مواقف وصفات المتخاذلين في كربلاء
درب الهداية
من خطب الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء قوله: "ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحيمن خطب الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء قوله: "ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برماً"اة مع الظالمين إلّا برماً"
عدد الزوار: 121ظاهرة قلّة الأنصار في كربلاء
من خطب الإمام الحسين عليه السلام في
كربلاء قوله: "ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه،
ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع
الظالمين إلّا برماً"1.
لعلّ من أجلى ظواهر ثورة الإمام الحسين عليه السلام، ومن أكثرها حرقة من جهة،
وإثارة لسيل من الأسئلة من جهة ثانية، ودلالة على مستوى الهبوط والانهزامية التي
مُنيت بها الأمّة أيّام الإمام الحسين عليه السلام من جهة ثالثة ظاهرة قلّة أنصاره
عليه السلام وكثرة المتخاذلين عنه.
فلو حاولنا الوقوف عند هذه الظاهرة البارزة في أحداث كربلاء، ورمنا التأمُّل فيها،
والنظر في الأسباب التي أدّت إليها، لبرزت أمامنا نقاط ونتائج من المفروض أن تكون
على خلاف تلك التي وصلت إليها الأمّة آنذاك. فهي كانت نقاط قوّة وفي صالح النهضة
الحسينية، ومدعاة لكثرة الأنصار لا لقلّتهم، ولقلّة المتخاذلين لا لكثرتهم، أي على
خلاف الواقع المؤلم حينذاك. فما الذي أدّى إلى تغيُّر هذا الواقع بهذا الشكل الذي
رأيناه؟!
عوامل إيجابية مرجّحة لكثرة الأنصار
ما كان يفترض أن يُرجّح كفّة كثرة الأنصار لا قلّتهم نقاط قوّة عديدة اتسمت بها
نهضة الإمام الحسين عليه السلام، أبرز هذه النقاط:
1- نفس حضور الإمام الحسين عليه السلام:
إنّ نفس شخصيّة الإمام عليه السلام المتميّزة جدّاً في المجتمع الإسلامي،
وبما تختزنه من أبعاد قرآنية ونبوية، وعمق وتجذّر في الموقعين الديني والاجتماعي
للمسلمين، يُعدّ من أهمّ نقاط القوّة التي كان من المفترض أن تكون سبباً لكثرة
الأنصار لا قلّـتهم. فقد كان الإمام الحسين عليه السلام في موقع لا يوازيه أحد في
شرق الأرض وغربها، ولا تدنو إليه أية شخصية مهما بدت كبيرة ومميّزة. هو سيّد قريش
وإمام المسلمين وسنام العرب، وكان عليه السلام يُنبّه دائماً إلى ذلك في مواقع عدّة،
لعلّ من أبرزها خطبته عليه السلام يوم عاشوراء، بعد أن ذكّرهم ببعض ما قاله جدّه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه وفي أخيه الإمام الحسن عليهما السلام، ثم
أردف عليه السلام قائلاً: "فإن كنتم في شكٍّ من هذا أفتشكّون أنّي ابن بنت
نبيّكم ؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم، ولا في غيركم،
ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟..."2.
2- وضوح أهداف النهضة وأحقيّتها:
من نقاط القوّة في حركة الإمام الحسين عليه السلام أيضاً أنّ أهداف
الثورة الحسينية كانت معلنة، وشعاراتها التي رفعتها ونادت بها كانت واضحة وصريحة،
وهي تنطلق من عقيدة الأمّة ودينها، وتهدف إلى عزّة المسلمين وقوّتهم، وإنقاذهم من
ظلم الأمويّين وإجحافهم واستئثارهم بحقوق الأمّة وخيراتها. وقد كانت شعاراتها هي
نفسها شعارات الهدى والقرآن ونهج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته وسنّته.
وقد أوضح الإمام الحسين عليه السلام كلّ ذلك، كلّما سنحت له فرصة، وذكر بعضها في
أول بيان تركه في المدينة: "وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً
وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي صلى الله عليه وآله أُريد أن آمر بالمعروف
وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب عليه السلام فمن قبلني
بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين
القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين"3.
