يتم التحميل...

مُثبطات الجهاد وطرق معالجتها

الجهاد

هناك دائماً عوامل تلعب دور المانع والعائق عن الحضور في جبهة الحرب والجهاد، والقرآن الكريم - وأثناء تربية الجهاديين - لم يغفل عن تنبيههم إلى تلك العوامل المثبطة، بل أوجد علاجات وتعاليم خاصة لإزالتها.

عدد الزوار: 284

مدخل

هناك دائماً عوامل تلعب دور المانع والعائق عن الحضور في جبهة الحرب والجهاد، والقرآن الكريم - وأثناء تربية الجهاديين - لم يغفل عن تنبيههم إلى تلك العوامل المثبطة، بل أوجد علاجات وتعاليم خاصة لإزالتها.

فلكلّ حرب - سواء أردنا أم لم نرد - ضحاياها وعذاباتها، وآلامها وخسارتها، من تلف العنصر البشري والإنساني إلى المآسي الاجتماعية... الخ، ومثل هذه الحوادث القاسية والأحداث الأليمة في الحروب تصير - عادة - سبباً لخوف أكثر الناس من المشاركة في الحرب.

قلة قليلة تلك التي تتحمّل العذابات والآلام، بل حتى أنها تتقبّل القتل في سبيل الله وتراه فوزاً وفلاحاً، فلا يؤثّر القتل والجرح سلباً على مسيرتها، لأنها تتوجّه إلى الحرب متجاوزةً كلَّ تلك الحوادث المؤلمة، وتتابع الجهاد في سبيل الله بكلِّ ثبات وصبر.

القرآن الكريم، ولكي يُبعد الآثار السلبية لمثل تلك الحوادث والمصائب، ولكي يُزيل الوساوس الشيطانية من طريق المجاهدين نبّه إلى كل تلك الحوادث واحدة تلو الأخرى، وذكر لكل منها علاجاً حتى لا يبقى لها أيّ أثر سلبي يمكن أن يكون مانعاً للمسلمين عن أداء تكاليفهم والمشاركة في الجهاد والحضور في الجبهات، ونشير هنا باختصار إلى بعض تلك العلاجات.

الوعد بالتعويض عن الخسائر

إنّ الفقر المالي والحرمان الاقتصادي النّاشئ من الحروب، يشكِّل عنصراً أساسياً في رفض فكرة الحرب عند كثير من الناس، بل والوقوف ضدها. وهذه المسألة لها واقعها في الأفكار العامة للناس حتى ولو وصلت إلى حدّ غير مقبول، حيث نرى بعض الأمم والمجتمعات تقبل الرضوخ للآخرين والتسلّط على رقابهم والخضوع والذل، مقابل تجنّبهم الحرب مع المعتدين على أرضهم ومائهم ومقدساتهم.

والله تعالى وعد، ومن أجل إحباط عوامل السقوط هذه، المؤمنين المجاهدين بجبران ذلك الفقر، والتعويض عن الخسائر والحرمان الناتج عن الحرب، ومن باب المثال يمكن الإشارة إلى هذه الآية الشّريفة. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ1.

تصرّح الآية بأنّ المشركين نجس، ولا يجب أن يقتربوا من المسجد الحرام، وهذا بنفسه مقدمة للحرب من خلال قطع العلاقات التجارية والاقتصادية مع المشركين، وبالنتيجة سوف يجرّ ذلك إلى الحرمان من بعض المنافع الاقتصادية. وهذه المسألة بحد ذاتها من الممكن أن توجد التزلزل في إرادة المسلمين عند مواجهتهم للمشركين، وبالتالي يبدأ السُّؤال عن فائدة الحرب ومدى الضَّرر الذي يجب تحمّله أو يمكن تحمّله؟

لذلك كان الوعد الإلهي للمسلمين بالتعويض عن كلّ خسائرهم، لإزالة كلّ قلق في نفوسهم وإعطائهم الطمأنينة والثقة بالنفس، اللازمة لإتمام مسيرة الجهاد في سبيل الله عز وجل، عندها سوف يغنيهم الله من فضله بتهيئة الظروف المناسبة كإنزال النصر مثلاً فيما لو ثبتوا ونصروا دينه، قال تعالى: ﴿...وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ2، وما يستتبع هذا النصر من رفاه وازدهار وأمن واستقرار، دليلٌ على تعويض الخسائر الاقتصادية، فضلاً عن فوزهم بالعزة والهيبة.

