يتم التحميل...

النظرة الإسلامية في الموت

الجهاد

ثمة اتجاهات متباينة في نظرتها إلى الموت. فاتّجاه يرى أنّ علاقة الإنسان بالعالم، وعلاقة الروح بالجسد، هي نوع من العلاقة التي تربط السجين بالسجن، وغريق البئر بالبئر والطير بالقفص.

عدد الزوار: 121

أولاً: ما هي طبيعة الموت؟

ثمة اتجاهات متباينة في نظرتها إلى الموت.

- فاتّجاه يرى أنّ علاقة الإنسان بالعالم، وعلاقة الروح بالجسد، هي نوع من العلاقة التي تربط السجين بالسجن، وغريق البئر بالبئر والطير بالقفص.

والموت في رأي هذا الاتّجاه الفكري خلاص وحريّة، والانتحار بموجبه مشروع.

وتنسب إلى (ماني) المعروف هذه النظرية، وبموجبها يكتسب الموت صفة إيجابية مطلوبة، إذ إنّه نجاة من سجن وخروج من بئر وتحرر من قفص، وليس فيه ما يدعو إلى الأسف بل إنّه يدعو إلى الابتهاج.

- واتّجاه ثان يرى أنّ الموت عدم وفناء، خلافاً للحياة التي هي وجود وبقاء.. والإنسان يميل غريزياً وبالبداهة إلى ترجيح الوجود على الفناء، ولذلك فهو يفضل الحياة - بأي صورة كانت - على الموت. يتحدث (المولوي) عن (جالينوس) الطبيب الاسكندراني المعروف أنّه قال: إنّي أفضل أن أبقى حيّاً حتى ولو قدر أن أعيش في بطن بغلة ورأسي خارجها. هذا الاتّجاه ينظر إلى الموت نظرة سلبية تماماً.

- والاتّجاه الآخر يرفض أن يكون الموت إبادة وفناء.. ويرى أنّه انتقال من عالم إلى آخر، ويرفض أن تكون علاقة الإنسان بالعالم، وعلاقة الروح بالجسد، من نوع علاقة السجين بالسجن، أو الغريق بالبئر أو الطير بالقفص، ويذهب إلى أنّها كعلاقة الطالب بالمدرسة وعلاقة الفلاح بالمزرعة.

الطالب يعاني في دراسته مصاعب متعددة كابتعاده عن الأهل والأحبة وعن الوطن أحياناً، ويتقيد بجدران الصف والمدرسة.

لكن الطريق الوحيد لسعادة هذا الطالب في المجتمع ينحصر في إنهاء دراسته بنجاح.

والمزارع يتحمل في حقله أنواع التّعب، ويعاني من ابتعاده عن أهله وأطفاله. لكن عمله في المزرعة هو الذي يوفر له وسيلة حياة مرضية في كنف عائلته طول أيّام السنة.

ثانياً: الاتجاه الأصيل في نظرته للموت

وكيف يستقبل الموت أصحاب هذا الاتّجاه الأخير؟
هؤلاء يخافون من الموت وينفرون منه إن كانوا قد أضاعوا عمرهم، وأتلفوا حياتهم، وارتكبوا المعاصي والآثام.. لكنهم يستقبلون الموت ببشر وسرور، ويترقبونه بفارغ الصبر إن كانوا قد أدوا ما عليهم من مسؤولية في الحياة، ونجحوا في اجتياز المرحلة الدنيويّة، شأنهم في ذلك شأن الطالب الذي جدّ واجتهد بنجاح في دراسته ويوّد بلهفة أن يعود إلى وطنه وإلى أحضان أهله وأحبائه، وكالمزارع الذي بذل غاية جهده في عمله، ويأمل بشوق شديد أن ينتهي من عمله، ويأخذ ما جنته يداه إلى بيته.

هذا الطالب يصارع رغبته في العودة إلى وطنه قبل انتهاء دراسته، ويأبى على نفسه أن يترك دراسته ناقصة. وهكذا المزارع لا يضحي بعمله وواجبه من أجل تحقيق أمله.

شأن أولياء الله شأن هذا الطالب. ينظرون بعين الشوق والأمل إلى الموت باعتباره نقلة إلى العالم الآخر، وهذا الأمل يعتمل في نفوسهم، فلا يقرّ له قرار، يقول الإمام عليّ عليه السلام: "ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب"1.

