عمار بن ياسر
قصص الصالحين
كان الناس في مكّة يعيشون في جهل وظلام. يظلم القويّ الضعيف ويسلبه حقه فلا ينصره أحد، وكان زعماء قبيلة قريش يشتغلون في التجارة، فكانت لهم رحلتان تجاريتان كلّ عام. في فصل الصيف تذهب قوافلهم إلى الشام، وفي فصل الشتاء يتجهون إلى اليمن.
عدد الزوار: 345
كان الناس في مكّة يعيشون في جهل وظلام.
يظلم القويّ الضعيف ويسلبه حقه فلا ينصره أحد، وكان زعماء قبيلة قريش يشتغلون في
التجارة، فكانت لهم رحلتان تجاريتان كلّ عام.
في فصل الصيف تذهب قوافلهم إلى الشام، وفي فصل الشتاء يتجهون إلى اليمن.
وأهل مكّة فيهم فقراء وفيهم أثرياء، فالأثرياء يظلمون الفقراء ويقهرونهم، وبعض
الفقراء يعيشون عبيداً لا يملكون شيئاً حتى حرّيتهم.
وفي ذلك الزمان عاش سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله)، كان يذهب إلى جبل حراء،
يفكّر في مصير الناس، ويفكر في قومه وفي عبادتهم للأصنام والأوثان.
وذات يوم وعندما بلغ سيّدنا محمّد من العمر أربعين سنة هبط عليه الوحي، يُبشِّره
بالإسلام رسالة الله سبحانه إلى الناس جميعاً.
وهبط سيّدنا محمّد من الجبل وهو يحمل معه رسالة الإسلام لكي يعيش الناس إخواناً
متحابين.
أصغى الفقراء والمظلومون إلى نداء الإسلام فآمنوا به وامتلأت قلوبهم بحبّ الإسلام.
وسمع الظالمون من تجّار قريش وأثريائها فحقدوا على سيدنا محمّد (صلى الله عليه وآله)
وراحوا يكيدون للإسلام والمسلمين.
كان أبو جهل أكثر المشركين حقداً وكان يؤذي سيّدنا محمّداً (صلى الله عليه وآله)
كثيراً.
دار الأرقم
كان سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) يجتمع بالمؤمنين سرّاً في دار الأرقم، حتى
لا ينكشف أمرهم فيتعرّضون لانتقام أبي جهل وأبي سفيان وغيرهما من المشركين.
وذات يوم جاء عمّار بن ياسر فوجد رجلاً واقفاً عند الباب فقال:
ـ ماذا تفعل هنا يا صهيب؟
أجاب صهيب:
ـ جئت أسمع كلام محمّد.. وأنت؟
قال عمّار:
ـ وأنا أيضاًَ جئت أسمع كلامه.
ودخل عمّار وصهيب، وراحا يصغيان بخشوع إلى كلمات الله وآيات القرآن الكريم.
شعر عمّار بالإيمان يملأ قلبه، كما تمتلئ السواقي بماء المطر.
وعندما أراد عمّار وصهيب أن يخرجا قال سيدنا محمّد (صلى الله عليه وآله):
ـ امكثا هنا إلى المساء.
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخشى عليهما من انتقام قريش.
انتظر عمّار حتى حلّ الظلام فخرج من دار الأرقم وأسرع نحو منزله.
كانت اُمّه تنتظر عودته بقلق، وكذلك كان أبوه هو الآخر ينتظر عودته.
عندما دخل عمّار، عمّت الفرحة البيت الصغير. وراح عمّار يحدّث والديه عن الإسلام
دين الله.
آل ياسر
ينتمي عمّار في نسبه إلى قبائل اليمن، ولكن ما الذي جاء به إلى مكّة؟
جاء والده (ياسر) مع أخويه الحارث ومالك يبحثون عن أخيهم الرابع الذي انقطعت أخباره.
بحثوا عنه في كلّ مكان، ثم جاءوا إلى مكّة للبحث عنه فلم يعثروا على أثر له.
أراد الحارث ومالك العودة إلى اليمن، ولكن ياسراً فضّل البقاء في مكّة قرب بيت الله
الحرام.
لجأ ياسر إلى قبيلة بني مخزوم وأصبح كأحد أفرادها وتزوّج جارية اسمها سميّة.