الارتكاز إلى مبدأ القضاء والقدر

يعتمد القرآن الكريم أسلوب التنبيه على حقيقة ارتباط الحوادث والوقائع الحاصلة في العالم بالتقدير والتدبير الإلهي. لذلك، وبعد حصول الحقيقة هذه في القلب، لا تعود المصائب والشدائد مانعاً للمجاهدين عن الاستمرار في الجهاد.

فالمسلمين الذين تربّوا في مدرسة القرآن، يَعلمون أن الله تعالى خَلقَ كل الموجودات وجَعلَها في إطار إلهيٍّ قائم على أساس العدل والحكمة، فلا تخرج أيُّ حادثة في هذا الكون عن ذلك الإطار الذي نظّمه الله تعالى، لذلك فإن ما يُقدّره الله تعالى سيقع حتماً.

وهذا التقدير الإلهي مرتبطٌ بحكمته وعدله، وتيسيره للأمور بما يوافق النظام الإلهي العام والأصلح، لذلك يكون التسليم لأمر الله تعالى عاملاً مهماً في تقوية روحية المجاهدين.

إنَّ مثل هذه الرؤية الكونية وهذا الاعتقاد الصادق يزيل عن الإنسان أي شعور بالقلق والخوف من فقدان المال، أو السلامة، أو الأمن، أو الراحة، أو الطمأنينة، أو الزوجة والأولاد، أو...الخ، فالمؤمن الحقيقي لا يجزع من فقدان كلِّ هذه الأمور بحيث يمتنع - من هول فقدانها - عن المشاركة في الجهاد والحضور في الجبهات.

ولقد كان مجاهدو صدر الإسلام يتمتَّعون بروحيات ومعنويات عالية جداً، ففي الحروب كانوا يتميزون بقوة قلب وشجاعة فائقة، كل ذلك كان بسبب إيمانهم الصادق وتوجّههم الخاص إلى عقيدة القضاء والقدر الإلهي. فهم يؤمنون ويعلمون بأن ما يريده الله تعالى سوف يحدث حتماً، وما هو مقدّر سوف يقع قطعاً، ومع هكذا اعتقاد صادق لا معنى للجزع من أي شيء، أو الهول مما يمكن أن يقع.

هؤلاء كانوا يعتقدون بأن أجَلَ الإنسان إذا حان فسوف يموت حتى ولو كان في منزله أو على فراشه بعيداً عن كل الأخطار! أما إذا لم يَحن أجله بعد، فإنه لن يموت حتى ولو كان في ميدان الحرب أوكانت تصب على رأسه نيران المدافع، بل بالعكس سيرجع سالماً معافى.

يقول الله تعالى في القرآن حول هذا الموضوع: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ3.

وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ...4.

لو تفحصنا جيداً في الأسس والعقائد الإسلامية الأصيلة، ومددنا النظر إلى هذه التعاليم الإلهية فسوف نجد أن تلك التعاليم مبتنية على أصول علمية متينة، وحقائق نفسية دقيقة، أشار الله تعالى إليها في موارد كثيرة، كالآيات التي ذكرناها سابقاً، ففي تلك الآيات نكات:

منها أنّ الله تعالى يربي المسلمين على الإيمان بمسألة القضاء والقدر.

ومنها أنه يوجّههم إلى آثار معرفة النفس وحالاتها، لأن المسلمين لو اعتقدوا بصدق ويقين بمسألة القضاء والقدر فإن ذلك سيُحوّلهم إلى رجال شجعان، يملؤهم الهدوء والطمأنينة والوقار والسكينة، وسوف تجعل هذه العقيدة منهم أناساً متوازنين سواء في حال الخسارة وفقدان النعم أم في حال النصر ووفرة النعم، وبالتالي لن يبقى أي أثر سلبي لتلك الحوادث والمصائب على نفوسهم، وخاصّة في اتخاذ قراراتهم الأساسية والمصيرية.

ويقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ5.

وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَ6.

