يتم التحميل...

الآخر في الفكر الإسلاميّ الأصيل

كيف نتواصل مع الناس؟

ما هو موقف الإسلام من الآخر المختلِف من الناحية العقائديّة؟ الجواب نبحثه من جهتين: إحداهما عقيدة الآخر، والثانية عمله.

عدد الزوار: 228

ما هو موقف الإسلام من الآخر المختلِف من الناحية العقائديّة؟
الجواب نبحثه من جهتين: إحداهما عقيدة الآخر، والثانية عمله.

الجهة الأولى: عقيدة الآخر

- ما هو مصيره في عالم الآخرة؟
- هل عقابه محسوم بسبب ضلاله عن الحقّ؟

الجواب: إنَّ الضالَّ عن الحقّ له حالات أربع، تختلف الإجابة بحسبها، وهي:
الحالة الأولى: أن يكون عالمًا بالحقّ، عارفًا به، ومع ذلك ينكره ويجحده لسبب ما كالحسد والاستكبار ونحوهما، وقد ورد في هذا النوع من حالات الكافر قوله تعالى: ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ* فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ1، "فهذه الآية واضحة في جحود فرعون وأتباعه، مع يقينهم بأنّ ما رأوه هو من آيات الله عزّ وجلّ".

الحالة الثانية: أن يكون غير مطَّلع أصلاً على العقيدة الحقّة، أو مطَّلع، لكنّه لم يبحث مع توفّر الداعي إلى ذلك، فيكون الكافر في هذه الحالة مقصِّراً، فهو، وإنْ لم يصل إلى حالة علمٍ بمتعلَّق الإيمان، لكنّ دواعي وظروف البحث والوصول إلى النتيجة توفَّرت له، ومع ذلك، لم يكلِّف نفسه مؤونة البحث ليصل إلى نتيجة موضوعيّة.

الحالة الثالثة: أن يكون غير مطَّلع أصلاً، أو مطَّلع، لكنَّه لم يبحث بسبب وجود يقينٍ تامٍّ بخلاف ما يتطلّبه الإيمان، ويصطلح على هذه الحالة بالقصور.

الحالة الرابعة: أن يكون غير مطَّلع أصلاً، أو مطَّلع، لكنَّه لم يبحث بسبب قصور معرفيّ، ينتفي معه أيّ داعٍ للبحث عن الحقيقة. واصطلاح القصور يطلق على هذه الحالة أيضاً.

ويمكن توصيف الحالات الأربع بالأوصاف الآتية:
الحالة الأولى: جحود.
الحالة الثانية: تقصير.
الحالتان الثالثة والرابعة: قصور.

أمّا حالة الجحود والتقصير، فالحكم فيهما هو استحقاق العقاب للجاحد بسبب جحوده، والمقصِّر بسبب تقصيره.
ولكن استحقاق العقاب لا يعني فعليَّة العقاب، إذ العقل يحكم بأنّ الله تعالى إذا وعد بثوابٍ يجب منه عزّ وجلّ أن يفي بوعده، أمّا إذا توعَّد بعقاب، فيمكن أن يسقطه من باب رحمته وفضله وإحسانه.

قال المحقِّق الشيخ نصير الدين الطوسيّ قدس سره: "... ودوام العقاب مختصّ بالكافر، والعفو واقع، لأنّه حقّه تعالى، فجاز إسقاطه، ولا ضرر عليه في تركه، مع ضرر النازل به، فَحُسنَ إسقاطه، ولأنّه إحسان، وللسمع"2. والمراد من الكلمة الأخيرة أنّه بالإضافة إلى الدليل العقليّ على إمكانيّة سقوط العقاب عن الكافر، يوجد نصوص دينيّة دلَّت على ذلك أيضاً.

أمّا الحالة الثالثة وهي حالة وجود يقينٍ تامٍّ بما يعتقده الكافر حقًّا، ممَّا يفقده الدافع للبحث عن اعتقاد آخر، فهي كسائر حالات اليقين عند الإنسان التي لا يمكن أن يصحَّح فيها عقاب الإنسان على تبعات عدم
إيمانه بعقيدة يتيقَّن بخلافها، فالخطاب بتلك العقيدة لا يمكن أن يتوجَّه إليه، فكيف يُحاسب عليه؟!

