تعيين الولي
أبحاث في الولاية
مما تقدم ظهر أنَّ أدلة ولاية الفقيه تفيد التعيين الوصفي، أي شأنيَّة الفقيه الجامع للصفات المتقدم ذكرها لتولي الأمر وقيادة الأمة، وأنَّ فعليَّة الولاية مع تعدد الجامع للصفات ليست للجميع بل لواحد منهم فقط، وهو الأعلم والأورع والأقدر على القيام بالأمر، أي الأكثر خبرة وكفاءة في إدارة البلاد ...
عدد الزوار: 99
دور الخبراء في تعيين الولي الفقيه
مما تقدم ظهر أنَّ أدلة ولاية الفقيه تفيد التعيين الوصفي، أي شأنيَّة الفقيه الجامع للصفات المتقدم ذكرها لتولي الأمر وقيادة الأمة، وأنَّ فعليَّة الولاية مع تعدد الجامع للصفات ليست للجميع بل لواحد منهم فقط، وهو الأعلم والأورع والأقدر على القيام بالأمر، أي الأكثر خبرة وكفاءة في إدارة البلاد وسياسة العباد.
لكن كيف تحصل الفعلية؟ وكيف يتم تشخيص الفقيه الأولى بالقيام بالأمر؟
فعندما يكون الفقيه معروفاً ومشهوراً عند الناس بكفاءته وصفاته، ومتعيناً عندهم، فالمسألة محلولة، لأنَّه يجب عليه التصدي للأمر وإقامة الحكم الإسلامي، وإحياء دين الله تعالى في جميع أبعاده، وقيادة الأمة لحفظ نظامها وحقوقها وإقامة العدل فيها، ويجب على الأمة معاونته ومعاضدته ونصرته وتأييده والالتزام بقيادته.
لكنَّ القضية عندما لا يكون معروفاً عندهم بشخصه ولا متعيناً لديهم، مع تعدد أصحاب الشأنية، والأهلية، فكيف يتعرف الناس إليه وكيف يتعين عندهم ومتى يجب عليه التصدي؟.
لحل هذه الإشكالية كان لا بدَّ من الالتجاء لأهل الخبرة في تشخيص الأجدر بالولاية، والأكثر خبرة وأهلية للقيام بالأمر، فإذا توصلوا لمعرفته شهدوا بذلك وقاموا بتعريفه للأمة، وعندها تعيّن عليه التصدي، ووجب على الأمَّة طاعته والالتزام بولايته.
من هم أهل الخبرة؟
الخبرة هنا لا بدَّ أن تتناسب مع الموضوع الذي يراد تشخيصه، فينبغي أن تتضمن الأمور التالية
1- القدرة على تشخيص الأعلم في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية.
2- القدرة على التمييز بين مراتب العدالة والورع والتقوى عند الفقهاء المطروحين للولاية.
3- القدرة على تقييم المهارات الإدارية عند الفقهاء، ومستويات قدرتهم على القيام بالأمر، بما يحتاجه ذلك من خصوصيات ومؤهلات.
وباختصار أهل الخبرة هنا هم القادرون على تشخيص ومعرفة الأقدر والأكثر أهليَّة في كل الصفات اللازمة لولاية الأمر، فلا يكفي مجرد القدرة على معرفة الأعلم في الاستنباط دون غيره، أو تشخيص الأورع والأعدل دون التفات إلى الجوانب الإدارية والسياسية، بل لا بدَّ من توخّي الدقة في اعتماد أهل الخبرة من ذوي العدالة والاطلاع الواسع والمعرفة الشاملة لأمور زمانهم, ليمكن الركون إلى نتائج دراستهم والاعتماد على تشخيصهم وشهادتهم.
وينبغي الالتفات إلى أنَّ قضية التعرف إلى الفقيه الأجدر بالولاية أخطر وأدق وأصعب من قضية التعرف على مرجع التقليد الأعلم، ذلك أنَّ التعاطي في قضية مرجعية التقليد كان يدور في دائرة الهمّ الخاص والفردي غالباً، وهي على أهميتها تبقى انعكاساتها في مجال محدود نسبياً،بينما ولاية الأمر من الشأن العام والخطير فلا يجوز أن تبقى في إطار الهم الفردي، فهي من مسؤولية الأمَّة كلَّ الأمَّة فلا يكتفى بها بشاهدين عادلين من ذوي الخبرة، قد يصيبان وقد يخطئان في التشخيص، وربما عارضهما غيرهما من أهل الخبرة. من هنا نشأت فكرة مجلس الخبراء.