لقد كان بين المسلمين من لا يستسيغ الجهاد، ولا يُحبّذ المشاركة في الحرب، وهؤلاء كانوا يكذبون على المجاهدين بقولهم: إننا لو كنا نقدر على الحضور معكم في الحرب ضد الأعداء لأتينا إلى الجبهات، بل يُقسمون بالله تعالى على إدعاءاتهم تلك!

والبعض الآخر كانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعفاءهم من الذهاب إلى الجبهة والمشاركة في الحرب.

وفريق ثالث كان يرى نصر المسلمين في الحرب سبباً لغمّه وعدم راحته، فلو واجه المسلمون هزيمة وانكساراً وحوادث موجعة، فهذا يُعدّ عندهم سبباً للفرح والسرور، بل كان هذا الفريق يستقبل المسلمين قائلاً: لقد عرفنا قبلاً بأن تلك الحوادث ستصيبكم، ونحن قد احتطنا لأنفسنا ولم نسارع إلى المشاركة في الحرب لذلك فإن الله أكرمنا بعدم إصابتنا بأي مكروه !.

أراد الله تعالى من نبيه الكريم أن يقول لكل تلك الفرق والفئات: إننا لا نخاف من الحوادث المُرّة والمصائب الدنيوية المؤلمة، لأننا نعلم أنها كلها تقع وفقاً للتقدير الإلهي، وطبقاً للقانون الحكيم الذي جعله الله مُسبقاً لهذا الكون، فما يهمنا، سواء عندنا النصر أم الشهادة.

البلاء يشمل الكافر أيضاً ويفيد المؤمن

من جملة المسائل التي ربّى القرآن الكريم عليها المؤمنين المجاهدين، هي الإيمان بأن المصائب المرّة والحوادث الأليمة أثناء الحرب والمعارك لا تختص بالمجاهدين في سبيل الله فقط، بل إن الأعداء أيضاً يواجهون مثل تلك الحوادث المؤلمة ويتوجّعون منها لذلك فإن كلا الطرفين مُشتركان بوقوع المشاكل والحوادث المؤلمة، من الحرمان والخراب وفقدان الأحبة... الخ.

لقد أشار الله تعالى إلى عمومية المشكلات والمصائب في الحرب وشمولها للجميع، مع مميزات خاصة للمسلمين، وقد أشارت الآية إلى ذلك، قال تعالى: ﴿إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ7.

وفي آية أخرى يواسي الله تعالى المسلمين بقوله: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ8.

فوقوع الجرحى والقتلى، والإحساس بالألم والمعاناة في الحرب وغيرها من الحوادث القاسية، ليست مختصة بالمسلمين فقط بل يشاركهم الأعداء فيها، فلذا يجب عليكم أيها المسلمون أن تتحملوا وتنتظروا اللطف والرحمة الإلهية والنصر والمدد الغيبي، ولا تديروا ظهوركم للجهاد وتُعرِضوا عن الحرب والقتال فيما لو أصابتكم الأحداث المؤلمة، خاصة أثناء احتدام الحرب وحدّة المعارك.

وهنا يوجد فارق مهم وأساسي يجعل وضع المسلمين يتمايز عن وضع الكفار، وهذا الفارق في الحقيقة يُشكِّل علامتين إيجابيتين للمسلمين:

الأولى: أن المسلمين في الحرب ينتظرون الإمدادات الغيبية والنصر الإلهي بخلاف الأعداء الذين لا يمتلكون مثل هذه العقيدة ولا ينتظرون مثل هذا الأمل والرجاء من الله عز وجل.
الثانية: أن المسلمين ينتظرون الثواب الأكبر من الله تعالى في حال مواجهتهم للمشاكل والشدائد في الحرب أو حتى في حال ارتفاع الشهداء إلى الملكوت الأعلى، فهم يترقّبون بشوق هذا الوسام الإلهي الرفيع وينتظرون الجزاء الكبير والأجر العظيم على الجهاد والشهادة، لكن في المقابل نرى أعداء المسلمين لا ينتظرون إلا العقاب والعذاب نتيجة قتالهم أو موتهم وهلاكهم، وحول هذا الموضوع يقول الله في الآية الشريفة: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ9.