3- عامل الإيثار والتضحية منذ البداية:
لم يكتفِ الإمام الحسين عليه السلام بدعوة الناس إلى اتخاذ الموقف الذي
يُمليه عليهم دينهم وانتماؤهم لنبيّهم صلى الله عليه وآله وسلم جالساً في بيته،
تاركاً الناس في المواجهة، كلّا، بل ألقى عليه السلام بنفسه بأهله ونسائه وعياله في
ساحة التحديّ لظلم الأمويّين وطغيانهم، وهذا من شأنه أن يُثير العواطف الإسلامية
النبيلة، ويُحرّك عوامل الشمم والإباء والغيرة على الدِّين في نفوس المسلمين، ويوقد
نيران الغضب الرسالي الهادف في ضمائر الأمّة ومواقفها: "ألا وإنّي زاحف بهذه
الأسرة مع قلّة العدد وكثرة العدو وخذلة الناصر"4.
4- وجود الوقت الكافي للدعوة والهداية:
إنّ الفترة الزمنية كانت طويلة نسبيّاً، وكانت كافية لمراقبة المواقف،
ومناقشة الأفكار، وترجيح الاحتمالات. فقد خرج الإمام من المدينة نهاية رجب 60
للهجرة. وبقي في مكة إلى يوم التروية 8 ذي الحجة، والتقى بالمعتمرين والحجّاج، فأين
أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تأييد حركة الحسين عليه السلام؟
وأين أهل مكة، أهل الوحي من ذلك؟ أين أفواج المعتمرين والحجاج؟ أين أهل العيون
والمياه التي مرّ بها الحسين عليه السلام في طريقهِ إلى كربلاء وخطب فيهم ورأوه،
وعرفوا أهدافه؟ وأين وأين... بل وأين أولئك الجند الذين خرجوا لحربه؟ أين وعيهم؟
وأين ضمائرهم؟ وأين دينهم، وهم يستمعون إلى الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه،
يوردون الأدلّة، ويقيمون الحجج، ويوضّحون الحقائق؟
هذه باختصار أبرز النقاط الإيجابية، التي ينبغي أن تجعل الموقف يميل نحو الإمام
الحسين عليه السلام لا ضدّه. وهناك نقاط أخرى، تصبّ في هذا الاتجاه. إذن المسألة
بحاجة إلى تأمُّل ودراسة، فلماذا خُذل الإمام الحسين عليه السلام ولم يُنصر، وما هي
الادّعاءات التي رآها المتخاذلون سبباً لعدم تأييده والنهوض معه؟
أسباب الخذلان ومنطلقاته
لقد كان وراء موقف الخذلان هذا،
أسباب عدّة ومنطلقات متباينة، ولكن يمكن أن نختصرها، وتظهر لنا من خلال دراستنا
لثلاثة نماذج من الذين خذلوا الإمام عليه السلام في كربلاء ولم ينصروه، من خلال
بيان الأسباب ووجهات نظرهم ومنطلقاتهم.
النموذج الأول: عبد الله بن عمر والخوف
إنّ الذي منعه عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام ليس جهله به، ولا شكّه
في شرعية نهضته، وسلامة منطلقاتها. كما لم يكن ظلم الأمويين واستيلاؤهم على مقدرات
المسلمين بدون وجه حق خافياً عليه، ولا بعيداً عن فهمه. ولم تُمحَ من ذاكرته
تصرُّفات معاوية وأساليبه الجاهلية، في إجبار المسلمين وساداتهم على قبول خلافة
ولده الفاسق يزيد.
لكن الرجل كان يعيش حالة خوف على ما يبدو وهلع شديدين، فهو لم يُفكّر يوماً
بالمواجهة، ولم يخطر على باله أن يقول لظالم كلمة (لا)، فقد كان الجبن والخوف
يسيطران عليه بشكل واضح.
قد يكون لذلك سبب أعمق! ولكن سلوكه بقي هكذا مع كل حاكم ظالمٍ ومعتدٍ أثيم، كان
يقول إنّه يدخل داره ويغلق عليه بابه، فإذا بايع الناس يزيد بايعه!! كان حريصا على
متابعة الأمر الواقع ولو كان واقعاً منحرفاً، لا يرى وجهاً للخروج على ظالم متسلّط
على رقاب المسلمين. فلم يكتف بعدم نصرة الإمام الحسين عليه السلام، بل راح يحاول
ثني الإمام الحسين عليه السلام عن فكرته، وإقناعه بعدم الخروج على بني أمية، وكان
الإمام الحسين عليه السلام يواجهه بلغة أخرى: "اتق الله يا أبا عبد الرحمن ولا
تدعنّ نصرتي"5.