مجلس الخبراء
إذاً لم تنشأ فكرة مجلس الخبراء من الفراغ, وليست من أجل احتكار السلطة وقطع الطريق على بعض الطامحين، بل هي فكرة جاءت استجابة لحاجة فعلية لا غنى عنها لتعريف الأمة على الفقيه الأعرف والأعدل والأقدر على القيام بالأمر دفعاً لمحاذير عدة أهمها:
1- الفوضى التي يمكن أن تنشأ نتيجة لعدم تسمية أهل الخبرة وعدم معرفة الأمَّة لهم.
2- الفراغ الذي يحدث عند رحيل الفقيه واحتياج الأمَّة إلى وقت أطول للتعرف على آراء الخبراء المتفرقين والمشتتين حسب الفرض.
3- إمكانية استغلال هذا الواقع من قبل الطامحين والمغرضين للتأثير على الناس والإخلال بالموازين الصالحة لتشخيص الأولى والأرجح.
فلا يجوز ترك الأمر للصدف والأهواء.
كما أنَّ الفكرة تأتي منسجمة مع النصوص الواردة في بيان تكليف الناس عند مضي إمام حجة وقيام حجة من بعده، من أنَّ عليهم أنَّ يبعثوا من ثقاتهم من ينظر لهم في الأمر ويتعرف إلى الذي صارت الوصية إليه ثم يرجع إلى قومه بذلك.
ففي صحيحة يعقوب بن شعيب قال: "قلت لأبي عبدالله: إذا حدث على الإمام حدثٌ كيف يصنع الناس؟ قال: أين قول الله (عز وجل)﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾( التوبة:122). قال: "هم في عذز ما داموا في الطلب وهؤلاد الذين بنتظروهم في عذر حتى يرجع إليهم إصحابهم"1.
ثم إنَّ اختيار الناس للخبراء يدخل في إطار تحمل الأمّة مسؤوليتها، وإقرارها بخبروية الخبراء، وهو بالتالي يختصر المسافات ويتيح فرصة الالتقاء بأسرع وقت، والتباحث والاتفاق على الولي المتعيّن، وتجنب البلاد والعباد مخاطر الفوضى والاضطراب التي يتركها خلو الموقع من صاحبه الأولى به.
مجلس الخبراء في الجمهورية الإسلامية
نص دستور الجمهورية الإسلامية في إيران على أنَّ الخبراء المنتخبين من قبل الشعب يبحثون ويتشاورون بشأن كافة الأشخاص الذين لهم صلاحية القيادة، فإذا وجدوا واحداً يملك امتيازاً خاصاً للقيادة فإنَّهم يعلنونه قائداً.
ومن الواضح أنَّ دور الخبراء هو الكشف عن الفقيه الأجدر والأقدر، وهم لا يقومون بالتعيين إلا بمعناه العلمي، فهم ليسوا مصدر ولايته وليسوا هم الذين ينصبونه، كما يظهر من خلال عبارة "فإنَّهم يعرّفونه للشعب" وهذا هو الدور الشرعي الذي ورد في بيانه الكثير من التصريحات على لسان الإمام الخميني الراحل رضوان الله عليه، وغيره من الشخصيات النافذة الذين شاركوا في صياغة الدستور.
يقول إمام الأمة رحمه الله: "ليست ولاية الفقيه أمراً أوجده مجلس الخبراء، إنَّ الله تبارك وتعالى هو الذي أوجد ولاية الفقيه وهي ولاية رسول الله...".
ويقول الشيخ جوادي الآملي في كتابه الحكومة الإسلامية: "إنَّ أعضاء مجلس الخبراء يشخِّصون نصب الفقيه الجامع أو عزله، وليسوا سبباً في النصب أو العزل، إنَّ القائد الإسلامي لا ينصَّب ولا يعزل أبداً من طريق الناس أو الخبراء".
فهم مندوبو الأمة ووكلاؤها في البحث والتعرف على من له الولاية، وليسوا من يمنحها للوليِّ, وهذه نقطة دقيقة في أصل ولاية الفقيه.
سؤال عن مجلس الخبراء ووظيفة الناس
يطرح بعض الناس السؤال التالي: لماذا يكون رأي مجلس الخبراء المنتخب من قبل الناس في إيران ملزماً للناس خارج إيران، مع أنَّهم لم يشاركوا في اختيار الخبراء؟ وبعبارة ثانية يقال: إنَّ مجلس الخبراء عندما يختار الوليَّ الفقيه فهو يختاره ضمن دائرة الجمهورية الإسلامية، ولا يختاره وليَّاً لكل المسلمين في العالم، فلماذا يفرض عليهم دون أخذ رأيهم ولا استشارتهم؟.