ومع هذا، فأولياء الله لا يلقون بأنفسهم نحو الموت، إذ يرون العمر فرصة وحيدة للعمل والتكامل، ويعلمون أنّهم يستطيعون اجتياز مراحل أسمى على سلّم التكامل إن استمروا على قيد الحياة، فيطلبون من الله أن يطيل أعمارهم.
ومن هنا فلا تعارض بين شوق المؤمنين إلى الموت وطلبهم طول العمر.

القرآن الكريم يخاطب اليهود الذين زعموا أنّهم (أولياء الله) قائلاً: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ2.

ثمّ يقول: ﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ3.

هؤلاء هم من النوع الذي أشرنا إليه آنفاً في القسم الثالث من وجهات النظر إلى الموت.

ثالثاً: متى يُطلب الموت؟

أولياء الله يعرضون عن طلب طول العمر في موضعين:

الأوّل: حين يشعرون بعدم قدرتهم على إحراز مزيد من النجاح في حياتهم، بل يحسون بالتناقض4 بدلاً من التكامل.

يقول الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام في دعائه: "إلهي وعمّرني ما دام عمري بذلة في طاعتك، فإن كان مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك"5.

الثاني: الشهادة، فأولياء الله يطلبون من الله الموت في موضع الشهادة دونما شروط.

لأنّ الشهادة تنطوي على الخاصيّتين معاً: خاصيّة العمل، وخاصيّة التكامل.

والحديث النبوي: "فوق كلّ ذي برٍّ برّ، حتى يقتل في سبيل الله، وإذا قتل في سبيل الله، فليس فوقه برّ"6 يؤكّد هذه الحقيقة.

ومن هنا الإمام عليّ عليه السلام يكاد يطير فرحاً حين يسمع من النبيّ أنّ مصيره الشهادة.

وعليّ عليه السلام تحدّث عن الموت كثيراً، وممّا قاله في هذا الصدد: "والله ما فجأني من الموت وارد كرهته ولا طالع أنكرته، وما كنت إلّا كقارب ورد وطالب وجد"7.

هذه النظرة إلى الموت بلغت من العمق والرسوخ في نفس (عليّ) بحيث رفع عقيرته حين هوى السيف على مفرق رأسه صبيحة التاسع عشر من رمضان مردداً: "فزت ورب الكعبة"8.

والحسين بن عليّ عليه السلام يروي عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال له: "إنّ لك منزلة عند الله لا تنالها إلّا بالشهادة"9.

إلى هنا، حللنا مسألة الموت والشهادة في (الإطار الفردي).

وتبيّن لنا: أنّ الموت على مسرح الشهادة فوز للشهيد ما بعده فوز، ويستحق الفرح والابتهاج في ذكريات استشهاد أئمتنا.

ومن هنا يقول السيد ابن طاووس: لو لم تصل إلينا الأوامر بالتعزيّة، لأقمنا حفلات الابتهاج في ذكريات استشهاد أئمّتنا.

ومن هنا أيضاً، يحقّ للمسيحيين أن يقيموا حفلات سارة بمناسبة استشهاد المسيح - كما يعتقدون - والإسلام يصرح بأنّ الشهادة فوز للشهيد لا غير.

رابعاً: الإطار الاجتماعي للشهادة

التحليل السابق - كما ذكرنا - يقتصر على (الإطار الفردي) لمسألة الشهادة.. ولهذه المسألة - في نظر الإسلام - إطار آخر هو (الإطار الاجتماعي).

الإطار الاجتماعي للشهادة ينظر إلى المسألة باعتبارها ظاهرة لها جذورها الممتدة في أعماق المجتمع، ولها آثارها الجسيمة التي ستتركها على الحياة الاجتماعية.

موقف المجتمع من الشهيد ومن حادثة الشهادة لا يرتبط بالشهيد ذاته فقط بما حقّقه الشهيد من نجاح فردي، أو بما مُني به من فشل فردي فحسب.. بل إنّ هذا الموقف يرتبط برد الفعل الذي سيبديه المجتمع تجاه الشهيد، وتجاه جبهة الشهيد من جهة، وتجاه الجبهة المعارضة للشهيد من جهة أخرى.

الشهيد يرتبط بمجتمعه عن طريقين:

الأوّل: ارتباطه بأفراد حرموا من وجوده ومن معطياته.

