يتم التحميل...

وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة

أبحاث في الولاية

لقد مهَّد الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف لغيبته وانقطاعه عن الناس بما عرف بالغيبة الصغرى، والتي نصَّ فيها على أشخاص بأسمائهم وجعلهم وكلاءه ونوابه، إليهم يرجع الناس وهم يرجعون إلى الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأما بعد وفاة السفير الرابع فقد جعل الإمام الولاية من بعده ...

عدد الزوار: 91

تمهيد

لقد مهَّد الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف لغيبته وانقطاعه عن الناس بما عرف بالغيبة الصغرى، والتي نصَّ فيها على أشخاص بأسمائهم وجعلهم وكلاءه ونوابه، إليهم يرجع الناس وهم يرجعون إلى الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأما بعد وفاة السفير الرابع فقد جعل الإمام الولاية من بعده بما دلتنا عليه الروايات المتقدمة لأشخاص يحملون صفات معيِّنةً محددة تقدم ذكرها أيضاً، ولم ينصّ عليها لشخص واحد بعينه، وعند توفر الشروط في واحد من الفقهاء يتعين تلقائياً، لكن لو فرضنا تعدد الفقهاء الذين تتوفر فيهم الشروط المتقدمة، فهل تكون الولاية لكل واحد منهم أو لمجموعهم أو لأحدهم فقط؟ ولعل هذا من أهم أبحاث ولاية الفقيه في العصر الحاضر.

وقبل الدخول في صلب الموضوع ينبغي الإشارة إلى أنَّ البحث عن وحدة الولاية وتعددها سيكون بحسب القاعدة الأوليّة، أي ما ينبغي أن يكون عليه الأمر في الظروف الطبيعية, بعيداً عن الظروف القاهرة التي تفرض التعدد أو تفرض الوحدة. فإذا كانت القاعدة الأولية تقتضي وحدة الولاية، ومنعت الظروف من توحيد الولاية وفرضت التعدد، فعندئذ لا مانع منه، كما هو كل حكم أولي تقتضي الضرورة رفع اليد عنه، وهو أولى من ترك الأمور كلياً. كما أنَّ القاعدة الأولية لو فرضت التعدد، وكان الظرف يقتضي الوحدة فإنَّه لا مانع منها عندئذ.

كما أنّه لا يشك بأنَّ وحدة ولاية الفقيه غالباً ما تكون هي الخيار الأفضل للأمَّة، لكنَّ البحث لن يكون في الأفضل، بل في الأصل ومقتضى القاعدة. وليس البحث بلحاظ شخص استثنائي، أو زمن استثنائي، يلزمنا بالوحدة أو بالتعدد كما يحدث أحياناً، وإنَّما بقطع النظر عن الأشخاص والخصوصيات الزمانية والمكانية.

أدلة وحدة ولاية الأمر

إذا اتضح ذلك نقول: إنَّ القاعدة الأولية تقتضي وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة ودليل ذلك:

أولا: إنَّ ما يحكم به العقلاء في جميع الأمم والشعوب والأديان أنَّ وجود رأس واحد لهذه الجماعة هو أمر لازم لصالح الجماعة, وأنَّ تعدد القادة سوف يؤدي إلى الإخلال بسير الأمة نحو الرقي والكمال المادي والمعنوي، وسوف يفرض الإنقسام على الناس ويتيح الفرصة لتفكّك الجماعة, واذا كان المسلمون أمة واحدة، تحمل هدفاً واحداً وعقيدة واحدة ومصادر مسيرتها في الحياة واحدة, فلا بد وأن يكون الشخص الذي يسير بها واحدا.

ثانيا: روح الشريعة: فإنَّ الشريعة الإسلامية في كلِّ أحكامها السياسية والاجتماعية والأمنية والعسكرية فرضت الأمة الإسلامية أمة واحدة، فرضت الوطن الإسلامي وطناً واحداً، وليس فيها ما يفرض تعدد الكيانات والأمم الإسلامية، وقد بقي هذا الأمر يعيش في مرتكزات المسلمين في مختلف العصور حتى جاء الاستعمار الحديث بثقافة الكيانات المتعددة، وقسّم الأمم والأوطان، لأهداف سياسية معروفة.

ثالثاً: النصوص الصريحة التي دلت على وحدة القيادة في العالم الإسلامي، منها:

1- الرواية المعتبرة عن الإمام الصادق عليه السلام "إنَّما للمسلمين رأس واحد"1.

