يتم التحميل...

الفضائل الأخلاقية: القناعة - العفّة - الزهد

درب الهداية

هي الاكتفاء من المال والمأكل والملبس بقدر الحاجة والكفاف، وعدم الاهتمام فيما زاد عن ذلك. وهي صفة كريمة تعرب عن عزة النفس وشرف الوجدان وكرم الأخلاق. فالقانع هو الذي لا يطمع في الناس، ولا يلتفت إلى ما في أيديهم،

عدد الزوار: 367

الفضائل الأخلاقية: القناعة - العفّة - الزهد

القناعة

هي الاكتفاء من المال والمأكل والملبس بقدر الحاجة والكفاف، وعدم الاهتمام فيما زاد عن ذلك. وهي صفة كريمة تعرب عن عزة النفس وشرف الوجدان وكرم الأخلاق. فالقانع هو الذي لا يطمع في الناس، ولا يلتفت إلى ما في أيديهم، ولا يتعدّى أمله يومه أو شهره، فلا يشغل قلبه بأزيد من ذلك لأن الشوق لتحصيل المزيد وطول الأمل يحرم الإنسان من نعمة الراحة وسكون القلب، ويشغل قلبه عن ذكر الله تعالى.

1- فضيلة القناعة:

أ- في القرآن:
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ1.
وقال عز وجل أيضاً: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى2.

ب- في الروايات:
عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "القانع غنيّ وإن جاع وعري"3.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس‏"4.

وعن الإمام الصادق عليه السلام أَنه قال لرجل يعظه: "اقنع بما قسم الله لك ولا تنظر إلى ما عند غيرك ولا تتمن ما لست نائله فإنه من قنع شبع ومن لم يقنع لم يشبع وخذ حظك من آخرتك"5.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "حُرم الحريص خصلتين ولزمته خصلتان حُرم القناعة فافتقد الراحة وحُرم الرضا فافتقد اليقين"6.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "المستريح من الناس القانع"7، وقال عليه السلام: "القانع ناج من آفات المطامع"8.

2- أهمية القناعة:

للقناعة أهميةٌ كبرى وأثر بالغ في حياة الإنسان، فهي تحقق الرخاء النفسي والراحة الجسدية، وتحرّر الإنسان من عبودية المادة واسترقاق الحرص والطمع وعنائهما المرهق وهوانهما المذلّ، وتفتح باب العزة والكرامة والإباء والعفة والترفع عن صغائر الأمور. والقانع بالكفاف أسعد حياةً وأرخى بالاً وأكثر دعةً واستقراراً من الحريص المتفاني في سبيل أطماعه والذي لا ينفكّ عن القلق والمتاعب والهموم. والقناعة تمد صاحبها بصفاء ويقظة روحية، وبصيرة نافذة، وتحفزه على التأهب للآخرة، والقيام بالأعمال الصالحة. لذا صار القانع أغنى الناس لأن حقيقة الغنى هي غنى النفس، والقانع راض ومكتف بما رزقه الله تعالى وهو لا يحتاج أحداً ولا يسأل سوى الله تعالى. وأهمية القناعة تظهر بشكل جليّ عندما يتحرر الإنسان من قيود المادة، لأن التمسك بالمادة ذلٌّ على عكس القناعة التي تورث الإنسان العزة والكرامة. أما الثروة والمال فلا تعطي صاحبها الأفضلية على الآخرين سوى بالمال وليس بالمحاسن والفضائل المعنوية، لأن المال قابلٌ للزيادة والنقيصة بل والزوال أيضاً بعكس القناعة التي هي كنزٌ كما قال الإمام علي عليه السلام: "لا كنز أغنى من القناعة"9، بل وهي كنزٌ لا يفنى كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "القناعة كنز لا يفنى"10، لأنها كنز معنوي نتيجته تحصيل المقامات المعنوية الرفيعة، كيف لا وهي من أهم الأمور التي تعين الإنسان على صلاح نفسه كما في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أعوَن شيء على صلاح النفس القناعة"11.

