هل الوليّ الفقيه واحد أو يتعدّد؟
أبحاث في الولاية
إنّ ولاية الفقيه لها اصطلاحان هما:1- الولاية الخاصة أي ذات النطاق الضيّق كالولاية على اليتيم، وفي القضاء.2- الولاية العامة المتعلِّقة بالشؤون الاجتماعيّة العامّة من سياسيّة وجهاديّة واقتصاديّة ونحوها.
عدد الزوار: 122
إنّ ولاية الفقيه لها اصطلاحان هما:
1- الولاية الخاصة أي ذات النطاق الضيّق كالولاية على اليتيم، وفي القضاء.
2- الولاية العامة المتعلِّقة بالشؤون الاجتماعيّة العامّة من سياسيّة وجهاديّة
واقتصاديّة ونحوها.
وهنا لا يراد من السؤال حول تعدّد أو وحدة الوليّ الفقيه هو ما ينحصر في نطاق
الولاية الخاصّة كولاية القاضي، إذ من الواضح أنّ القضاء له موضوعات متعدِّدة
ومتنوِّعة وواسعة لا يمكن حصرها بفقيه واحد. وقد بحث الإمام الخمينيّ قدس سره هذا
المطلب في
كتاب البيع مفيدًا بشكل واضح أنْ لا ولاية لفقيهٍ على فقيهٍ آخر في هذه الموارد
الواقعة ضمن النطاق الخاصّ1.
بناءً عليه، فإنّ السؤال يدور حول الولاية الاجتماعيّة العامّة، أي القيادة
السياسيّة للمجتمع، فهل هي محصورة بوليّ واحد لكلّ الأمّة، أو يصحّ وجود عدّة فقهاء
تتوزّع ولايتهم على البلدان؟
إنّ تعدّد الوليّ الفقيه يتصوّر في أمرين:
الأوّل: أن يراد اجتماع عدّة فقهاء ليقودوا معًا المجتمع الإسلاميّ، فيكونون عبارة
عن مجلس قيادة، وهذا الأمر، بغضّ النظر عن مدى مواءمته العمليّة، فلا دليل على
نفيه، وهو ليس المقصود من السؤال السابق.
الثاني: أن يُراد كون كلّ فقيه مستقلاً بولايته عن غيره من الفقهاء، وفي هذه الصورة
من الواضح أنّه لا يُقصد من السؤال نفوذ ولاية فقهاء متعدّدين في دائرة اجتماعيّة
واحدة، فهذا الأمر خلاف ما يقتضيه النظام العام، بل المراد من السؤال هو أن يستقلّ
كلّ
منهم بولايته على نطاق جغرافيّ يختلف عن النطاق الجغرافيّ للفقيه الآخر، بحيث يكون
لكلّ بلد أو مدينة أو منطقة وليّ فقيه خاصّ بها.
بناءً على هذين التحديدين نرجع إلى السؤال السابق: "هل الوليّ الفقيه يكون واحدًا
لكلِّ البلدان، أو إنّ لكلّ بلدٍ فقيهًا خاصًا به"؟
هناك وجهتا نظر في الإجابة على هذا السؤال:
نظريّة تعدّد الوليّ
النظريّة الأولى: تقول بتعدّد الوليّ الفقيه بتعدّد البلدان، ومن الأدلّة التي
ارتكز إليها أصحاب هذه النظريّة دليلان:
الدليل (1): يركِّز على الأدلّة العقليّة التي عرضناها سابقًا، وذلك بالقول: إنّ
هذه الأدلّة، بما أنّها عقليّة، فهي لبّية لا إطلاق فيها، فلا يمكن التمسّك إلاّ
بالمقدار المتيقّن منها، وعليه فالمقدار المتيقّن من هذه الولاية هي ولاية الفقيه
على البلد الذي يحكمه فعلاً،
أمّا ولايته على بلدٍ آخر، فهو أمر مشكوك فيه، فيكون الأصل هو عدم ولايته فيه،
وعليه تقتصر ولايته على خصوص بلد حكمه الفعليّ2.