2- عن الفضل بن شاذان عن الامام الرضا عليه السلام: "فإن قيل فلم لا يجوز أن يكون في الأرض إمامان في وقت واحد أو أكثر من ذلك؟ قيل لعلل منها: أنَّ الواحد لا يختلف فعله وتدبيره، والإثنين لا يتفق فعلهما وتدبيرهما، وذلك أنَّا لم نجد اثنين إلا مختلفي الهم والإرادة, فإذا كانا اثنين ثمَّ اختلف همهما وإرادتهما وكان كلاهما مفترضي الطاعة لم يكن أحدهما أولى بالطاعة من صاحبه, فكان يكون في ذلك اختلاف الخلق والتشاجر والفساد. ثم لا يكون أحد مطيعا لأحدهما إلا وهو عاصٍ للآخر فتعم المعصية أهل الأرض.."2.

فرضية تعدّد الولي

بالإضافة إلى ما ذكرناه من أدلة تؤكد الوحدة, سنتعرض لاحتمال تعدد الولي, لنرى مبرراته الشرعية ولوازمه العلمية, ويمكن تصور التعدّد من خلال عدّة صور:

الصورة الأولى: ثبوت الولاية الفعلية لكل فقيه تتوفّر فيه الشروط، بحيث يكون لكل فقيه ولاية مستقلة عن ولاية الباقين، مهما كثر عددهم.

إلا أنَّ هذا الاحتمال لا يمكن المصير إليه، لأنَّه يلزم منه الاختلاف والفساد، وانعدام النظام، بينما المفروض أنَّ ولاية الأمر إنَّما تشرَّع لحفظ النظام، وإدارة شؤون الناس، وحفظ الحقوق، وإقامة الدين، فهي لدفع الفساد لا لإحداثه، فهذا الاحتمال ساقط قطعاً.

الصورة الثانية: ثبوت الولاية الفعلية للمجموع لا للجميع، أي ثبوت ولاية واحدة لمجموع الفقهاء الذين تتوفر فيهم الشروط حال اجتماعهم، دون أن يكون للأفراد ولاية.

ومقتضى هذا الاحتمال أن يكون ما أجمعوا عليه حجّة على الناس ملزماً لهم، فلا بد من اجتماعهم وإجماعهم على رأي واحد لتحصل القرارات الملزمة في النظام.

وهذا الاحتمال أيضاً لا يمكن المصير إليه ولا الالتزام به، فهو لا يدل عليه دليل، ولا يمكن استنباطه من أدلة ولاية الفقيه النقلية فضلاً عن الدليل العقلي. أضف إلى أنَّ آلية تحصيل القرارات الملزمة تنحصر في اجتماعهم، وهو أمر لا يتيسّر، وإن تيسّر نادراً فهو لا ينفع في المواقع التي تحتاج إلى متابعات يوميّة وإصدار الأوامر والنواهي والتعليمات كلّما اقتضى الشأن ذلك.

كما أنّ التنازل عن الإجماع والاكتفاء بالأكثريّة حضوراً وآراءً لا دليل على شرعيّته وإنْ اعتمدته الديمقراطيّة الحديثة، ولا يكفي اتفاقهم على اعتماد نظام الأكثرية لأنَّه لا يوجد دليل شرعي على أنَّ من صلاحيتهم ذلك. فهذا الاحتمال أيضاً ساقط كسابقه.

الصورة الثالثة: ثبوت شأنيّة الولاية لجميع الفقهاء الذين تتوفّر فيهم الشروط، بمعنى صلاحيّة كلّ واحد منهم للولاية، وأهليّته لها، إلا أنَّ الولاية الفعليّة لا تكون إلا لواحد منهم فقط في كلّ دائرة من دوائر الأمة الإسلاميّة، فعند تعدّد الفقهاء في الدائرة الواحدة لا تكون الولاية الفعلية إلا لواحد منهم، وعند تعدّدهم بتعدد الدوائر يكون كل واحد منهم ولياً بالفعل في دائرته.

وهذا الاحتمال هو الأشهر عند القائلين بتعدد ولاية الفقيه، حيث يدَّعي أصحابه أنَّه لا يلزم منه الفساد الذي اقتضاه الاحتمال الأول، ولن يكون هناك تعارض بين أولياء الأمور الذين يعمل كل واحد منهم في دائرة مستقلة عن الأخرى، واستدلوا على ذلك بأن الأدلة السابقة الشرعيّة مطلقة بمعنى أنّها تنطبق على كلّ فقيه جامع للشرائط، غير مختصّة بفقيه واحد إلاّ في الحالات التي يلزم من ثبوت الولاية لكلّ واحدٍ (التعدّد) الفساد،وتبقى سائر الحالات على حالها.