ولمّا رأى ابن عمر إصرار الإمام الحسين عليه السلام على المواجهة، ماذا طلب منه؟
لقد طلب منه أن يكشف الحسين عليه السلام له عن بطنه، ليُقبّله في الموضع الذي كان
رسول الله صلى الله عليه وآله يُقبّل الإمام الحسين عليه السلام فيه. يريد التبرُّك
بموضع شفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يُفكّر بنصرة الإمام الحسين عليه
السلام الذي نهض للدفاع عن سنّةِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودينه وأمّته.
بل كان ابن عمر غير راضٍ عن خروج الإمام الحسين عليه السلام، فعلى الإمام الحسين
عليه السلام الصبر وتحمّل الأذى، وعبّر عن ذلك بقوله: "غلبنا حسين بالخروج،
ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي
له أن لا يتحرّك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإنّ الجماعة خير"6.
وبقي ابن عمر على موقفه هذا، حتى بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام. فلمّا
تحرّك أهل المدينة ضدّ الأمويّين في السنة الثانية لحكم يزيد، وكان عبد الله بن
حنظلة غسيل الملائكة يقود التحرُّك، كان عبد الله بن عمر يتحرّك بنشاط، إلى هذا
الطرف وذاك لمنع التحرُّك، ولتثبيط الثورة وتهدئة الأوضاع لمصلحة الأمويّين!!
وحينما صلب الأمويون عبد الله بن الزبير، دخل عبد الله بن عمر على الحجّاج ليبايع
عبد الملك بن مروان على يديه، فقال له الحجّاج، إنّ الذي جاء بك هذا المصلوب - أي
الخوف من القتل والصّلب - وليس ما تقوله من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أنّه قال: "من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية"7.
النموذج الثاني: عبد الله بن الزبير وحبّ السلطة
هو رجل لم يكن معروفاً بالخوف أو الهلع، على عكس ابن عمر، فهو رجل واجه
الأمويّين، ورفض بيعة يزيد، وترك المدينة إلى مكة سالكاً طريقاً ملتوياً حتى وصل
إليها. وبقي مواجهاً للأمويّين، حتى كاد يُطبق على حكم العالم الإسلامي آنذاك، ثم
دارت عليه الدائرة وقُتل في قلّة حتى صُلب في الكعبة المشرّفة. وهو المصير الذي كان
يُحذّره الإمام الحسين عليه السلام منه، ومن أن يُقتل وتُنتهك بقتله حرمة الكعبة.
قال له الإمام الحسين عليه السلام: "إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها
فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش"8.
إذن لم يكن الخوف هو الذي أعاق ابن الزبير عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام، بل
أمر آخر، إنّه الطموح السياسي، والمجد الشخصي. إنّ لابن الزبير طرحاً خاصّاً به،
ومشروعاً ليس لسواه. إنّه يريد الانفراد بالساحة لا أن يُشارك الآخرين، فكيف يكون
تابعاً لغيره؟ إنّه يريد أن يكون الأبرز، هو القائد وصاحب المشروع والرأس، لا
يهمُّه بقاء الأمويّين أو زوالهم بقدر ما يهمّه موقعه وطموحه ومشروعه، فكان يحثّ
الإمام الحسين على الخروج من مكّة، فقد كان أثقل شيء عليه وجود الإمام الحسين عليه
السلام فيها، لأنّه عَلِم أنّ الناس لا يمكن لهم أن يوازنوا بينه وبين ابن بنت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا أمر كان يعرفه الإمام الحسين عليه السلام،
ويعرفه ابن الزبير ويعرفه كل أطراف النزاع، بل عامة الناس كذلك.
حينما قرر الإمام الحسين عليه السلام الخروج من مكّة، كان ابن الزبير يقترح عليه
البقاء دفعاً لهذه الشبهة! ،ولم يدع الموقف دون أن يكشف عن ذلك الطموح، فقال للإمام
الحسين عليه السلام: "أقم إن شئت وتولّيني أنا الأمر فتُطاع ولا تُعصى" فأجابه
الإمام عليه السلام: "وما أريد هذا أيضاً"9.