والجواب من جهات
الأولى: أنَّ دور الخبراء كما قدمنا ليس منح الولاية وإنَّما الكشف عن الأعلم والأورع والأقدر، وهذا الدور يحتاج إلى الخبرة ولا مدخلية للجنسية والانتماء القومي والإقليمي فيه مطلقاً، فيكفي في تحقيقه العدد الموجود فعلاً, وإن كانوا من داخل الجمهورية الإسلامية.
الثانية: أنَّ الخبراء يفترض بهم أن يكونوا على اطلاع تام بأحوال الأشخاص الذين يدور حولهم البحث ليتم تشخيص الأعلم والأقدر من بينهم، ونتيجة الواقع القائم فإنَّ الجمهورية الإسلامية هي البلد الوحيد الذي يتوفر فيه أكبر عدد من الفقهاء المؤهَّلين للقيام بالأمر، ويتوفر فيه عدد كبير من الخبراء بالمستوى الكافي، ومن هو من الخبراء خارج الجمهورية الإسلامية قد لا يكون اطلاعه على خصوصيات الأشخاص المطروحين بالمستوى المطلوب، أو يصعب الاستفادة من خبرته لبعده، مع كفاية العدد الموجود داخل الجمهورية الإسلامية ووفائهم بالمهمة بالشكل المطلوب.
الثالثة: إنَّ مجلس الخبراء لا يعيّن الوليَّ لخصوص الجمهورية الإسلامية كما توهَّم أصحاب الإشكال.
الرابعة: إنَّ مَن يشخصِّ مجلسُ الخبراء أنَّه الأقدر والأجدر يصبح وليّاً لكلِّ المسلمين في العالم على قاعدة وحدة الولاية المتقدم بحثها، وإن لم يصرح بذلك الدستور الإيراني، ولم ينص عليه الخبراء في بيانهم وإعلامهم لاعتبارات سياسية معروفة يمنعهم من التصريح به وإعلانه.
للمطالعة
الحكومة الإسلامية هي حكومة مشروطة
الحكومة الإسلامية لا تشبه أشكال الحكومات الموجودة، فليست هي حكومة استبدادية يستبدّ فيها رئيس الدولة برأيه، عابثاً بأموال الناس ورقابهم، ويتصرف بهم كما يحلو له، فيقتل من شاء، وينعم على من شاء، ويهدي أموال وأملاك الشعب إلى من شاء. فالرسول وأمير المؤمنينوسائر الخلفاء لم يكن لهم مثل هذه الصلاحيات، فحكومة الإسلام ليست استبدادية ولا مطلقة بل مشروطة، ولكن ليست مشروطة بالمعنى الفعلي المتعارف، وهو تبعية سنّ القوانين بناءاً لآراء الأشخاص والأكثرية، وإنما هي مشروطة بمعنى أنَّ القائمين بالأمر يتقيّدون بمجموعة الشروط والقواعد المبينة في القرآن والسنة، وهي نفس أحكام الإسلام وقوانينه التي يجب مراعاتها وإجراؤها. من هنا كانت الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون الإلهي على الناس، ويكمن الفرق الأساسي بين الحكومة الإسلامية والحكومات المشروطة، الملكية منها والجمهورية، في أن ممثلي الشعب أو ممثلي الملك في تلك الأنظمة... هم الذين يشرّعون، في حين تنحصر سلطة التشريع في الإسلام بالله عزّ وجلّ، فالشارع المقدس في الإسلام هو المشرّع الوحيد، وليس لأحد أيّاً كان أن يشرّع، وليس لأحد أن يجري وينفّذ أي قانون غير حكم الشارع. لهذا السبب فقد استبدل الإسلام بالمجلس التشريعي الذي هو أحد المجموعات الثلاث للحكومة مجلساً آخر للتخطيط، يعمل على تنظيم سير الوزارات في أعمالها تحت ظل الإسلام, وفي تقديم خدماتها في جميع المجالات لجميع الناس2.
*ولاية الفقيه في عصر الغيبة،إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط8، نيسان 2009، ص79-90.
1- الكليني- الكافي-دار الكتب الاسلامية،آخوندي- الطبعة الخامسة/ج1/ص378، الحديث الأول.
2- الخميني – روح الله الموسوي - منهجية الثورة الإسلامية - ص 163.