ووقع الشهادة على هؤلاء الأفراد مؤلم محزن. وإن بكى هؤلاء على الشهيد فإنّما يبكون في الحقيقة على أنفسهم.

الثاني: ارتباطه بالأفراد الذين ثار الشهيد بوجههم، لما بثّوه في المجتمع من إثم وفساد.

أي ارتباطه بالجو الفاسد الذي ناضل الشهيد لمحوه وسقط صريعاً على طريق نضاله.

هذا الارتباط يلقي على المجتمع أوّل درس من دروس الشهيد.

هذا الدرس يتلخّص في الطلب من أفراد المجتمع عدم السماح للأجواء الفاسدة أن تظهر في المجتمع..

شهادة الشهيد تطرح في إطار هذا الدرس على أنّها أمر مؤلم مفجع، لكن هذا الألم يتحوّل في نفوس الأفراد إلى سخط على الذين ثار الشهيد بوجههم، وعلى الذين قتل الشهيد بأيديهم..

وهذا السخط يحول دون ظهور قتلة جناة في المجتمع.

وهذا الدرس نتلمس آثاره في الذين تربوا في مجالس العزاء الواقعية على الحسين عليه السلام، إنّهم يأبون أن يتشبهوا قيد أنملة بقتلة الحسين عليه السلام.

وللشهادة دروس اجتماعية أخرى. المجتمعات الإنسانية لا تخلو من أجواء فاسدة تتطلب الشهادة.

وهنا ينبغي دفع مشاعر أفراد المجتمع على طريق الاستشهاد، عن طريق سرد ما قام به الشهيد من أعمال بطولية عن "وعي" و"اختيار".

فعن هذا الطريق ترتفع مشاعر أفراد المجتمع إلى مستوى مشاعر الشهيد، وتنطبع بطابعها ومن هنا قلنا إنّ البكاء على الشهيد: اشتراك معه فيما سجله من ملاحم، وتعاطف مع روحه، وانسياق مع نشاطه وتحركه وتياره.

خامساً: كيف نوجد المشاعر اتجاه الشهيد؟

وهنا يحقّ لنا أن نطرح هذا السؤال: هل إن مجالس الفرح والرقص والسكر والعربدة - كما هو مشهود في مجالس المسيحيين الدينية - بقادرة على خلق هذه المشاعر الاجتماعية تجاه الشهيد، أم مجالس البكاء؟

يخطئ من يظن أنّ البكاء ظاهرة سلبية تنمّ دائماً عن مشاعر الحزن والألم.

الضّحك والبكاء من خصائص الإنسان، الحيوانات تشعر باللذة والألم، لكنها لا تعبر عما تحسه بضحك أو بكاء.

الضّحك والبكاء مظهران لأشدّ حالات إثارة العواطف البشرية.

للضّحك أنواع وأقسام لسنا الآن بصدد الحديث عنها، وهكذا البكاء.

والبكاء يرافق عادة نوعاً من الرقة والهياج، فدموع الشوق والحب معروفة للجميع.

وفي حالة البكاء وما يصحبه من رقة وهياج يشعر الإنسان بقربه من حبيبه الذي يبكي عليه، أكثر من أي وقت آخر. بل يشعر في تلك الحالة باتحاده مع الحبيب.

الضحك والسرور لهما غالباً طابع (التوغل في الذاتية)، والبكاء له - على الأكثر - طابع (الخروج من أغلال الذاتية)، وطابع نكران الذات، والذوبان في ذات المحبوب.

الضحك بهذا المنظار يشبه (الشهوة) التي ليست سوى الانغماس في الذات.. والبكاء يشبه (الحب) الذي هو خروج من إطار الذات. الإمام الحسين عليه السلام بما سجله من مواقف على ساحة الشهادة يملك قلوب مئات الملايين من أبناء البشر.

ولو قدر لعلماء الدين - وهم الأمناء على صيانة هذا الانشداد إلى الحسين عليه السلام - أن يستثمروا هذه المشاعر الإنسانيّة بدفعها على طريق الحسين عليه السلام وبرفعها إلى مستوى آمال الحسين عليه السلام وروح الحسين عليه السلام، لأمكنهم أن يصلحوا العالم بأسره. سر بقاء الحسين عليه السلام يكمن من جهة في البعد العقلي لثورته، وفيما تتميز به من منطق إنساني سليم ومن جهة أخرى في جذورها الضاربة في أعماق المشاعر والعواطف.