وتمرّ الأيام وتنجب سميّة صبياً فسمّاه أبوه عمّاراً.
عمّار
ولد عمار بن ياسر قبل عام الفيل بأربع سنين أي قبل ولادة سيدنا محمد (صلى الله عليه
وآله) الذي وُلد في عام الفيل.
وعندما أصبح شاباً، تعرّف على سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله) وأصبح صديقاً له.
كان يحب سيدنا محمّداً (صلى الله عليه وآله) لأخلاقه وأمانته وإنسانيته.
وذات يوم كان يتمشى مع سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله) بين جبل الصفا وجبل المروة
وكان عمره تسعاً وعشرين سنة وعمر سيدنا محمد خمساً وعشرين سنة، جاءت هالة أخت خديجة
بنت خويلد وتحدّث مع عمار حول فكرة زواج سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله) من خديجة،
ووافق سيدنا محمد حيث تمّ الزواج المبارك.
وعندما بعث الله سيدنا محمداً برسالة الإسلام آمن عمار ووالده ياسر واُمه سميّة.
الانتقام
سمع أبو جهل بإسلام عمار ووالديه فجنّ جنونه.
قاد أبو جهل جماعة من المشركين واتجهوا إلى منزل ياسر. كانت في أيديهم المشاعل
فأحرقوا الدار واقتيد ياسر وعمار وسمية إلى الصحراء خارج مكّة.
قيّدوهم بالسلاسل، وبدأوا بتعذيبهم.
في البداية انهالوا عليهم بالسياط حتى سالت الدماء.
ثم جاءوا بمشاعل النار وراحوا يكوون أجسادهم.
وظلّت هذه الأسرة الصغيرة المؤمنة ثابتة على إيمانها.
جاء أبو جهل بالصخور ووضعها فوق صدورهم، كانوا يتنفسون بصعوبة ولكنّهم ظلوا على
إيمانهم.
حان وقت الظهر واشتدت حرارة الشمس فعاد أبو جهل والمشركون إلى مكة وتركوا الأسرة
تحت أشعة الشمس الحارقة.
وفي الأثناء مرّ سيدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) ورآهم على هذه الحالة فبكى رحمة
لهم وقال:
ـ صبراً يا آل ياسر إنّ موعدكم الجنّة.
قالت سميّة وقد ملأ قلبها الإيمان:
ـ أشهد انّك رسول الله وأن وعدك الحقّ.
عاد الجلاّدون يتقدّمهم أبو جهل وبيده حربة طويلة وبدأ يعذّبهم بالحديد والنار.
فقد عمار وياسر وسمية وعيهم، فرشّوهم بالماء، وعندما أفاقوا صاح أبو جهل بسمية:
ـ اذكري الآلهة بخير ومحمداً بسوء.
بصقت سميّة في وجهه وقالت:
ـ بؤساً لك ولآلهتك.
شعر أبو جهل بالحقد، فرفع الحربة عالياً وسدّد ضربة إلى بطنها وراح يمزّق جسمها
بالحربة حتى قتلها، فكانت سميّة أول شهيدة في تاريخ الإسلام.
واتجه أبو جهل إلى ياسر وراح يركله بقدمه على بطنه حتى قتله واستشهد ياسر تحت
التعذيب الوحشي.
رأى عمار ما حلّ بوالديه فبكى. وانهال عليه أبو جهل والمشركون بالسياط وأنواع
العذاب، وصاح أبو جهل:
ـ سوف أقتلك إذا لم تذكر آلهتنا بخير.
لم يتحمّل عمّار ذلك التعذيب الوحشي فقال:
ـ اعل هبل.
ذكر عمّار آلهتهم بخير لكي يكفّوا عن تعذيبه، عندها حلّوا وثاقه و تركوه.
الإيمان في القلب
جاء عمّار إلى سيدنا محمّد يبكي، لم يكن يبكي من أجل والديه ولا من أجل نفسه وما
رآه من عذاب، جاء يبكي لأنه ذكر الأوثان بخير.
واسى رسول الله عمّاراً باستشهاد والديه، وكان عمّار ما يزال يبكي قائلاً:
ـ لم يتركوني يا رسول الله حتى أكرهوني فذكرت آلهتهم بخير.
قال سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) والرحمة تشعّ من عينيه:
ـ كيف تجد قلبك يا عمّار؟
ـ قلبي مطمئن بالإيمان يا رسول الله.