إنّ عداء ابن الزبير للأمويّين، لم يكن على أساس السعي لإنقاذ الأمّة من ظلمهم
وجاهليتهم، وبالتالي نصرة الدِّين وأهله، ولو كان هذا هدفه لما تأخّر لحظة عن
الانضمام لحركة الإمام الحسين عليه السلام ومؤازرته وتأييده، لأنّ الإمام هو خير من
يمكن العمل معه للوصول إلى أهداف الإسلام الكبرى وإنقاذ الأمّة.
ولكن أنّى لابن الزبير أن يخطو هذه الخطوة؟ رغباته الشخصية نصب عينيه، وطموحه
السياسي القديم ماثل أمامه... لقد وجد في خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة
تقريباً لتلك الطموحات. إنّه يريد أن يكون صاحب مشروع خاص لا مشروع تابع لآخر، ولو
كان الآخر هو ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيّد شباب أهل الجنة.
إنّ خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة لا يعني أن تفرغ لابن الزبير ساحة
الحجاز، أي مكّة والمدينة حاضرتَي الإسلام المتميزتين فحسب، بل يعني كذلك أنّ
الإمام الحسين عليه السلام في طريقه لمواجهة حقيقية مع بني أميّة، وحسب موازين
القوى من جهة، وشراسة الأمويين وحقدهم من جهة أخرى، وإصرار الإمام الحسين عليه
السلام ومبدئيته من جهة ثالثة، فإنّ استشهاد الإمام الحسين عليه السلام يكاد يكون
أمراً مفروغاً منه.
وهذا بحدّ ذاته يوفّر لابن الزبير أجواء مثالية لمواجهة الأمويّين مستغلّاً قتلهم
للحسين عليه السلام، وما سيصابون به من ضعف وانكفاء المسلمين عنهم. وكل هذا سيسلّط
عليه مزيداً من الأضواء. ولهذا صرّح الإمام الحسين عليه السلام وهو ينظر إلى ابن
الزبير وطموحه: "ها إنّ هذا ليس شيء يؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من
الحجاز إلى العراق، وقد علم أنّه ليس له من الأمر معي شيء، وإنّ الناس لم يعدلوه بي،
فودّ أنّي خرجت منها لتخلو له"10.
ولهذا بادر بن عباس إلى ابن الزبير، بعدما عزم الإمام الحسين عليه السلام على
الخروج من مكّة، وقال له: "قرّت عينك يا بن الزبير، هذا الحسين خارج إلى العراق
ويُخلّيك والحجاز!"11. إذن عبد الله بن الزبير، النموذج الثاني لمن
خذل الحسين ولم ينصره، بسبب طموحاته الشخصية ومشاريعه الخاصة.
النموذج الثالث: عبيد الله بن الحرّ الجحفي وحبّ الدنيا
وجيه من وجهاء الكوفة، ورجل مرموق فيها، يعرف قدر الإمام الحسين عليه
السلام ومنزلته وأحقّية تحرّكهِ. لم يكن بالخائف الرعديد، فهو ممّن سيحمل السيف
بعدئذٍ ويبقى مطارداً من قبل الأمويّين، وينتهي أمره بالقتل. كما لم يُعرف عن
الجحفيّ هذا طموح شخصي ولا مشروع ذاتي به، يسعى لتحقيقه.
ولكن الرجل أُصيب من مقتل ثالث، إنّه ابن نعمة، موفور الحال، واسع العيش رغيده،
متعلّق بالدنيا ونعمائها، لا يُحبّ الموت، ويكره المواجهة، ويُحبّ أن يبقى بعيداً
عن الأحداث لا يُشارك ولا يُعطي ولا يُضحّي، لكي يحافظ على رفاهيّته ونعمته ولذائذه.
ماذا يريد الإسلام منه؟ إنّه يُصلي ويصوم ويُزكّي ويؤدّي فريضة الحج، ويعين الآخرين
من ذوي الحاجة. ألا يكفي ذلك كله؟ لماذا يُراد منه الحرب والمواجهة والدم؟ وهل
الأمر مقتصر على مشاركته أو عدمها؟ وما تراه يمكن أن يفعل في مواجهة واقع فاسد مرير؟
ليبقَ هانئاً في نعمته، مرفّهاً في لذّته، وهو يعبد الله، العبادة الباردة الهادئة،
بعيداً عن الصخب والمواجهة وقعقعة السلاح!!