البكاء على الحسين عليه السلام يصون بقاء هذه الجذور العاطفية في النفوس ويصونها من الضعف والزوال، ومن هنا نفهم حكمة توصيات أئمتنا في البكاء على الحسين عليه السلام.

لكن ظاهرة البكاء تبقى دونما عطاء - كما قلنا - إن لم تستثمر على الطريق الصحيح.

سادساً: تربة الشهيد

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علّم ابنته ذكراً عرف فيما بعد بتسبيح الزهراء، يكبّر فيه الذاكر 34 مرّة، ويحمد الله 33 مرّة، ويسبحه 33 مرّة.

ومن أجل أن تضبط الصديقة الطاهرة أعداد التكبير والحمد والتسبيح في ذكرها، بادرت إلى أن تعمل لنفسها مسبحة، وما كان منها إلّا أن توجهت إلى قبر حمزة بن عبد المطلب لتأخذ منه تربة تعمل منها مسبحتها!

ولهذا الاختيار.. اختيار تربة الشهيد حمزة، مدلوله العميق.

يمكن عمل المسبحة من خشب أو حجارة أو أي تربة أخرى. لكن اختيار تربة الشهيد يدلّ على احترام الشهيد والشَّهادة، بل يعني تقديس الشّهادة.

بعد استشهاد الحسين عليه السلام، أضحت تربة الحسين عليه السلام محطّاً لأنظار المتبرِّكين بصعيد الشّهادة.

أتباع مدرسة آل البيت لا يسجدون على المأكول والملبوس استناداً إلى ما ورد من نهي عن ذلك، ويضعون جباههم أمام الله على الصخر أو التراب، لكنهم يفضلون - استناداً إلى تعاليم أئمّتهم - أن يمرغوا جباههم أمام ربهم على تربة الشهيد، على تربة الحسين عليه السلام.

السّجود يصح على أي تربة، لكن تربة كربلاء معطرة بشذى الشهادة، وتفوح منها رائحة القرب من الشهيد. والحث على السجود عليها هو حثّ على تذكر مكانة الشهيد وقيمة الشهادة باستمرار.

سابعاً: نموذج ليلة الشهيد

شاع في عالمنا المعاصر اتّخاذ يوم من أيّام السنة لتكريم فئة من الفئات ويقترن ذلك اليوم باسم تلك الفئة كيوم العمّال، ويوم المعلم، ويوم الأم.

لكننا لم نسمع بتخصيص يوم لتكريم الشهيد، وفي الإطار الإسلامي، تميز يوم العاشر من محرّم وحده بأنّه يوم الشهيد10.

ها نحن نجتمع في ليلة هذا اليوم الكبير لنعيش منطق الشهادة، منطق العشق الإلهي الممزوج بمنطق الإصلاح الاجتماعي، منطق الإنسان العارف المصلح، منطق مسلم بن عوسجة، وحبيب بن مظاهر وزهير بن القين وأمثالهم من الشهداء الذي يمثلون منطق الشهادة وشخصية الشهيد خير تمثيل.

وسام الحسين عليه السلام:
في مثل هذه الليلة اجتمع الحسين عليه السلام بأصحابه ليقلِّدهم وساماً يبيّن مكانتهم ومنزلتهم، وليميط اللثام عن صمودهم وإصرارهم على اختيار طريق الشهادة.

جمع الحسين عليه السلام أصحابه عند قرب الماء - وفي رواية عند قرب المساء- فخطبهم قائلاً: "أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين".

ثمّ قال: "أما بعد فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى، ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، جزاكم الله عني جميعاً. ألا وإنّي أظن أن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم مني ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري..."11

تقول الرواية: إنّ الحسين عليه السلام جمع أصحابه عند قرب الماء، أو عند قرب المساء، فإن كانت (قرب المساء) فتعني قرب أمسية يوم التاسع من محرم. أما إن كانت (قرب الماء) فتعني في الخيمة المخصّصة لقرب الماء في معسكر الحسين عليه السلام.