العفّة

1- معنى العفّة:

العفّة من أهم الفضائل الإنسانية والأخلاقية، ومن أنبل السجايا، وأرفع الخصائص الدالّة على سموّ الإيمان وشرف النفس. ولا يمكن لأي إنسان أن يسير نحو الكمال الإلهي ويسلك مسلك الانفتاح على الله من دون التحلّي بهذه الخصلة الشريفة. ولو تأمّلنا في حياتنا الدنيوية قليلاً لوجدنا أن كرامة الإنسان وعزته وسمعته الطيبة رهينة بالتحلّي بهذه الفضيلة الأخلاقية. والعفّة تعني الامتناع والترفّع عما لا يحلّ من شهوة البطن والنظر والفرج، والتحرر من استرقاقها المذلّ، وجعلها منقادةً للعقل على ما يأمرها به من الطعام والشراب والنكاح، والاجتناب عمّا ينهاها العقل عنه. وهي تعتبر من الفضائل التي تساهم في ترشيد وتكامل المجتمعات البشرية، بعكس الشهوة التي تقع في مقابل العفّة والتي يوجب اتّباعها سقوط الفرد أخلاقياً وانحطاط المجتمع، والتي تعتبر منشأً ومصدراً للكثير من الجرائم والانحرافات الفردية والاجتماعية، فقد سُفك بسببها الكثير من الدماء وأُتلف الكثير من الأموال والثروات.

2- فضيلة العفّة:

أ- في الآيات:
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ 12 فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ13 يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ14 تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا15 وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ 16. ويقول عزّ اسمه أيضاً: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ17. ويقول عزّ وجل أيضاً: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ18.

ب- في الروايات:
عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "أفضل العبادة العفاف"19.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "ما عُبد الله بشيء أفضل من عفّة بطن وفرج"20.
وعن الإمام علي عليه السلام: "إذا أراد الله بعبد خيراً أعفّ بطنه وفرجه"21.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنما شيعة جعفر من عفّ بطنه وفرجه واشتدّ جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر"22.

3- حقيقة العفّة:

ليس المراد من العفّة حرمان النفس من رغباتها المشروعة في المطعم والجنس، بل المقصود منها الاعتدال في تناولها وممارستها، إذ كل إفراطٍ أو تفريط مضرّ بجسد الإنسان وروحه وداعٍ إلى شقائه وبؤسه. فالإفراط في شهوات البطن والفرج سببٌ في الكثير من الأمراض والعلل الجسمية. كما أن الروح التائقة إلى عالم الملكوت ولقاء الرب الودود سوف تتأذى هي الأخرى بسبب كثرة الانشغال والتلهّي بالشهوات الحيوانية والأمور الدنيوية الزائلة التي لا تزيد الإنسان إلا بعداً عن الحق. والتفريط باعثٌ على الحرمان من متع الحياة ولذائذها المشروعة، وموجبٌ لهزال الجسد وضعف طاقته، مما ينعكس سلباً على روحه أيضاً. فالمطلوب الاعتدال في غريزتي الطعام والجنس وهو الممدوح شرعاً وعقلاً، وهو الحدّ الوسط بين الإفراط والتفريط إذ إن خير الأمور أوسطها. وحدّ الاعتدال في طعام الإنسان يكون بحيث لا يحسّ بثقل المعدة ولا بألم الجوع، فالهدف من الأكل بقاء الحياة واستمرارها، والحصول على القوى اللازمة للعمل والعبادة. أما ثقل الطعام فإنه يمنع من العبادة، كما أن ألم الجوع يشغل القلب أيضاً. وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ23.

وخير مقياسٍ لذلك ما حدده أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: "لا تجلس على الطعام إلا وأنت جائع، ولا تقم عن الطعام إلا وأنت تشتهيه"24. وأما الاعتدال في الجماع فبأن يقتصرالإنسان فيه على ما لا ينقطع عنه النسل، وما يحصل له من خلاله التحصّن، وتزول به خطرات الشهوة، ولا يؤدي إلى ضعف البدن والقوة، ولا يكون سبباً في الانشغال عن الطاعة والعبادة.

الزهد

1- حقيقة الزهد:

الزهد في الدنيا مقامٌ شريف جداً ومن أعلى مقامات السالكين إلى الله تعالى، وهو أن لا يرغب الإنسان في الدنيا ولا يميل إليها بقلبه، ويتركها بجوارحه إلا بقدر الضرورة، بهدف العدول إلى ما هو خير منها وأشرف وأبقى، إلى الله تعالى والحياة الآخرة. فجميع الدعوات الإلهية والشرائع الربانية الحقّة هدفها الأساسي ربط الإنسان بالله عز وجل، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بالإعراض عن غير الحق وكل ما سواه، مقدمة للوصول إلى جماله المطلق، كما قال إمامنا الصادق عليه السلام: "وإنما أَرادوا الزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة"25.