وكان عبيد الله بن الحرّ الجحفي هذا مدركاً لسير الأحداث، وهو في قلبها بالكوفة،
وراح يستقرئ الوضع ويدرس الاحتمالات، ويقوّم الأوضاع. فهذا مسلم بن عقيل رضوان الله
عليه قد قُتل في الكوفة ومعه هاني بن عروة، ولم تنفع مسلم شيعته ولا دفعت عن ابن
عروة عشيرته، وهذه الأخبار تُنقل. والمسألة لا تحتاج إلى تفكير كثير وتنظير واسع
لمعرفة النتيجة الواضحة، من أنّ الحسين عليه السلام سيصل الكوفة، والمواجهة واقعة،
والاصطدام وشيك لا محالة، فماذا يفعل الجحفي وهو في الكوفة، أمامه خياران لا ثالث
لهما، إمّا أن ينصر الإمام الحسين عليه السلام ويقوم بواجبه الشرعي ويؤدّي وظيفته
الرسالية، وهذا يعني أنّه سوف يُقتل، وهو المتعلّق بالحياة ونعيمها، وإمّا أن لا
ينصر الإمام الحسين عليه السلام أو يكون مع أعدائه، وهذا يعني الخزي في الدنيا
والعذاب في الآخرة؟
إذن الأفضل هو الهرب، وترك الساحة والنأي عن الأحداث، ومتابعة الأخبار من بعيد، حتى
يتبين الموقف، وتنجلي الغبرة... وهكذا قرّر ابن الحرّ الجحفي ترك الكوفة واللجوء
إلى البادية. ونصب فُسطاطاً كبيراً، وركز عند بابه رمحاً، يشير إلى أنّ صاحب
الفُسطاط كريم وشجاع! ونأى عن الطريق العام إلى أعماق الصحراء غرب الكوفة ولم يعلم
بالتغيّرات التي حدثت بعده.
حينما تحرّك الحرّ بن يزيد الرياحي ومعه ألف رجل بأمر من عبيد الله بن زياد،
ليمنعوا الحسين عليه السلام وركبه، ومعهم الحرّ وجيشه، سلكوا طريقاً بعيداً عن طريق
الكوفة وتياسروا الطريق، أي باتجاه الغرب، حتى صار طريقهم على المكان الذي اختاره
عبيد الله بن الحرّ الجحفي ونزل فيه، وظنّ أنّه سيكون فيه بمنأى وبعدٍ عن الإمام
الحسين عليه السلام وحركته وركبه. فلمّا رأى الإمام الحسين عليه السلام ذلك
الفُسطاط، سأل عن صاحبه، فقيل: هو عبيد الله بن الحرّ الجحفي، فتعجّب الإمام الحسين
عليه السلام من وجوده في هذا المكان النائي، واختار عليه السلام من أصحابه من يكون
رسولاً إليه، وهو ابن عمه الحجّاج بن مسروق الجحفي، الذي ما أن دخل خيمة ابن الحرّ،
حتى بادره الأخير عمّا جاء به إلى هنا وما وراءه.
فقال له الحجّاج: جئتك بخير الدنيا والآخرة. إنّهما الوعي وعمق النظر اللذان انطلق
منهما الحجّاج بن مسروق الجحفي، الذي كان يُعرف بمؤذّن الحسين عليه السلام، فانتبه
له عبيد الله وقال: وما ذاك؟ قال: هذا الحسين يدعوك إلى نصرته، فإن قاتلت بين يديه
أُجرت، وإن قُتلت استشهدت. وهما الخياران اللذان هرب منهما عبيد الله من الكوفة
بالأصل، فهو لا يريد القتال ولا يريد الموت، فوقع هذا الخبر عليه كالصاعقة، حيث
إنّه قد رتّب أمره وخطّط على أن يكون مراقباً للأحداث من بعيد، وفي سلام وأمن، فإن
كانت الدائرة للأمويّين لم يكن مشاركاً لهم في قتل الحسين عليه السلام، وإن كانت
الدائرة للحسين عليه السلام جاءه مؤيّداً وناصراً. فقال عبيد الله بن الحرّ: إنّا
لله وإنّا إليه راجعون، والله ما خرجت من الكوفة إلّا كراهة أن يدخلها الحسين وأنا
بها، والله ما أريد أن يراني الحسين ولا أراه.