إنَّ العقل القطعيّ الدالّ على الحكمة الإلهيّة، بناءً على الإيمان به لا يجوِّز عقاب ذلك المتيقِّن، وحسابه على أمر يقطع بخلافه.

ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ هذه المسألة ترجع إلى النزاع في التحسين والتقبيح بأنّهما عقليّان، كما يؤمن بذلك الشيعة الإماميَّة، أو شرعيَّان، كما يؤمن بذلك الأشاعرة3، فما ذكرناه منطلق، من الإيمان بأنَّ العقل الإنسانيّ يمكن أنْ يدرك بنفسه حسن الأشياء وقبحها، وبالتالي يمكن أن يدرك حسن العدل والحكمة الإلهيّين، وقبح الظلم بمعاقبة إنسان على عقيدة يقطع بعدمها.

والحالة الرابعة، وهي حالة القصور المعرفيّ، فهي مشابهة للحالة الثالثة من ناحية حكم العقل القطعيّ بقبح العقاب من الله تعالى، باعتباره نوعًا من الظلم، فمن كان قاصرًا عن إدراك الحقيقة، غير مقصِّر في السعي للوصول إليها، ولم يعتقد بها بسبب هذا القصور، فكيف يمكن للعادل أن يعاقبه؟! أليس عقابه يشبه عقاب المجنون أو الطفل الصغير على ما يرتكبه من دون وعيه لذلك؟!

إنَّ ما تقدَّم من منطق العقل نقرؤه في نصِّ القرآن الكريم الذي تحدّث عن عفو الله تعالى عن القاصرين الذين أطلق عليهم اسم المستضعفين قائلاً: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا4.

علّق العلاّمة السيِّد محمّد حسين الطباطبائيّ قدس سره على هذه الآية بقوله: "يتبيّن بالآية أنّ الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور وضعف، ليس فيه صنع للإنسان الجاهل، كان عذرًا عند الله سبحانه"5.

وقد رفض أهل البيت عليهم السلام المنطق المضيِّق لرحمة الله تعالى، كما يظهر جليًّا في الرواية التي أوردها صاحب الكافي عن زرارة قال: دخلت أنا وحمران (أو بكير) على أبي جعفر عليه السلام قلت له: إنّما نمدُّ المطمار، قال عليه السلام: "ما المطمار"؟ قلت الترّ6، فمن وافقنا من علويٍّ أو غيره تولّينا، ومن خالفنا من علويٍّ أو غيره برئنا منه، فقال لي: "يا زرارة، قول الله أصدق من قولك، فأين الذين قال الله عزَّ وجلَّ: إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً؟! أين المرجون لأمر الله؟! أين الذين خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًّا؟! أين أصحاب الأعراف؟! أين المولَّفة قلوبهم"؟!7 .

تصريح العلماء بعدم عذاب القاصر

قال الشيخ محمّد تقيّ القميّ قدس سره: "ثبوت العذاب الدائم على الجاهل مخصَّص بما حقّقوه في محلّه من عدم تكليف الغافل، وعدم تكليف ما لا يُطاق، ونحو ذلك... وأمّا العذاب الدائم فلا دليل عليه، بل ومطلق العذاب أيضًا"8. أي لا دليل على ثبوت العذاب للغافل القاصر، وغير القادر على تحمّل التكليف.

وقال نصير الدين الطوسيّ: "المبالغ في الاجتهاد إمّا أن يصير واصلاً أو يبقى ناظرً، وكلاهما ناجيان"9. إنَّه تبنٍّ لنجاة الباحث عن الحقيقة سواء وصل إليها، أو ما زال في بحثه ناظراً دون الوصول
إليها.