الدليل (2): وهو يركِّز على الأدلّة اللفظيّة، وذلك بالقول إنّ عمدة هذه الأدلّة هي
مقبولة عمر بن حنظلة المتقدِّمة التي فيها: "فينظران من كان منكم ممّن قد روى
حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكمًا، فإنّي جعلته
عليكم
حاكمًا3، وذلك باستنتاج حاصله بأنَّ جعل ذلك الراوي للأحاديث، الناظر في الحلال
والحرام، العارف للأحكام يختصّ بأهل ذلك البلد الذين نظروا واختاروا، وأمّا سائر
أهل البلدان الإسلاميّة الذين لم ينظروا ولم يختاروا هذا الفقيه، فلا ولاية له
عليهم، لأنّه لم
يُجعل حاكمًا في حالة عدم النظر. فلو نظر أهل بلد آخر من بلاد المسلمين إلى فقيه
آخر، واختاروه، لكان هو المجعول حاكمًا، دون الفقيه الذي كانت حاكميّته في بلده
نتيجة لنظر واختيار أهل بلده، والخطاب في هذه الرواية ونظائرها ليس للأمّة على نحو
إنشاء الحاكميّة للفقيه، وإنّما هو لمن نظروا واختاروا، وهذا يقتضي أن تقتصر
الولاية عليهم، ولا تتعدّاهم إلى غيرهم"4.
نظريّة وحدة الوليّ
النظريّة الثانية: تقول بوحدة الوليّ الفقيه بمعنى كون ولايته عامة على كلّ
البلدان، وليست منحصرة بالبلد الذي يحكمه الفقيه فعلاً.
ممَّن قال بهذه النظريّة الإمام الخامنئيّ الذي صرّح بأنّ "ولاية وليّ الأمر إنّما
هي بمنزلة إمامة أئمّة أهل البيت عليهم السلام، غير محدودة بقومٍ دون قوم، وبصقعٍ
دون آخر، وذلك لشمول الأدلّة الدالّة على ولايته لكلّ من ينتحل الإسلام والإيمان،
دون أي تقييد
وتخصيص"5.
ونفصِّل مقولة الإمام الخامنئيّ بالآتي:
أوّلاً: إنّ ما تقدّم سابقًا من كون الدليل على القيادة السياسيّة لأئمّة أهل البيت
عليهم السلام والفقهاء واحدًا يوضِّح معنى كون ولاية وليّ الأمر بمنزلة إمامة
الأئمّة عليهم السلام في أصل هذه القيادة. وهذا الأمر له أثر في النظرة إلى وحدة
الوليّ أو تعدّده في
ظلّ كون إمامة الأئمّة شاملة لجميع الأمّة بلا إشكال ولا ريب، سواء عند الشيعة أو
أهل السُنّة، ألا نلاحظ أنَّ ما جرى في السقيفة كان في نظر جميع المسلمين عامًا
لكلّ الأمّة؟ إذ يظهر أيّ رأي يقول: إنّ ما حصل يثبت ولاية الأمر في المدينة
المنورّة فقط
دون سائر البلدان؟ والأمر مع إمامة أهل البيت عليهم السلام أوضح.
ومع ذلك فقد وردت جملة من النصوص تؤكِّد وحدة الإمامة على الأمّة، نعرض منها:
1- روى الكلينيّ عن الحسين بن أبي العلاء: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: تكون
الأرض ليس فيها إمام؟ قال عليه السلام: لا. قلت: يكون إمامان ؟ قال عليه السلام:
لا، إلاّ وأحدهما صامت"6.
2- روى الصدوق بسنده عن ابن أبي يعفور: "سألت أبا عبد الله: هل تترك الأرض بغير
إمام ؟ قال عليه السلام: لا، قلت: فيكون إمامان؟ قال عليه السلام: "لا، إلا وأحدهما
صامت"7.
3- روى الصدوق بسنده عن هشام بن سالم: "قلت للصادق عليه السلام: هل يكون إمامان في
وقت واحد؟ قال عليه السلام: لا، إلا أن يكون أحدهما صامتًا مأمومًا لصاحبه، والآخر
ناطقًا إمامًا لصاحبه، فأمّا أن يكونا إمامين ناطقين في وقت واحد،
فلا"8.