هكذا أفصح الرجل عن نظرته وموقفه. ورجع الحجّاج إلى الإمام الحسين عليه السلام
وأخبره بمقالة ابن عمه، فما كان من الحسين عليه السلام إلّا أن مشى إليه بنفسه في
جماعة من أهل بيته وأصحابه.
فالإمام الحسين عليه السلام صاحب رسالة، وهو لا يبالي أن يكون السبّاق والمبادر.
دخل عليه الفُسطاط، فنهض له ابن الحرّ مرحّباً به ومستقبلاً، ووّسع له عن صدر
المجلس. وقد نقل ابن الحرّ كيف كان ذلك اللقاء: "ما رأيت أحداً قطّ أحسن من
الحسين عليه السلام، ولا أملأ للعين منه، وما رققت على أحد من قبل رقّتي عليه حينما
رأيته يمشي والصبيان حوله"12.
فهل غيّر ابن الحر موقفه مع هذه الهيبة للإمام الحسين عليه السلام، وهذه الرقّة
والتعاطف مع أطفاله؟ ولكي يؤخّر الموضوع الذي جاء الإمام الحسين لطرحه معه، راح
يسأل الإمام الحسين عليه السلام عن سواد لحيته، وهل هي من سواد أو خضاب، وهل ذلك
الموقف مناسب لطرح هكذا استفسار، بعيد كل البعد عمّا جاء لأجله الإمام عليه السلام؟
فأجابه الإمام الحسين عليه السلام مختصراً: "يا ابن الحرّ، عجّل عليّ الشيب".
ثم إن الإمام الحسين عليه السلام حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا ابن الحرّ إنّ
أهل مصركم كتبوا إليّ أنّهم مجتمعون على نصرتي وسألوني القدوم عليهم فقدمت... "13.
فألقى ابن الحرّ معاذيره الواهية فحرم نفسه السعادة والفوز بنصرة سبط الرسول، قائلاً:
والله إنّي لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أُغني عنك،
ولم أخلف لك بالكوفة ناصراً؟
فأنشدك الله أن تحملني على هذه الخطة، فإنّ نفسي لا تسمح بالموت، ولكن فرسي هذه
الملحقة والله ما طلبت عليها شيئاً إلا لحقته، ولا طلبني أحد وأنا عليها إلا سبقته
فهي لك. ولكن ما قيمة فرسه عند الإمام؟ فردّ عليه قائلاً : "ما جئناك لفرسك
وسيفك، إنّما أتيناك لنسألك النصرة، فإن كنت قد بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في
شيء من مالك، ولم أكن بالذي أتخذ المضلّين عضداً، وإنّي أنصحك إن استطعت أن لا تسمع
صراخنا ولا تشهد وقعتنا فافعل، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا إلّا أكبّه
الله في نار جهنّم"14 . فأطرق ابن الحرّ برأسه إلى الأرض وقال بصوت
خافت حياء من الإمام: أمّا هذا فلا يكون أبداً إن شاء الله تعالى. وهكذا ترك ابن
الحرّ نصرة ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وندم لاحقاً أشدّ الندم ولكن
في وقت لم يعد ينفع فيه الندم.
1- اللهوف في قتلى الطفوف،ص48.
2- بحار الأنوار، ج54، ص7.
3- م.ن، ج44،ص330.
4- بحار الأنوار، ج45، ص9.
5- اللهوف في قتلى الطفوف، ص22.
6- خلاصة عبقات الأنوار، ج4، ص 244.
7- الكافي، ج2، ص20.
8- تاريخ الطبري، ج4، ص289.
9- تاريخ الطبري، ج4، ص283.
10- تاريخ الطبري، ج4، ص288.
11- الكامل في التاريخ، ج4، ص39.
12- أبصار العين في أنصار الإمام الحسين، ص152.
13- من أخلاق الإمام الحسين عليه السلام، البحراني، ص186.
14- م.ن.