وقال الإمام روح الله الخمينيّ قدس سره: "إنّ أكثرهم (أي الكافرين) إلاّ ما قلّ وندر جهّال قاصرون لا مقصِّرون، أمّا عوامُّهم فظاهر، لعدم انقداح خلاف ما هم عليه من المذاهب في أذهانهم، بل هم قاطعون بصحّة مذهبهم، وبطلان ساير المذاهب، نظير عوامّ المسلمين، فكما أنّ عوامّنا عالمون بصحّة مذهبهم، وبطلان ساير المذاهب من غير انقداح خلاف في أذهانهم، لأجل التلقين والنشوء في محيط الإسلام، كذلك عوامّهم من غير فرق بينهما من هذه الجهة. والقاطع معذور في متابعة قطعه، ولا يكون عاصيًا وآثمًا، ولا تصحّ عقوبته في متابعته. وأمّا غير عوامّهم، فالغالب فيهم أنّه، بواسطة التلقينات من أوّل الطفوليّة والنشوء في محيط الكفر، صاروا جازمين ومعتقدين بمذاهبهم الباطلة بحيث كلّ ما ورد على خلافه ردّوها بعقولهم المجبولة على خلاف الحقّ من بدو نشوئهم، فالعالم اليهوديّ والنصرانيّ كالعالم المسلم لا يرى حجّةَ الغيرِ صحيحةً، وصار بطلانُها كالضروريّ له، لكون صحّة مذهبه ضروريّة لديه لا يحتمل خلافه.

نعم، فيهم من يكون مقصِّرًا لو احتمل خلاف مذهبه، وترك النظر إلى حجّته عنادًا أو تعصّبًا، كما كان في بدو الإسلام في علماء اليهود والنصارى من كان كذلك، وبالجملة إنَّ الكفار، كجهَّال المسلمين، منهم قاصر، وهم الغالب، ومنهم مقصِّر، والتكاليف أصولاً وفروعًا مشتركة بين جميع المكلّفين، عالمهم وجاهلهم، قاصرهم ومقصِّرهم، والكفّار معاقبون على الأصول والفروع لكن مع قيام الحجّة عليهم لا مطلقًا، فكما أنّ كون المسلمين معاقبين على الفروع ليس معناه أنّهم معاقبون عليها، سواء كانوا قاصرين أم مقصّرين، كذلك الكفّار طابق النعل بالنعل بحكم العقل وأصول العدليّة"
10.

وقال الشيخ محمّد كاظم الخرسانيّ قدس سره: "لا يجوز الاكتفاء بالظنّ فيما يجب معرفته عقلاً أو شرعًا، حيث إنّه ليس بمعرفة قطعًا، فلا بدَّ من تحصيل العلم لو أمكن، ومع العجز عنه كان معذورًا إنْ كان عن قصور، لغفلته، أو لغموضة المطلب مع قلّة الاستعداد، كما هو الشاهد في كثير من النساء، بل الرجال، بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد، ولو لأجل حبّ طريقة الآباء والأجداد، واتباع سيرة السلف"11.

وقال السيِّد أبو القاسم الخوئيّ قدس سره، بحسب تقرير بحثه للبهسوديّ، في حديثه حول استحقاق القاصر للعقاب وعدمه: "المعروف بينهم أنَّ الجاهل القاصر غير مستحقّ للعقاب، وهو الصحيح، إذ العقل مستقلّ بقبح العقاب على أمر غير مقدور، وإنَّه من أوضح مصاديق الظلم، فالجاهل القاصر معذور غير معاقب على عدم معرفة الحقّ بحكم العقل إذا لم يكن يعانده، بل كان منقادًا له على إجماله"12.

وتماشيًا مع ما تقدَّم من معذوريّة القاطع في ما قطع به قال الشيخ محمّد رضا المظفّر: "لو بحث الشخص عن صحّة الدين الإسلاميّ، فلم تثبت له صحّته، وجب عليه عقلاً - بمقتضى وجوب المعرفة والنظر- أن يبحث عن صحّة دين النصرانيّة، لأنّه هو آخر الأديان السابقة على الإسلام، فإنْ فحص، ولم يحصل له اليقين به أيضًا، وجب عليه أن ينتقل فيفحص عن آخر الأديان السابقة عليه، وهو دين اليهوديّة حسب الفرض... وهكذا ينتقل، في الفحص حتّى يتمّ له اليقين بصحّة دين من الأديان أو يرفضها جميعًا"13.

