رسول الله.
ملأ قربته من الماء، ومضى يطوي الصحراء ماشياً على قدميه.
كان أبو ذر يسير الليل والنهار حتى يمكنه اللحاق بالجيش الإسلامي.
عسكر الجيش الإسلامي في بعض المناطق للاستراحة ليلاً لكي يستأنف زحفه باتجاه "تبوك".
وعندما أشرقت شمس اليوم التالي شاهد بعض المسلمين رجلاً قادماً من بعيد، فتعجّبوا
وقالوا للنبيّ:
ـ يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي وحده!!
فقال سيدنا محمّد:
ـ كن أبا ذر.
وراح المسلمون يتطلّعون إليه، ولمّا أصبح قريباً منهم صاحوا:
ـ هو والله أبو ذر.
ورأى النبي على ملامحه التعب والعطش فقال:
ـ أدركوه بالماء فانّه عطشان.
ولكن أبو ذر كان يتجه إلى سيّدنا محمّد وبيده القربة ليشرب رسول الله.
فتساءل النبي:
ـ يا أبا ذر أمعك ماء وأنت عطشان؟!
فقال أبو ذر:
ـ نعم يا رسول الله فداك أبي واُمّي. رأيت في صخرة محفورة ماء المطر فذقته فإذا هو
عذب بارد فقلت لا أشرب حتى يشرب منه رسول الله.
فتأثّر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وقال:
ـ رحمك الله يا أبا ذر..
تعيش وحدك.
وتموت وحدك.
وتدخل الجنّة وحدك.
ويسعد بك قوم من أهل العراق يتولون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك.
أحاديث
تُوفي سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) فحزن المسلمون وكان أبو ذر من أكثرهم حزناً
ووفاءً لرسول الله فحفظ ما سمعه من أحاديثه وجعل منها نبراساً يضيء له الطريق.
كان أبو ذر يؤمن إيماناً عميقاً بأن الخلافة حقّ إلهي مثل النبوّة وأن الله سبحانه
يختار من عباده الصالحين أكثرهم جدارة، وقد سمع أبو ذر النبيّ يقول لعليّ: أنت مني
بمنزلة هارون من موسى ولكنّه لا نبيّ بعدي.
وسمعه في "غدير خُم" عندما عاد من حجّة الوداع أمام المسلمين جميعاً: من كنتُ مولاه
فهذا عليٌّ مولاه، اللهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من
خذله.
وسمعه يقول: عليّ مع الحق والحقّ مع علي.
ومع الأسف فإن بعض المسلمين تناسى هذه الأحاديث. وعندما توفي النبيّ (صلى الله عليه
وآله) وبينما كان ابن عمّه ووصيّه علي بن أبي طالب مشغولاً بهذه المصيبة اجتمع بعض
الصحابة وأصبح أبو بكر هو الخليفة.
اعترض كثير من الصحابة على ذلك، منهم سلمان الفارسي الذي قال عنه النبيّ (صلى الله
عليه وآله): سلمان منّا أهل البيت.
ومنهم عبادة بن الصامت وأبو الهيثم التيهان وحذيفة وعمّار بن ياسر. كما استنكرت ذلك
فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين وكانت غاضبة.
وبعد شهور عديدة بايع الإمام علي بن أبي طالب مضطراً، حفاظاً على مصلحة الإسلام.
وعندما بايع الإمام، بايع الصحابة وفيهم أبو ذر.
كان أبو ذر يفكّر بمصلحة الإسلام والمسلمين، ولذلك ذهب إلى ميادين الجهاد دفاعاً عن
الدولة الإسلامية. وكان الروم في ذلك الوقت يقومون بحملات عسكرية واعتداءات على
الحدود، فذهب أبو ذر مع كثير من الصحابة إلى جبهات الحرب مجاهداً في سبيل الله.
مات الخليفة الأوّل أبو بكر ثم جاء بعده الخليفة عمر بن الخطاب، وكان أبو ذر في
بلاد الشام يجاهد مع إخوانه المسلمين.
توفي عمر بن الخطاب وجاء إلى الخلافة عثمان بن عفان.