وبناءً عليه: لا معنى لأن يخاطر أولئك السائرون على طريق الباطل بكل ما يملكون، فهم لا يتكّؤون على أية قدرة غيبية ولا أمل يلجؤون إليه.

بينما المسلمون، إما أنهم ينتظرون النصر الإلهي في هذه الدنيا، وإما أن قلوبهم معلقة بالرحمة الإلهية والثواب الكبير على الجهاد والشهادة في الآخرة.

لكن على الرغم من وجود هذه الثقافة الأصيلة والعميقة، نرى بعض المسلمين لا يتحمّلون شدائد الحرب ويتخلّون عن المشاركة في الجهاد تجنّباً لتلك الشدائد والمصائب، أفلا يلزم - على من لديه مثل هذه العقيدة: (فوز في الدنيا وفوز في الآخرة) - أن يكون دافعه للجهاد في طريق الحق أقوى من دافع أولئك الذين يقاتلون ويحاربون المسلمين من أجل الباطل؟!

توضيح حقيقة الموت والشهادة

لا شك ولا ريب أنّ أخطر مسألة في الحرب وأقلقها للنفوس هي مسألة الموت والقتل، أو ما يعبِّر عنه (بالمصير). ولخطورة هذه المسألة أعطى القرآن الكريم اهتماماً خاصاً بها، فهي حقيقة من أكثر المسائل التي تشغَلُ القلوب في الحرب.

وقد سعى القرآن الكريم إلى التقليل من فزع الإنسان من الموت، والتخفيف من هول القتل في نفسه خاصة في ميدان الحرب، وعمل على إزالة هذا الخوف والفزع بالكامل، ولأجل ذلك طرح القرآن الكريم دروساً وتعاليم خاصة كعلاج لهذا الخوف.

محدودية العمر وحتمية الموت

هذه المسألة مرتبطة بالإيمان والمعرفة بعقيدة القضاء والقدر ومدى رسوخها في ثقافة المؤمنين. فمع التوجّه إلى هذه العقيدة نعرف أن لكلٍّ منا عمراً محدوداً، وسوف يموت حينما يحين أجله المقدّر فقط، سواءٌ أكان يحارب في الجبهة أم كان نائماً في فراشه!

وبالمقابل، إنَّ أي إنسان لم يحِن أجله بعد ولم ينته عمره، فسوف يبقى حياً تحت أي ظرف كان وفي أي مكان وُجد.

وبناءً على هذه التعاليم الإسلامية الإلهية، إذا كان عمر الإنسان قد انتهى وأجله قد حان فلا فائدة من تجنّب الذهاب إلى جبهة الحرب لأنّه بذلك لن يستطيع أن يُجنب نفسه الموت المقدّر، وأمّا إذا لم يكن قد انتهى عمره ولم يحن أجل موته بعد، فلا معنى أيضاً للخوف من الذهاب إلى الجبهة والمشاركة في الحرب. وحول هذا الاعتقاد، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّل10.

وفي آية أخرى، يقول تعالى: ﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ11.

فمع التوجه إلى هذه الآيات التي تحدّثت حول موضوع الجهاد كان الخطاب الإلهي للمسلمين، أن لا تخافوا من الذهاب إلى الجبهة والمشاركة في الحرب والجهاد في سبيل الله، لأن موت أي أحد منكم تابع للإرادة والإذن الإلهي.

بعد انتهاء معركة أُحُد ادّعى فريق من المسلمين ضعيفي الإيمان بأن هزيمة معسكر الإسلام وقتل مجموعة من المسلمين كان سببه الرئيس هو سوء تدبير قادة الجيش الإسلامي وعلى رأسهم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ودعواهم كانت: بأنه ما كان ليُهزم جيش الإسلام ويقتل هذا العدد من المجاهدين لو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقادة جيشه كانوا قد تشاوروا معهم، فجاءت هذه الآية كجواب من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء المُدّعين، قائلة لهم: مشاركتكم أو عدم مشاركتكم في تدبير أمور الحرب سواء، لأنه لا قدرة لكم على تغيير مصير القتلى والشهداء، ولا دخل لكم في زيادة أو نقصان عدد الخسائر، فموت وحياة البشر تابع للإرادة والتقدير الإلهي والأمر كله بيد الله عز وجل ولذا لا معنى لتوجيه اللوم إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وإلى الآخرين في أمر القتلى والشهداء.