قال النبي (صلى الله عليه وآله):
ـ لا عليك يا عمّار. لقد أنزل الله فيك "إلاّ من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان".
الهجرة
اشتدت محنة المسلمين في مكّة، فأمر سيّدنا محمّد أصحابه بالهجرة إلى " يثرب "،
وهاجر عمّار مع مَن هاجر في سبيل الله.
وعندما هاجر سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) عمّت الفرحة المدينة المنوّرة وعاش
المهاجرون مع إخوانهم الأنصار حياة طيبة تسودها المحبّة والتعاون والاخاء.
كان أوّل شيء فكّر فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو بناء مسجد يعبد فيه
المسلمون الله وحده، ويكون رمزاً لعزة الإسلام وقلعة للاُمة الإسلامية.
شمّر المسلمون عن سواعدهم وراحوا يعملون بحماس لبناء مسجد النبيّ (صلى الله عليه
وآله).
كان بعضهم يحمل التراب، وبعض يصنع الآجر، وآخرون يحملون ما جفّ منه لبناء الجدران.
كان سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) يعمل مع أصحابه، وكان عمّار يعمل بنشاط وقد
غطّاه الغبار، كان كلّ فرد من المسلمين يحمل لبنة (طابوقة) واحدة، أما عمار فكان
يحمل لبنتين، فقال له سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله): لهم أجر ولك أجران.
ولكي يبثّ في قلوب إخوانه الحماس في العمل، كان يردّد شعاراً حماسياً:
ـ لا يستوي من يعمّر المساجدا
يدأب فيها قائماً وقاعدا
ومن يرى عن الغبار حائدا
كان بعض الصحابة يتحاشى الغبار، فظنّ أن عمّار يعنيه بهذا الشعر.
جاء عثمان إلى عمّار وقال له مهدّداً:
ـ سوف أضرب أنفك بهذه العصا.
نظر عمّار إليه ولم يقل شيئاً.
سمع سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) بذلك فتألم وجاء إلى عمّار وقال:
ـ إنّ عمّاراً جلدة ما بين عيني وأنفي.
مسح سيّدنا محمّد عن وجه عمّار الغبار، فامتلأ قلب الصحابي الجليل حبّاً للنبي
الكريم.
الجهاد في سبيل الإسلام
مرّت الأيام والشهور وشاء الله سبحانه أن يثأر للمظلومين من الذين اضطهدوا للمسلمين
في مكّة ونهبوا أموالهم وصادروا حقوقهم.
وقعت معركة بدر، وكان عمّار في طليعة المقاتلين، الذين خرجوا لاعتراض قافلة لقريش
قادمة من الشام.
جاءت الأخبار المشركين في مكة قد ألفوا جيشاً بقيادة أبي جهل وأنهم يتجهون نحو
المدينة.
استشار النبي أصحابه، واستقر الرأي على مواجهة المشركين.
بعث سيّدنا محمّد عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود لجمع المعلومات عن عدد أفراد
الجيش وعن عدّتهم.
قام عمّار بمهمته خير قيام وكان شجاعاً جريئاً فاقترب من قواتهم ليلاً وطاف حول
معسكرهم لجمع المعلومات.
عاد عمّار ومعه صاحبه إلى سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) قال عمّار:
ـ إن القوم مذعورون خائفون، وأن الفَرس يريد أن يصهل فيضربه صاحبه على وجهه،
والسماء تسحّ عليهم بالمطر.
كانت المعلومات التي قدّمها عمّار حسّاسة جدّاً، فقد أشار إلى حالتهم المعنوية
المتردّية، وحالة الخوف المسيطرة عليهم، كما أشار إلى غزارة الأمطار وطبيعة الأرض
والطين التي ستحّد من قدرتهم على الحركة.
وفي الصباح عندما استيقظ المشركون وجدوا آثاراً غريبة فجاء " مبنه بن الحجاج " وكان
عالماً بالأثر، فصاح: واللات والعزى هذا أثر ابن سمية وابن اُم عبد أي عبد الله بن
مسعود.
المعركة
في صباح يوم السابع عشر من شهر رمضان سنة 2 هجرية وقعت معركة بدر الكبرى.. أوّل
معركة في تاريخ الإسلام، ونصر الله المؤمنين على المشركين.