فالرغبة في الدنيا موجبة للاحتجاب عن الحق تعالى. والمقصود من الدنيا كل ما يشغل الإنسان عن الحق عز وجل. وإلى هذه الحقيقة أشار الإمام الصادق عليه السلام حين عرّف الزهد بأنه: "تركك كلّ شيء يشغلك عن الله"26. لأنه من المستحيل العروج إلى الكمالات الروحية والوصول إلى لقاء الحق مع التعلّق بغيره تعالى، والتبعية للشهوات والملذّات الفانية.

2- فضيلة الزهد:

أ- في الآيات:
قوله تعالى في كتابه العزيز: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ27، حيث قال الإمام زين العابدين عليه السلام لرجلٍ سأله عن الزهد فأجابه أن الزهد في هذه الآية28. وقوله عز وجل: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلً29، حيث فُسّر أحسن العمل في التفاسير بأنه الزهد.

ب- في الروايات:
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "حرام على قلوبكم أَن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا"30.

وعن أَمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "إن من أَعون الأخلاقِ على الدين الزهد في الدنيا"31.

وجاء أَعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "يا محمد أَخبرني بعمل يحبني الله عليه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا أَعرابي ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أَيدي الناس يحبك الناس"32.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من زهد في الدنيا أَثبت الله الحكمة في قلبه وأَنطق بها لسانه وبصّره عيوب الدنيا داءها ودواءها وأَخرجه منها سالماً إلى دار السلام"33.

وعن أَمير المؤمنين عليه السلام قال: "إن علامة الراغب في ثواب الآخرة زهد في عاجل زهرة الدنيا"34.

3- علامات الزهد:

للزهد ثلاث علامات أساسية كما أخبر الله تعالى في سورة الحديد المتقدمة آية 23. وهي:
أ- أن لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود
ب- أن يستوي عنده من يذمّه ومن يمدحه.
ج- أن يكون أنسه بالله هو الغالب، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة.

4- شروط تحقّق الزهد:

يشترط في الزهد ثلاثة أمور:
أ- أن يترك الإنسان ما تحبّه النفس وترغب فيه وتطلبه، لأن من ترك ما ليس مطلوباً كتارك التراب والحشرات مثلاً لا يسمى زاهداً، بل من رغب عن الدراهم والذهب يسمى زاهداً.
ب- أن يكون زهده في أمرٍ بمقدوره نيله والوصول إليه، إلا أنه آثر تركه بملء إرادته واختياره. لأن ترك ما لا يقدر عليه الإنسان ولا يستطيع الوصول إليه لا يسمى زهداً.
ج- أن يكون الهدف من الزهد هو الله والدار الآخرة، أما لو كان لغرضٍ غير الله تعالى كاستمالة القلوب أو الاشتهار وأمثال ذلك لم يكن من الزهد أصلاً.
 

* درب الهداية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- التوبة، 85.
2- طه، 131 .
3- مستدرك الوسائل، ج15، ص 228.
4- الكافي، ج2، ص139.
5- مستدرك الوسائل، ج15، ص223.
6- وسائل ‏الشيعة، ج16،ص 20.
7- غرر الحكم، ص 393.
8- م. ن.
9- بحار الأنوار، ج66، ص411.
10- مستدرك‏ الوسائل، ج 15، ص 226.
11- غرر الحكم، ص 391.
12- أي شغلتهم الأعمال الهامة التي في سبيل الله كالجهاد، وطلب العلم وغيرهما من العبادات...
13- أي الذين لا يقدرون على الترحال لكسب العيش‏.
14- بسبب تعفّفهم عن السّؤال‏.
15- أي أنّهم لا يشبهون الفقراء الشحّاذين الذين يلحّون في الطلب من الناس، فهم يمتنعون عن السؤال فضلاً عن الإلحاف‏.
16- البقرة، 273.
17- الأعراف، 31.
18- النور، 30.
19- الكافي، ج2، ص 79.
20- م.ن.
21- غرر الحكم، ص 399.
22- وسائل الشيعة، ج11، ص199.
23- الأعراف، 31.
24- وسائل ‏الشيعة، ح24،ص 245.
25- الكافي، ج2،ص16.
26- مستدرك الوسائل، ج12، ص45.
27- الحديد، 23.
28- وسائل الشيعة، ج16، ص12.
29- الكهف، 7.
30- الكافي، ج2، ص128.
31- م.ن، ص 128.
32- وسائل ‏الشيعة، ج9، ص450.
33- م.ن، ج 16، ص 10.
34- م.ن، ص11.

2014-01-07