وهو ما يصوره هذا الاحتمال، بالضبط كما هو الأمر في القضاء، فإنَّ مقبولة عمر بن حنظلة التي يستدلّ بها على ولاية الفقيه، قد الاستدلال بها الكثير من الفقهاء على ولاية القضاء، وهي ذاتها لم تمنع من تعدد القضاة حتى في البلد الواحد، ما لم يلزم منه الفساد، فلذا منعوا أن ينظر اثنان من القضاة في قضية واحدة مما يفتح الاحتمال على الاختلاف في الحكم وتكوين النزاع.

مناقشة التعدد

إلا أنَّ هذا الاحتمال أيضاً مما لا ينبغي المصير إليه ولا الالتزام به لعدة أمور:

1- إنّنا عندما نريد استفادة الإطلاق من الكلام الوارد من المعصوم لا بد وأن يكون الكلام قدر ورد لبيان جعل الولاية للجميع فعلا، أي نصب كل فقيه للولاية، ولكنَّ الروايات لم تكن بصدد بيان ذلك، بل أرادت بيان الصفات المعتبرة التي ينبغي توفرها في الولي. ثم إننَّا إذا أردنا أن نفهم كلام المعصوم لا بدَّ وأن نفهمه ضمن القرائن العامة التي يعيشها الناس في عصر الإمام عندما صدر منه الكلام, ومن القرائن العامة ملاحظة المرتكزات الثابتة في أذهان الناس منذ صدر الإسلام حتى العصور القريبة الماضية، وهي التي تتضمن وحدة الولي والقائد ومن بيده الأمر وإليه يرجع الناس في أمورهم العامة، وهذا يمنع من شمول الأدلّة الشرعية السابقة - التي استدلوا بها - لكلّ فقيه بمفرده، وهذا يعني عدم ثبوت التعدّد بنحو فعليٍّ لكلّ فقيه.

2- إنَّ تقسيم الأمة والبلاد الإسلامية إلى دوائر متعدد، يخالف ظاهر كلِّ الأدلة الشرعية التي كانت تنظر إلى الأمة الإسلامية كوحدة غير مجزأة، ولم يلحظ في شيء من الخطابات الشرعية أنَّها فرضت الأمة وحدات متعددة، وقد تقدم.

3- إنَّ تعدد الدوائر لن يقف عند حدٍّ معين، فإنَّ التجزئة إذا أمكنت فلن تتوقف حتى في المدينة الواحدة التي يمكن فرضها أكثر من دائرة، كما هو الأمر في الدوائر البلدية والإدارية، وهذا بالنسبة لولاية الأمر غاية في الفساد، يقطع بعدم رضا الشريعة وصاحبها، والالتزام بتقسيمات محدودة لا معنى له، ولا يمكن تحديد ضابطته، فهل نعتمد أساس الجغرافيا والتجزئة الطبيعية أو الأساس اللغوي أو القومي أو غير ذلك؟! وكل هذه الأسس لا يعترف بها الشرع كمنطلقات للفرز والتقسيم.

4- الكثير من القضايا التي هي بحجم الأمة، وتعني الإسلام ككل، مَن الذي سيبتُّ بها على فرض التعدد؟! فلو دهم المسلمين عدو، فالأدلة الشرعية تفرض وجوب الدفاع على كلِّ الأمة دون فرق بين القريب والبعيد، فعندئذٍ كيف تكون الولاية ولمن وعلى من؟! ومن الذي يشخص المصلحة والموقف ويصدر الأمر؟!

وهكذا يظهر أنَّ هذا الاحتمال يلزم منه الفساد كما هو الحال في الاحتمال الأول، لا كما ادّعى أصحاب هذا الاحتمال.

5- القياس على القضاء غير صحيح، لوجود الفارق الكبير بين الأمرين، فإنّ قضايا القضاء شخصية خاصة, وقضايا الولاية عامة غير شخصيّة، فإذا أمكن التعدد في القضاء عند تعدد القضايا وانتفاء الترابط بينها فليس الأمر كذلك في قضايا ولاية الأمر المترابطة والشاملة،فإنّ التعدّد فيها يؤدي إلى الخلل والفساد، وبالتالي لا يصح هذا القياس.

الرأي الصحيح

وعليه فإنَّ الإحتمالات الثلاثة التي فرضت التعدد لا مجال لقبول شيء منها ولا الالتزام بها، ولا بدَّ من المصير إلى القول بوحدة ولاية الأمر حتى في عصر الغيبة.

فالنتيجة أنَّ القاعدة الأولية تقتضي وحدة ولاية الفقيه لكل الأمة الإسلامية مهما اتسعت, حتى لو بلغت العالم أجمع.