إنَّ ما مرَّ يؤكِّد أهميَّة البحث عن الحقيقة، ودورها الأساس في ترتيب آثار الآخرة، وهذا ما يسوِّغ العدد الكبير للآيات القرآنيَّة الحاكية عن الكون وما فيه، داعيةً إلى التفكُّر وإعمال العقل تارةً بصيغة: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ14، وأخرى بصيغة: ﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ15، وأخرى بصيغة: ﴿لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ16... إلى غيرها من الآيات.

الجهة الثانية: الآخر عملاً
• ما هو موقف الإسلام من أعمال غير أهل الحقِّ؟
• هل أعمالهم تذهب سراباً، أو هي موضع تقدير؟
• هل ينحصر ثواب الله على الأعمال بصحيح العقيدة أو يشمل غيره؟

الجواب: إن المستفاد من النصوص الإسلامية أن الله تعالى يقدِّر الصفات الإنسانية، والأعمال الصالحة التي تصدر عن الإنسان، بغضّ النظر عن عقيدته، وهذا ما نلاحظه في الروايتين الآتيتين:
1- عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنَّ مؤمنًا كان في مملكة جبَّار فولع به، فهرب منه إلى دار الشرك، فنزل برجل من أهل الشرك فأظلّه وأرفقه وأضافه، فلمّا حضره الموت أوحى الله عزَّ وجلَّ إليه: وعزّتي وجلالي لو كان لك في جنَّتي مسكن لأسكنتك فيها، ولكنّها محرَّمة على من مات بي مشركًا، ولكن يا نار، هيديه ولا تؤذيه، ويُؤتى برزقه طرفي النهار"17.

2- عن الإمام الكاظم عليه السلام: "كان في بني إسرائيل رجل مؤمن وكان له جار كافر، وكان يرفق بالمؤمن، ويوليه المعروف في الدنيا، فلمّا أن مات الكافر بنى الله له بيتًا في النار من طين، فكان يقيه حرّها ويأتيه الرزق من غيرها، وقيل له: هذا بما كنت تدخل على جارك المؤمن فلان بن فلان من الرفق وتوليه من المعروف في الدنيا"18.

والحمد لله رب العالمين

* كتاب كيف نتواصل مع الناس؟، سماحة الشيخ أكرم بركات.


1- سورة النمل، الآيات 12-14.
2- الطوسي، نصير الدين، تجريد الاعتقاد، تحقيق محمّد جواد الحسين الجلالي، ط1، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1407، ص304-305.
3- انظر: المظفّر، محمّد رضا، أصول الفقه، ط1، بيروت، دار التعارف، 1983، ج1، ص 195.
4- سورة النساء، الآيات 97-99.
5- الطباطبائي، محمّد حسين، تفسير الميزان، ج5، ص51.
6- التر هو خيط البناء.
7- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج2، ص 383.
8- القمي، محمّد تقي، القوانين، (ل،ط)، (ل،م)، (ل،ن)، (ل،ت)، ج2، ص 104.
9- الطوسي، نصير الدين، تلخيص المحصّل، ط2، بيروت، دار الأضواء، 1985م، ص 400.
10- الخميني، روح الله، المكاسب المحرّمة، قم، مهر، 1381، ج1، ص 133-134.
11- الخراسانيّ، محمّد كاظم، كفاية الأصول، (لا،ط)، قم، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، (لا،ت)، ص379.
12- البهسوديّ، محمّد، مصباح الأصول، ط5، قم، مكتبة الداوي، 1417هـ، ج2، ص237-238.
13- المظفّر، محمّد رضا، عقائد الإماميَّة، تحقيق حامد مغني داود، (لا،ط)، قم، أنصاريان، (لا،ت)، ص 62.
14- سورة النحل، الآية 11.
15- سورة البقرة، الآية 164.
16- سورة آل عمران، الآية 190.
17- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج2، ص 189.
18- الصدوق، ثواب الأعمال، ص 169.

2014-02-15