طبعاً ليس الأمر بمعنى أن لا نُجازي أو نُعاقب الأفراد الذين يتجاوزون حدود تكاليفهم ولا يأخذون المشورة الواجبة عليهم، أو فيما لو كان هناك شخص مُطّلع على الأوامر وامتنع بشكل متعمّد عن أداء تكلفيه في الحرب، أو ارتكب خيانة لا سمح الله.

وليس المقصود هنا أيضاً إنكار ضرورة التأمّل والتدبير، والتفكّر والتخطيط قبل اتخاذ القرارات العملية، بل المقصود هو إلفات المسلمين إلى حقيقة أن كل الحوادث والوقائع التي تحدث في عالم الطبيعة والتكوين ومن جملتها موت الإنسان كلها تابعة للتقدير والتدبير الإلهي الحكيم واضع نظام هذا الكون وخالق هذا الوجود.

و بناءً عليه لا معنى للخوف من الموت ولا يجب أن يجد الخوف والفزع من الموت طريقه إلى قلب الإنسان، يقول الله تعالى في آية شريفة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ12.

لقد أراد الله تعالى تنبيه المؤمنين إلى أن كلامكم هذا يُشبه خطاب الكافرين وهو لا يليق بكم أيها المؤمنون! ويريد الله تعالى منكم أن لا تُفكروا بمنطق الكفار والكافرين، لأن منطقكم هو المنطق التوحيدي الذي تعملون على أساسه، بوظائفكم إلى الحد الذي تسعه وتتحمله قدراتكم، وتعتقدون بصدقٍ أن المُقدَّر لكم من الله هو الذي سيقعُ حتماً سواءٌ أكان الموت في الجبهة أم الرجوع والبقاء أحياء.

هكذا إيمان وهكذا رؤية سوف تكون سبباً لأن يقتحم المؤمنون الحرب بدون تردّد أو تزلزل بل يَرِدُون الجبهة بنفوس مطمئنة، وإرادات قوية، وإيمان بعقيدة صلبة راسخة يواجهون المقدّر لهم والمكتوب عليهم.

نعم، إن المنطق الخاطئ والرؤية غير الصحيحة للكفار كانت نتيجتها دائماً الحسرة والندم، والتأسّف والألم، بل وحيرتهم في النتائج التي يَجنونها لأنفسهم، فهم يتساءلون دائماً لماذا حدث هذا؟ وكيف صار ذلك؟ ويا ليتنا فعلنا كذا ولم نفعل كذا!

الموت انتقال إلى حياة أهنأ

درسٌ آخر من تعاليم القرآن الكريم لمواجهة الخوف من الموت وهو:

تذكير المؤمنين والجهاديين في سبيل الله بحقيقة أن الإنسان عندما يموت أو يقتل، لا يفنى وينعدم، الموت هنا ليس معناه الفناء والانعدام، بل هو مقدمة لحياة أخرى جعلها الله لأولئك المؤمنين والجهاديين حياة نِعَمٍ إلهية وملذات، وسعادة وفيوضات، لا حدّ لها ولا نهاية.

إنّ الكافر الذي يعتبر الموت انعداماً وهلاكاً سوف يتجه إلى ميدان الحرب بصورة مترددة ومتزلزلة، يملؤه الهول من القتل والوحشة من الموت، أما المؤمن فهو يتوجّه إلى الجبهة عاشقاً لنيل مقام الشهادة، وينتظر لحظة الانتقال إلى الحياة الأبدية التي كلها لذائذ ومسرّات. وكما عبّر أمير المؤمنين في توجيهاته للمجاهدين: "أعر الله جمجمتك"13 يعني: لا تأبه لروحك وسلِّمها لخالقها.

بهذه العقيدة سوف ينتصر المجاهد على نفسه الخائفة من الموت ويندفع نحو الشهادة، وبهذه العقيدة أيضاً سوف يتحمل هذا المؤمن المجاهد في سبيل الله كل ضغط ومشقة. فلا طريق للخوف إلى قلبه لأنه يعلم أنه لو قتل أثناء سيره في الطريق الإلهي بيد الأعداء فهو سيحظى بمقام الشهادة التي يراها فوزاً عظيماً وهدية إلهية قيّمة.