لم يتبع الخليفة الثالث سيرة النبي ولا صاحبيه، فقد جاء بأقربائه وعيّنهم في مراكز
الحكم، وراح يملأ جيوبهم بأموال المسلمين. وجاء بمروان بن الحكم الذي طرده سيّدنا
محمّد (صلى الله عليه وآله) وجعل منه الحاكم الفعلي للدولة.
اشتكى الناس من سياسة عثمان وجاء وفد من مدينة الكوفة فأخبر الخليفة بأن الوالي
يشرب الخمر ويأتي إلى المسجد سكران وتقيأ في المحراب.
ولكن الخليفة لم يفعل شيئاً، بل إن مروان أهان الوفد وطرده وكان فيهم من أصحاب
النبيّ (صلى الله عليه وآله).
كان أبو ذر من الناصحين لعثمان فقال له ذات يوم:
ـ اتبع سنّة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام.
أي لتكن سيرتك مثل سيرة أبي بكر وعمر.
ولكن عثمان نهرَ أبا ذر وقال أمام الحاضرين:
ـ أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذّاب، إما أن أضربه أو أحبسه أو أقلته أو أنفيه من
أرض الإسلام.
تألّم أبو ذر وتألم المسلمون لذلك وتذكّروا حديث سيّدنا محمّد له:
ما أظلّت الخضراء (السماء) ولا أقلت الغبراء (الأرض) أصدق ذي لهجة من أبي ذر.
وها هو الخليفة يتّهم أبا ذر بالكذب ويقول عنه: الشيخ الكذّاب.
خرج أبو ذر من مجلس الخليفة حزيناً وتذكّر ما حدث له قبل أكثر من عشرين سنة.. تذكّر
يوم دخل رسول الله المسجد فوجده نائماً فأيقظه وقال له:
ـ لا أراك نائماً في المسجد.
أي لا تنم في المسجد مرّة اُخرى، ثم قال له:
ـ ماذا تصنع إذا أخرجوك من المسجد (يوماً ما)؟
قال أبو ذر:
ـ إذن اذهب إلى الشام أرض الجهاد.
فقال النبيّ:
ـ فإذا أخرجوك منها؟
قال أبو ذر:
ـ أرجع إلى المسجد.
فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله):
ـ فإذا أخرجوك منه؟
قال أبو ذر:
ـ آخذ سيفاً فأضربهم به.
فقال النبيّ:
ـ ألا أدلّك على شيء خير من ذلك؟
قال أبو ذر:
ـ نعم يا رسول الله.
قال النبيّ (صلى الله عليه وآله):
تسمع وتطيع.
إلى الشام
قرّر الخليفة الثالث نفي أبي ذر إلى الشام. ولمّا وصل أبو ذر إلى الشام أمر معاوية
والي الشام آنذاك إبعاد أبي ذر إلى منطقة تعرف اليوم ب "جبل عامل" في جنوب لبنان.
راح أبو ذر يعلّم الناس أحاديث النبيّ (صلى الله عليه وآله) وسيرته، ويستنكر انحراف
الولاة وظلمهم للمسلمين وترفهم على حساب الفقراء والمساكين.
وكان يقرأ قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله
فبشّرهم بعذاب أليم}. فأحبّه الفقراء والمساكين.
أراد معاوية إغراء أبي ذر بالأموال لعلّه يسكت، فأمر بإحضاره إلى دمشق وأرسل له
الهدايا، فكان الصحابي الجليل يوزّعها على الفقراء، ثم يمرّ على قصر معاوية و يصيح:
ـ اللّهم العن الآمرين بالمعروف التاركين له.
اللّهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له.
أمر معاوية بإلقاء القبض عليه فأحضره الحرّاس مقيّداً بالسلاسل وخاطبه معاوية بحقد:
ـ يا عدّو الله وعدوّ رسوله تأتي على قصرنا كلّ يوم وتصيح سوف استأذن أمير المؤمنين
عثمان في قتلك.
ثم التفت معاوية إلى الحرّاس وصاح:
ـ خذوه إلى السجن.
إلى المدينة
بعث معاوية برسالة إلى الخليفة أخبره فيها بما يفعله أبو ذر والتفاف الناس حوله.
وجاء جواب الخليفة يأمر معاوية بإعادة أبي ذر ومعاملته معاملة قاسية.