وعليه فإذا تعدَّد الفقهاء الذين لهم الأهلية والشأنية لولاية الأمر يكون الأولى والمتعين أعلمهم وأقدرهم وأتقاهم، وهذا ما يرجع في شأن تعيينه إلى أهل الخبرة، فإذا تصدى للأمر وجب على الأمة نصرته وطاعته وتوليه.

للمطالعة
وحدة الأمة الإسلامية

من أهم المفردات التي تميز بها خط الإمام الخميني قدس سره وأخذت حيزاً مهماً من تفكيره وأسلوب عمله هي مسألة "وحدة الأمة الإسلامية" التي كان طرحها من جانبه كجزء لا يتجزأ من "شمولية الطرح الإسلامي" الذي يتنافى مع التمزق والتفتيت الذي تعيشه الأمة في واقعها.

ولا شك أنَّ وحدة الأمة هي الأصل الثابت الذي لا محيص عنه.

وقد قال تعالى في كتابه: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ(الأنبياء:92).

وقال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ(آل عمران:103).

وفي هذا المجال يقول الإمام الخميني" رحمه الله" "بحكم الإسلام يجب أن يكون المسلمون يداً واحدة" وكذلك "التكليف الآن هو أن يكون لجميع المسلمين وحدة كلمة".

ومن الواضح أنَّ هذا الطرح الوحدوي للأمة كان شعاراً كما كان هدفاً مباشراً لجهاد الإمام وكفاحه الطويل ويقول في هذا المجال: "إنَّ هدفنا هو الإسلام ووحدة كلمة

المسلمين في كل أرجاء العالم، والإتحاد مع الدول الإسلامية كلها".

ومن هنا، لم يكن الاختلاف المتحقق بين المسلمين سبباً لتثبيط عزيمة الإمام{ بل عمل على تجاوز واقع التجزئة الذي تعيشه الأمة وحاربه بكل ما أوتي من قوة من أجل تصحيح مسيرة هذه الأمة العظيمة وإعادة وحدة الكلمة إليها تحت راية التوحيد لله التي تقتضي وحدة المسلمين جميعاً.

ولهذا نجد أنَّ الإمام رضوان الله عليه يعلن عن الاستعداد التام للعمل مع جميع المخلصين على قاعدة"وحدة الأمة" ويقول: "إنَّني أمدُّ يد الأخوَّة إلى جميع المسلمين الملتزمين في العالم، وأطلب منهم أن ينظروا إلى الشيعة باعتبارهم أخوة أعزَّاء لهم، وبذلك نشترك جميعاً في إحباط هذه المخططات المشؤومة".

كما يعتبر الإمام رحمه الله أنَّ قيام الدولة الإسلامية في إيران هو وسيلة من وسائل توحيد الأمة نظراً للإمكانات التي تتوفر لها ويقول: "نحن لا نملك الوسيلة إلى توحيد الأمة الإسلامية وتحرير أراضيها من يد المستعمرين، وإسقاط الحكومات العميلة لهم، إلا أن نسعى إلى إقامة حكومتنا الإسلامية، وهذه بدورها سوف تتكلل أعمالها بالنجاح".

ويرى الإمام رحمه الله أنَّ وحدة الأمة هي الطريق لتحرير وإعادة العزة والكرامة والحرية والاستقلال وقطع أيدي المستعمرين والأعداء، ويقول في هذا المجال: "إذا كان المليار مسلم منسجمين مع بعضهم البعض فمن يستطيع أن يكسرهم؟" ويقول: "إنَّكم المسلمين، وما تملكون من الثروات المادية التي لا تُقدَّر، وأهم منها الثروة الإلهية والمعنوية التي هي الإسلام تستطيعون أن تكونوا قوة لا تستطيع القوى الكبرى معها أن تتسلط عليكم، ولن تكونوا معرّضين من اليمين واليسار لهجومهم وسرقة كل ما تملكون"، ويقول أيضاً: "إذا تعامل المسلمون وفق الأوامر الإسلامية وحافظوا على وحدة الكلمة، وتركوا الاختلاف والتنازع الذي هو أساس هزيمتهم، فإنّهم تحت راية لا إله إلا الله سوف يصانون من اعتداءات أعداء الإسلام وناهبي العالم، وسوف يقطعون أيدي الشرق والغرب عن بلاد المسلمين"3.

*ولاية الفقيه في عصر الغيبة، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط8، نيسان 2009، ص53-66.


1- المجلسي-محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء,الطبعة الثانية المصححة -  ج 25 ص 326
2- المصدر السابق،  ج 6 ص 61
3- من أنوار العشق الخميني قدس سره - ص 39 - 38

2009-09-02