بهذه العقيدة كان يتسلّح المسلمون والمؤمنون المجاهدون أمام الأعداء، وبهذا المنطق القاطع والمحكم كانوا يقارعون كل الكفار والمشركين، هذا المنطق الذي بيّنه القرآن في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ14.

فعلى أساس هذا البيان الإلهي يسير المجاهدون في سبيل الله على أمل النصر أو الشهادة، وفي كلا الأمرين فوز ومصلحة لهم:
- ففي نصر المسلمين والغلبة على الأعداء مصلحة الإسلام والمجتمع الإسلامي.
- وفي الشهادة والقتل في سبيل الله فوز بالسعادة الأبدية الدائمة وبالرضوان الإلهي.

وفي المقابل سوف يكون النصر في الحرب والهزيمة أيضاً منشأً للخسران والشقاء، والتعاسة والبلاء للأعداء في الحياة الأخرى.

فبالنصر الظاهري للأعداء على المسلمين لن يُكتب لهم إلا العذاب والعقاب الأخروي، وبسببه سوف يتابع المنحرفون سَيرهم في قطع الطريق إلى الله ومحاربة تعاليم الأنبياء، ومحاولتهم إفناء الدين لأنهم عطشى للمنصب والسلطة، وبالتالي لن ينتظر هؤلاء في الآخرة غير العذاب والعقاب.

وأما في حال انتصار المؤمنين المجاهدين في هذه الحياة الدنيا على الأعداء، فمن جهة أحيائهم -أي أحياء الأعداء - فإن النتيجة هي الحرمان من التمتع بالدنيا كما يريدون، ومن جهة أمواتهم وقتلاهم فإنّ مصيرهم النار والعذاب الأبدي في الآخرة.

وعلى كل حال، وبأي نتيجة انتهى الصراع، الفائزون حقيقة هم المؤمنون دنيا وآخرة، والخاسرون هم الكفار والمشركون قُطّاع الطريق إلى الله دنيا وآخرة أيضاً.

مصير الشهيد

إنّ الشهداء والقتلى في سبيل الله لا يموتون، بل هم أحياء يتنعمون في جوار الرضوان الإلهي، يقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ15.

تبيّن الآية أنه ليس من الصحيح إطلاق اسم الأموات على هؤلاء الشهداء والقتلى في سبيل الله لأنهم وبكل ما لكلمة (حيّ) من معنى، هم الأحياء حقيقة وهم الفائزون واقعاً.

وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ16.

تعتبر الرؤية القرآنية الشهداءَ أحياءً حقيقة، وإن كانوا قتلى وأموات ظاهراً، لأنهم ينعمون بأعلى مراتب ودرجات الحياة الحقيقية والملذّات الواقعية، والحياة الدنيوية بكل ملذّاتها غير قابلةٍ للمقايسة مع حياة الشهداء وملذّات ذلك العالم الأبدي، كيف ونحن في هذه الحياة الدنيا لسنا سوى ساعين نحو السعادة والملذات؟ وهل هناك لذة وسعادة أرفع وأسمى من أن ينال الإنسان الرضوان الإلهي وينعم بالرزق الرباني؟!!

إن معرفة المسلمين لهذه التعاليم القرآنية وترسيخها في عقولهم وقلوبهم وتربية المجاهدين على معرفة المقام السامي للشهيد والمكانة الرفيعة للشهادة، ومعرفتهم بمعنى حياة الشهداء والرزق الإلهي، كل ذلك سيكون علاجاً ناجحاً لمرض القلق من الموت، بل إنه سيطرد هول الموت من قلوب هؤلاء الجهاديين، ويكون باعثاً لهم إلى عشق الشهادة، والاقتحام على الأعداء بلا خوف على أرواحهم وسيُحوّلون هذا العجز والضعف في النفوس إلى قوة وحماس، وجرأة واندفاع.