كان عمّار يقاتل بحماس المسلم الذي يؤمن بالنصر أو الشهادة.
وعندما انهزم المشركون، شاهد عمّار "أبا جهل" جثة هامدة، فتذكّر تلك الأيام التي
كان فيها أبو جهل يؤذي المسلمين ويعذّب والديه الشهيدين ياسر وسميّة. وها هي سيوف
المظلومين تقتصّ من الظالمين.
رفع عمّار عينيه إلى السماء وشكر الله سبحانه على نصره.
عمّار مع الحق
بلغ عمّار من العمر ستين سنة، ولكنه كان يفوق الشباب في حماسه من أجل الجهاد في
سبيل الله.
كان عمّار عميق الإيمان بالله شديد الحبّ لرسول الإنسانية سيّدنا محمّد (صلى الله
عليه وآله) وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) هو الآخر يحبّ صديقه القديم الذي
رافقه شبابه وآمن به ونصره ووقف إلى جانبه.
كان سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) يشيد بمنزلة عمّار في المناسبات، فمرّة قال
(صلى الله عليه وآله):
ـ عمّار مع الحق والحقّ مع عمّار يدور معه كيفما دار.
وفيه قال:
ـ طوبى لعمّار تقتله الفئة الباغية.
ـ إن عمّاراً قد ملئ إيماناً إلى أخمص قدميه.
ـ يا عمّار تقتلك الفئة الباغية وآخر زادك من الدنيا ضياح (إناء) من لبن.
وتمرّ الأيام والشهور والأعوام وعمّار إلى جانب سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله)
يجاهد في سبيل الله أعداء الإسلام والإنسانية.
وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)
في السنة الحادية عشر من الهجرة توفي سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) فحزن
المسلمون جميعاً، وبكى عمّار رسول الله وصديقه القديم وتذكّر أيام الشباب في مكّة
وأيام الجهاد.
وظلّ عمّار (رضوان الله عليه) وفيّاً لإسلامه مجاهداً في سبيل الدين، يقول كلمة
الحق ولا يخاف أحداً إلاً الله.
كان عمّار يحبّ عليَّ بن أبي طالب (عليه السَّلام) لأنّه طالما سمع سيّدنا محمّداً
يقول:
ـ يا علي لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق.
ـ يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ انه لا نبيّ بعدي.
وفي عودته من حجّة الوداع رأى عمّار (رضوان الله عليه) سيّدنا محمّداً (صلى الله
عليه وآله) يمسك بيد سيّدنا علي بن أبي طالب ويرفعها عالياً ويقول:
ـ من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه
اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه
وانصر من نصره واخذل من خذله
لهذا كان عمّار يعتقد أن عليّ بن أبي طالب هو خليفة سيّدنا محمّد (صلى الله عليه
وآله).
عندما تمّت البيعة لأبي بكر وامتنع بعض الصحابة من المهاجرين والأنصار عن البيعة،
امتنع عمّار عن البيعة ووقف في جانب عليّ بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت سيّدنا
محمّد (صلى الله عليه وآله).
وبعد ستة أشهر، توفيت سيدة نساء العالمين واضطر الإمام علي للبيعة حفاظاً على مصلحة
الإسلام، وبايع عمّار بن ياسر (رضوان الله عليه) اقتداءً بالإمام.
الجهاد
انصرف عمّار إلى حياة الجهاد فاشترك في معارك الفتح الإسلامي هنا وهناك. كما قاتل
ببسالة في حروب الردّة باليمامة.
عندما أصبح عمر بن الخطاب خليفةً بعد أبي بكر، عيّنه والياً على الكوفة فأقام حكم
الله ورأى الناس في سيرته العدل والرحمة والتواضع والزهد.
_________________________
الشورى
في سنة 23 هجرية تعرّض الخليفة عمر بن الخطاب إلى محاولة اغتيال.
جاء بعض المسلمين وذكّروا عمر بأن يفكر في الخلافة من بعده.
رأى الخليفة أن تكون شورى بين ستة أشخاص هم علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) وعثمان
بن عفان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد ابن أبي وقاص. وأمرهم بالاجتماع في
أحد المنازل وانتخاب خليفة من بينهم خلال ثلاثة أيام.