سمع المسلمون بذلك فتألموا وخرجوا يودّعون صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ركب أبو ذر ناقته يسوقها حرّاس قساة القلوب لم يحترموا شيخوخته وضعفه فأرهقوه في
السفر.
ووصل إلى المدينة في أسوأ حال فأُدخل على الخليفة وهو يكاد يسقط على الأرض من شدّة
الضعف والتعب.
قال أبو ذر:
ـ ويحك يا عثمان أما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورأيت أبا بكر وعمر، فهل
سيرتك مثل سيرتهم؟.. انّك لتبطش بي بطش الجبابرة.
قال عثمان بقسوة:
ـ اخرج من بلادنا.
فقال أبو ذر بحزن:
ـ إلى أين أخرج؟
قال الخليفة:
ـ إلى حيث تريد.
قال أبو ذر:
ـ أخرج إلى الشام أرض الجهاد؟
صاح عثمان:
ـ كلاّ لا أردّك إلى الشام.
قال أبو ذر:
ـ أخرج إلى العراق؟
قال الخليفة أيضاً:
ـ كلاّ.
ـ أخرج إلى مصر؟
ـ كلاّ.
قال أبو ذر بحزن:
ـ فإلى أين أخرج؟
ـ إلى البادية.
ـ أخرج إلى بادية نجد؟
ـ كلاّ بل إلى الشرق الأبعد إلى "الربذة".
صاح أبو ذر:
ـ الله أكبر.. صدق رسول الله لقد أخبرني بذلك.
سأل عثمان:
و ماذا قال لك؟
أجاب الصحابي الشيخ:
ـ أخبرني أني أمنع من المدينة ومكة وأموت بالربذة ويتولّى دفني قوم من أهل العراق
في طريقهم إلى الحجاز.
الربذة
الربذة منطقة في الجانب الشرقي من المدينة المنوّرة.
كان أبو ذر يكره "الربذة" لأنّه كان يعبد الأصنام فيها في زمن الجاهلية.
كان أبو ذر يحبّ المدينة لأن فيها قبر النبيّ ومسجده.
وكان يحبّ مكّة لأن فيها بيت الله الحرام.
وكان يحبّ الشام لأنّها أرض الجهاد.
وكان يكره "الربذة" لأنّها تذكّرة بعبادة الأصنام ولكن الخليفة نفاه إلى تلك
المنطقة. وأمر مروان أن يخرج به وأن يمنع المسلمين من توديعه.
وخاف المسلمون سطوة الخليفة فلم يخرج لتوديعه سوى بعض الصحابة، وهم: عليّ بن أبي
طالب وأخوه عقيل والحسن والحسين سبطا رسول الله (صلى الله عليه وآله) والصحابي
الكبير عمار بن ياسر.
تقدّم الإمام عليّ يودّعه فقال له:
ـ يا أبا ذر انّك غضبت لله..
إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك.
فاترك في أيديهم ما خافوك عليه واهرب منهم بما خفتهم عليه.
فما أحوجهم إلى ما منعتهم
وما أغناك عمّا منعوك
وستعلم من الرابح غداً.
يا أبا ذر لا يؤنسك إلاّ الحق ولا يوحشك إلاّ الباطل.
وتقدّم عقيل فقال:
ـ أنت تعلم إنّا نحبّك، وانّك تحبنا. فاتق الله فإن التقوى نجاة. واصبر فإن الصبر
كرم.
وتقدّم سبط النبي الحسنُ بن علي فقال:
ـ اصبر يا عمّاه حتى تلقى نبيّك (صلى الله عليه وآله) وهو عنك راضٍ.
وتقدّم عمّار بن ياسر وهو يبكي فقال:
ـ لا آنس الله من أوحشك. ولا آمن من أخافك. أما والله لو أردت دنياهم لآمنوك. ولو
رضيت أعمالهم لأحبوك.
وبكى أبو ذر وقال:
ـ رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله.
وخرج أبو ذر مع زوجته وابنته إلى صحراء الربذة وهو يتذكّر كلمات قالها له حبيبه
سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) ذات يوم:
رحمك الله يا أبا ذر.
تعيش وحدك.
وتموت وحدك.
وتبعث وحدك.
وتدخل الجنّة وحدك.
* جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد - لبنان.
2015-02-10