ويمكن هنا أن يخطر بالذهن سؤال، بأنه إذا كانت الحياة بعد الموت لا تختصّ بالشهداء فقط، بل كلُّ البشر سوف يحيون بعد الموت ويذهبون إلى الحساب الإلهي، فلماذا إذن جعلنا الموضوع خاصاً بالشّهداء؟

وللجواب عن هذا السؤال نقول إنه، نعم، صحيح أن كلتي مرحلتي ما بعد الموت (الحياة البرزخية والحياة الأخروية) ليست مختصة بالشهداء فقط، بل هي حياة عامة لكل الناس، لكن هذه الحياة ليست هي نفسها وبمرتبة واحدة للكل. فالبعض له حياته البرزخية والأخروية المليئة بالعذاب والحسرات، والبعض الآخر له حياته البرزخية والأخروية المليئة بالسعادة والملذات، يقول الله تعالى عن أهل المعاصي والتعدّي على الحدود الإلهية، الذين سوف يكون مصيرهم إلى النار: ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى17.

وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى18.

وفي آية ثالثة قال تعالى: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ19.

ففي الوقت الذي نعلم فيه أن هؤلاء العصاة أموات لا إدراك ولا إحساس لهم، فإن الآية تثبت لهم حياة عذاب ومشقة، بحيث إنهم يتمنّون الخلاص منها ويخاطبون ملك العذاب بقولهم:﴿لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ لأنهم يرون أنَّ الموت آلاف المرات أفضل من حياة العذاب هذه.

فمن هنا يمكننا أن نفهم المراد من تلك الآيات التي تتحدّث عن حياة أخرى، ويمكننا أن نفهم معنى حياة الشهداء وأنهم ﴿أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ20، فبعد الموت والرحيل عن هذه الدنيا سوف يكون الشهداء أمام حياة برزخية وأخروية سعيدة، وسوف يلقون جزاء عذاباتهم وسعيهم ومجاهدتهم. حياتُهم هناك كلّها لذة وسعادة، خصوصاً أولئك الذين لم تتعلّق قلوبهم بمتاع الدنيا وجاهدوا أنفسهم بمشقة، وراقبوا أعمالهم وأدّوا تكاليف خالقهم، وهم صُفوة هذا الخلق من ﴿...النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ21.

وفي الحقيقة أننا لو أردنا المقايسة بين الحياة البرزخية والأخروية وبين الحياة الدنيوية فأقل ما يمكن قوله إنه لا يمكن إطلاق كلمة (حياة) على العالم الدنيوي، لأن الحياة الحقيقية والصادقة ليست إلا في الآخرة، فهي حياة خاصة بالإنسان الكامل والنزيه خاصة الشهداء الذين هم مورد بحثنا حياة خالصة صافية من الكدورات والمشقات، يقول الله تعالى: ﴿وَمَاهَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ22.

بناءً على كل ما تقدّم نرى أن الشهداء عندما يسقطون ويسيل دمهم ويفوزون بمقام الشهادة في سبيل الله، لا يموتون حقيقةً، بل ينتقلون إلى حياةٍ أكثرَ خلوداً ونعيماً، حياةٌ تكون الدُّنيا بكلِّ زينتها وملذّاتها وبريقها كألعوبة قياساً بالحياة الأخروية.

لكن صدقاً: هل سيشعرُ من يمتلكُ هذه العقيدةَ الصادقة وهذا الإيمان الجازم بأدنى قلق أو اضطراب من الموت، أثناء المعركة!

* الربيون عطاء حتى الشهادة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- سورة التوبة، الآية 28.
2- سورة الحج، الآية 40.
3- سورة الحديد، الآيتان 23-22.
4- سورة التغابن، الآية 11.
5- سورة آل عمران، الآية 166.
6- سورة التوبة، الآية 51.
7- سورة النساء، الآية 104.
8- سورة آل عمران، الآية 140.
9- سورة التوبة، الآية 52.
10- سورة آل عمران، الآية 145.
11- سورة آل عمران، الآية 154.
12- سورة آل عمران، الآية 156.
13- نهج البلاغة، الخطبة 11.
14- سورة التوبة، الآية 52.
15- سورة البقرة، الآية 154.
16- سورة آل عمران، الآيات 171-169.
17- سورة طه، الآية 74.
18- سورة الأعلى، الآيات 13-11.
19- سورة الزخرف، الآية 77.
20- سورة آل عمران، الآية 169.
21- سورة النساء، الآية 69.
22- سورة العنكبوت، الآية 64.

2014-10-16