كان عمّار بن ياسر (رضوان الله عليه) يتمنى أن ينتخبوا عليّاً لجهاده الطويل
وقرابته من سيّدنا محمّد وعلمه وفضله وسابقته في الإسلام.
مضى يوم ثم يومان وليس هناك من نتيجة.
كانت المنافسة بين عليّ بن أبي طالب وعثمان بن عفان.
اجتمع حول المنزل بعض الصحابة فيهم المقداد وعمّار بن ياسر والعباس وغيرهم وكانوا
يتمنون انتخاب علي، واجتمع بنو أمية وكانوا يريدون انتخاب عثمان. هتف عمّار لكي
يسمعه عبد الرحمن بن عوف:
ـ إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليّاً.
فقال المقداد مؤيداً:
ـ صدق عمّار إن بايعت عليّاً قلنا: سمعنا وأطعنا.
كان عبد الرحمن بن عوف يطمع بالخلافة ففكّر لو أنّه بايع عليّاً فانّه لن يساومه
عليها فيما بعد.
لهذا بايع عبدُ الرحمن عثمانَ حتى يردّها عليه بعد وفاته.
وهكذا أصبح عثمان الخليفة الثالث.
خرج الإمام علي بعد أن قال لعبد الرحمن:
ـ ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا "فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون"
والله ما ولّيت عثمان إلاّ ليردّ الأمر إليك، والله كلّ يوم هو في شأن.
شعر عمّار بالحزن من أجل أهل البيت الذين هم أحقّ الناس بالخلافة لأن الله أذهب
عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
كلمة الحق
كان في بيت مال المسلمين حلي وجواهر، فجاء الخليفة عثمان وأخذها ووزّعها على بناته
ونسائه.
شعر المسلمون بالغضب، وراحوا يتحدّثون عن سيرة عثمان البعيدة عن سيرة السلف.
لم يتراجع عثمان بل صعد المنبر وخطب قائلاً:
ـ لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أنوف أقوام وأقوام.
كان الإمام علي بن أبي طالب حاضراً فشعر بالحزن، وقام عمّار بن ياسر وكان قد بلغ
التسعين من عمره فقال كلمة الحق:
ـ أشهد الله أن أنفي أوّل راغم من ذلك.
اغتاظ الخليفة وصاح:
ـ أعليَّ يا بن ياسر تجترئ.
أشار عثمان إلى الحرّاس أن يمسكوا بعمّار.
لم يحترم الحرّاس شيخوخته ولا صحبته من رسول الله. فجرّوه إلى غرفة عثمان، شدّوا
يديه ورجليه، وجاء الخليفة وراح يضربه على بطنه، حتى فقد وعيه، وجاء بعض المسلمين
وحملوه إلى منزل أُم سلمة زوجة سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله).
كان عمّار ما يزال فاقد الوعي وفاتته صلاة الظهر وصلاة العصر وصلاة المغرب. وعندما
عاد إليه وعيه، أدّى تلك الصلوات قضاءً.
تذكّر أيام التعذيب في مكّة، كان يتحمّل أضعاف ما قام به عثمان لأنّه كان شابّاً
أمّا اليوم فقد أصبح شيخاً كبيراً لا يقوى على تحمّل الضرب.
تألّمت أُم سلمة لحاله فقال لها عمّار بشجاعة المؤمن الصابر:
ـ ليس هذا بأوّل يومٍ أوذينا في الله.
نفي أبي ذر
ونفى الخليفة عثمان الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري إلى منطقة " الربذة " وهي صحراء
لا يقطنها أحد لمناخها القاسي.
ولم يكتف بهذا بل أصدر أمراً بمنع توديعه، ولكن بعض الصحابة تألموا لما قام به
عثمان وخرجوا لتوديع الصحابي الكبير أبي ذر.
خرج علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) وسبطا سيدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) الحسن
(عليه السَّلام) والحسين (عليه السَّلام) وخرج أيضاً عمّار وودّع أبا ذر قائلاً:
ـ لا آنس الله من أوحشك، ولا آمن من أخافك. أما والله لو أردت دنياهم لأمّنوك، ولو
رضيت أعمالهم لأحبّوك.
ومضى أبو ذر ومعه زوجته وابنته إلى صحراء الربذة ليموت وحيداً.
وتذكّر عمّار حديثاً سمعه من سيدنا محمّد (صلى الله عليه وآله):
ـ يا أبا ذر تعيش وحدك وتموت وحدك.