وربما جمع الحسين عليه السلام هؤلاء في هذه الخيمة لأنّها أضحت خالية من الماء... إذ إن أرباب المقاتل يذكرون أن آخر وجبة من الماء حصل عليها الحسين عليه السلام كانت ليلة العاشر من محرم، وفي هذه الليلة شرب من كان مع الحسين عليه السلام، ثم قال لأصحابه: اغتسلوا بما بقي من هذا الماء، فإنّه آخر حظكم من ماء الدنيا.

ويبتدئ الحسين عليه السلام - في خطبته - بالثناء على الله تعالى وحمده على كل حال.

عبارات الحمد والشكر تتردّد على لسان الحسين عليه السلام دوماً، معبرة عن الارتباط الوثيق بينه وبين الله تعالى.

فقد أجاب الفرزدق حين قال له: قلوب الناس معك وسيوفهم عليك: "إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتدّ من كان الحقّ نيته والتقوى سريرته"12.

منطق أصحاب الحسين عليه السلام:
قال له إخوته، وأبناؤه، وبنوا أخيه، وأبناء عبد الله بن جعفر: ولم نفعل؟ لنبقى بعدك...؟! لا أرانا الله ذلك أبداً.

وقال مسلم بن عوسجة: "أنحن نخلي عنك ولما نعذر إلى الله في أداء حقكّ؟ أما والله لا أفارقك حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك".

وقال سعد بن عبد الله الحنفي: "والله لا نخليك حتى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيك، والله لو علمت أنّي أقتل ثمّ أحيا أحرق حيّاً ثمّ أذرُّ، يفعل بي سبعين مرّة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك، وإنّما هي قتلة واحدة".

وقال زهير بن القين: "والله لوددت أنّي قتلت، ثمّ نشرت ثمّ قتلت حتى أقتل كذا ألف قتلة، وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك"13.

عند ذلك أخبرهم الحسين عليه السلام باستشهادهم يوم غد.. فهللوا وكبروا وحمدوا الله على ما أنعم عليهم.. هذا هو منطق الشهيد..

لو لم يكن منطق أصحاب الحسين عليه السلام منطق شهادة لآثروا ترك الحسين عليه السلام.. لأنّ الحسين عليه السلام سيقتل غداً لا محالة.. فما فائدة بقائهم مع الحسين عليه السلام؟!

والحسين عليه السلام نفسه.. سمح لهم بالمغادرة.. ولم يصرّ عليهم بذلك لو كان منطق الحسين عليه السلام غير منطق الشهادة، لأفتى بحرمة بقائهم، لأنّ بقاءهم يعرضهم لخطر الموت والتهلكة.

لكن الشهداء أبوا المغادرة، والحسين عليه السلام أبى أن يصرّ عليهم، بل سُرَّ واستبشر بموافقتهم، لأنّ منطق الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه منطق الشهيد، وهذا المنطق يرى أنّ المجتمع الميت بحاجة إلى دم يحرك كيانه المشلول.

الشهادة لا تستهدف التغلب على العدو وحسب، بل تستهدف تسجيل المواقف البطولية وتدوين الملاحم الإنسانيّة.

وهكذا كان.

لقد بقيت ملحمة كربلاء وستبقى مشعلاً يضيء الطريق أمام الأجيال، ويصرخ بوجه الظالمين في كلّ زمان ومكان، وهزّة تنبعث في جسد الأمّة متى ما اعترى هذا الجسد خمود وركود.

* كتاب الجهاد والشهادة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- نهج البلاغة: الخطبة 193.
2- سورة الجمعة، الآية: 6.
3- سورة الجمعة، الآية: 7.
4- في الأصل: بتناقص.
5- الصحيفة السجادية، ص92. (مِنْ دُعَائِه عَلَيْه السَّلَامُ فِي مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ ومَرْضِيِّ الأَفْعَالِ).
6- تقدم تخريجه سابقاً.
7- نهج البلاغة، ص378.
8- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج1، ص385.
9- الشيخ الصدوق، الأمالي، ص217.
10- حبذا لو اتّخذت الشعوب الإسلامية بأجمعها هذا اليوم يوماً للشهيد، لتستلهم جميعها من هذه الذكرى ما يعينها على الوقوف بوجه أنواع التحديات التي تواجهها (المعرِّب).
11- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص248.
12- الكامل، ج3، ص276. الطبري، ج4، ص290.
13- الطبري، ج4، ص318.

2014-05-21