الثورة
تصاعد غضب المسلمين بسبب سيرة عثمان وما يقوم ولاتهُ من ظلم. وجاءت الوفود من كلّ
مكان للاحتجاج، جاءوا من الكوفة ومن مصر والبصرة وغيرها من المدن.
وكان الصحابة في المدينة قد كتبوا إليهم: إن أردتم الجهاد فهلموا (تعالوا) إليه،
فان دين محمد (صلى الله عليه وآله) قد أفسده خليفتكم.
جاء الناس يشكون من الظلم، ولكن الخليفة لم يصغ إليهم وطردهم فذهبوا إلى علي بن أبي
طالب ابن عمّ سيدنا محمد ووصيّه.
كان الإمام يتمنى الإصلاح وأن يعود عثمان إلى سيرة الإسلام.
فدخل عليه وحدّثه وقال له: لا تكن أداة في يد مروان يسوقك حيث يريد، ولا تنس منزلتك
من رسول الله.
وافق عثمان على أن يعلن توبته أمام الناس فخرج إليهم واعتذر لهم ووعدهم بسيرة
يرضاها الله والمسلمون.
ولكن مروان كان مثل الأفعى فدخل عليه وغيّر رأيه وقال له:
ـ لا تكن ضعيفاً أمام الناس وهددهم.
وكانت نائلة زوجة عثمان تعرف أن مروان خبيث يكرهه المسلمون فنصحت زوجها وقالت له:
ـ أصغ إلى علي بن أبي طالب فان الناس يحبونه ويطيعونه، ولا تطع مروان فهو شخص ليس
له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبّة.
لم يصغ عثمان لنصيحة الناصحين فكانت النتيجة أن ثار المسلمون عليه ولقي مصرعه في
قصره.
الإمام علي (عليه السَّلام)
اتجهت جماهير المسلمين الى منزل الإمام علي (عليه السَّلام) ودَعَتْهُ إلى تقلّد
منصب الخلافة.
رفض الإمام ذلك وقال لهم:
ـ ابحثوا عن رجلٍ غيري.
ولكن الناس كانوا يدركون ان الإمام هو الرجل الوحيد الذي يستحق هذا المقام، فأصرّوا
على موقفهم. وأخيراً وافق الإمام على تحمّل هذه المسؤولية، حتى يسدّ الطريق على
الطامعين بها.
العدالة
لقد ثار المسلمون من أجل العدالة، كانوا غاضبين ممّا حلّ بهم من الظلم، وكان الإمام
علي رمز العدالة والحق.
لم يخيّب الإمام أمل المسلمين، فأصدر منذ اليوم الأول قراراً طَردَ بموجبه جميع
الولاة الظالمين الذين عيّنهم الخليفة السابق، وعيّن مكانهم ولاة صالحين معروفين
بالتقوى والصلاح.
قام الإمام بعزل معاوية عن حكومة الشام، ولكن معاوية كان يخطّط منذ سنين للاستيلاء
على الشام ثم على بلاد الإسلام، فأعلن العصيان، ورفع شعار المطالبة بدم عثمان وهكذا
وقعت حرب صفين على حدود سوريا مع العراق.
كان في جيش الإمام علي كثير من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي طليعتهم
عمّار بن ياسر ومالك الأشتر وعبد الله بن عباس وغيرهم.
وكان في جيش معاوية أعداء الإسلام من أمثال مروان بن الحكم وعمرو بن العاص وابن أبي
معيط والهاربون من عدل علي إلى دنيا معاوية.
تقتلك الفئة الباغية
كان المسلمون في العسكرين يرددون حديثاً لسيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) خاطب
فيه عماراً قبل أكثر من خمس وعشرين سنة:
ـ يا عمّار تقتلك الفئة الباغية.
كان عمّار في جيش الإمام عليّ، وكان آنذاك شيخاً قد تجاوز التسعين من عمره، ومع هذا
فقد كان يقاتل في حماس الشباب المؤمن.
رفع عينيه إلى السماء وقال:
ـ اللّهم لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر " نهر الفرات " لفعلت.
اللّهم إني لا أعلم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين.
كان عمّار مع الحقّ والحقّ مع عمّار يدور معه حيثما دار، لهذا قال:
ـ والله لو ضربونا (هزمونا) حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمت إنّا على الحق وإنّهم
على الباطل.
وعندما اشتعلت المعركة، خاطب عمّار المقاتلين:
ـ من يبتغي (يريد) رضوان الله ربّه؟
فلبّى دعوته بعض المؤمنين، وقادهم عمّار باتجاه العدّو، وعندما شاهد الصحابة عمّاراً
يتخطى الصفوف تبعوه.
كان عمّار صائماً، وكان يقاتل بحماس كبير.
وفي وسط المعركة شاهد عمّار عمرو بن العاص فخاطبه قائلاً:
ـ يا عمرو بعت دينك بمصر فتباً لك.
أي أن عمرو بن العاص وقف إلى جانب معاوية بعد أن وعده بحكومة مصر.
قال عمرو بن العاص بخبث:
ـ لا ولكن أطلب بدم عثمان.
قال عمّار:
ـ أشهد انّك لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله.
وأراد أن ينصحه فقال:
ـ إذا لم تقتل اليوم تمت غداً، وإنما الأعمال بالنيّات. فانظر لنفسك إذا اُعطي
الناس على قدر نيّاتهم.
ومضى عمّار يقاتل الفئة الباغية.
الفتنة
كان المسلمون في فتنة لا يعرفون الحقّ من الباطل فكان عمّار دليلهم، لأن سيّدنا
محمّداً (صلى الله عليه وآله) قال: تقتله الفئة الباغية.
لهذا كان عمرو بن العاص يخدع أهل الشام عندما يسألونه فيقول لهم:
ـ اصبروا لأنّه سينحاز إلى جبهتنا.
وتمرّ أيام الحرب، وعمّار يقاتل في جبهة الحق مع علي.
وذات يوم حمل عمّار ومعه مجموعة من المؤمنين وراح يقاتل ببسالة وهو يتذكر أيام
الجهاد مع سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) في بدر وأُحد وحنين ومعارك الإسلام
الأخرى.
كان عمّار صائماً والمعارك مستمرة. وعندما غابت الشمس وحان وقت الإفطار، طلب عمّار
ماءً يفطر به لأنّه كان ظامئاً.
جاءه أحد الجنود بإناء مليءٍ باللبن.
تبسّم عمّار وقال مستبشراً:
ـ ربّما أُرزق الشهادة هذه الليلة.
فسأله البعض عن السرّ فأجاب:
ـ لقد أخبرني حبيبي رسول الله قائلاً: يا عمّار تقتلك الفئة الباغية وآخر زادك من
الدنيا ضياح من لبن.
شرب عمّار (رضوان الله عليه) اللبن وتقدّم يقاتل ويقاتل حتى هوى على الأرض شهيداً.
كاد معاوية يطير من الفرح، وشعر الإمام علي بالحزن والأسف وترحّم عليه. وفي تلك
اللحظات أدرك الجميع من هي الفئة الباغية.
كان بعض الجنود في جيش معاوية ينتظرون انحياز عمّار إلى معاوية كما ادّعى ذلك عمرو
بن العاص، ولكنهم رأوا عمّار يقاتل حتى استشهد مع أمير المؤمنين علي (عليه السَّلام)،
لهذا تسللوا في الظلام والتحقوا بجيش الإمام بعد أن عرفوا جبهة الحق.
النهاية
أحدث استشهاد عمّار بن ياسر دوياً في الجبهتين فارتفعت معنويات جيش أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب فيما هبطت معنويات جيش معاوية.
وفي تلك الليلة شن جيش الإمام هجوماً كاسحاً على جيش معاوية وكاد أن يحرز النصر
النهائي.
فجاء عمرو بن العاص بحيلة جديدة حيث رفع جيش الشام المصاحف يطالبون بتحكيم كتاب
الله.
توقفت المعارك وانسحب الجيشان من سهل صفين. وبقيت جثث الشهداء وفي طليعتهم الصحابي
الكبير عمّار بن ياسر الذي بلغ من العمر ستة وتسعين عاماً.
واليوم عندما يزور المسلمون تلك البقعة من أرض الله يرون مزاراً كبيراً لذلك
الصحابي الذي قضى عمره في الجهاد من أجل الإسلام، وعرف المسلمون باستشهاده مع مَن
كان الحق في تلك الحرب المريرة.
* جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد - لبنان.
2015-02-19