ثانيًا: إنّ الأدلّة الدالّة على ولاية الفقيه، وبعكس ما تقدّم ذكره في أدلّة
التعدّد، هي شاملة لولايته لجميع البلدان الإسلاميّة، ولكلّ المسلمين دون استثناء.
وبما أنّ الأدلّة هي على نوعين: عقليّة ونقليّة، فإنّنا نفصِّل الكلام على أساس ذلك
التنويع.
1- أمّا الأدلّة العقليّة، وإن كانت لبيّة، ويقتصر فيها على القدر المتيقّن، لكن
السؤال يرد حول الأمر الذي يقتصر فيه على ذلك المتيقّن، فحينما يكون دليل وحدة
الوليّ الفقيه هو دليل حفظ النظام المتقدِّم، فلا بدّ من تحديد المراد من النظام،
ثمّ بعد ذلك
نتحدّث عن أيّ نظام نريد، فهل نتحدّث عن نظام العلاقة بين أخوين أم نتحدّث عن نظام
في الأسرة، أو نتحدّث عن نظام في الحيّ أو القرية، أو المدينة، أو المحافظة، أو في
دائرة أوسع من ذلك، وهذا الأمر يجب تحديده سلفًا قبل النظر في دليل العقل
ونتيجته، لأنّ العقل يستنتج من دليل حفظ النظام أنّه لا بدّ من حكومة في الدائرة
الاجتماعيّة المحتاجة إلى نظام، فإن كانت هذه الدائرة هي أحد أحياء القرى، وجب
تخصيص الحكومة بهذا الحيّ، ولا شأن بها بالحيّ الآخر، لكن لو كان السؤال عن دائرة
الأمّة
باعتباراتها تمثّل في النظرة الإسلاميّة وحدة اجتماعيّة متكاملة متراصّة مترابطة
فيما بينها، ينبغي أن تنظّم أمورها، ففي هذه الحال سيكون جواب الدليل العقليّ
المذكور أنّه لا بدّ من حكومة في هذه الدائرة، وهو معنى الوحدة"9.
هذا في دليل حفظ النظام الذي انصبّ فيه كلامُ مَنْ قال بتعدّد الوليّ الفقيه بحسب
البلدان، أمّا بقيّة الأدلّة، فالأمر فيها يختلف، فإنّ دليل أحكام الإسلام، ودليل
الحسبة، ينطلقان على أساس شمول الأحكام لكلّ الأمّة، وكون أمر الأمّة ممّا لا يقبل
الله تعالى
بإهماله وتركه، وبالتالي يجب أن يكون هناك حاكم شرعيّ يتولى أمورها.
فالأمّة هي مصبّ هذين الدليلين العقليين، فلا يصحّ أن يأتي الكلام عن قدر متيقّن
بالولاية على بعض الأمّة دون بعضها الآخر.
2- أمّا الأدلّة النقليّة اللفظيّة، فهي على نوعين:
النوع الأوّل: النصوص الدينيّة التي تفيد كون المسلمين لهم رأس واحد.
فإضافةً إلى الارتكاز العامّ عند المسلمين بأنّهم أمّة واحدة، وإضافة إلى الآيات
والروايات التي تؤكِّد على ترابط المسلمين بين بعضهم البعض10، روى الكشيّ بسنده عن
الإمام الصادق عليه السلام: "ما لكم وللرياسات، إنّما للمسلمين رأس واحد"11.
فهذا حديث واضح في القيادة الواحدة لكلّ المجتمع الإسلاميّ.
النوع الثاني: شمول الأدلّة النقلية اللفظيّة السابقة على ولاية الفقيه لكلّ
البلدان ولجميع المسلمين، ولبيان ذلك نعرض النماذج الآتية:
إنّ الدليل المتقدِّم "اللهم الرحم خلفائي"12يفيد كون "الذين يأتون من بعدي يروون
عنّي حديثي وسنّتي"13هم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما كان له صلى
الله عليه وآله وسلم الولاية، وبما أنّ ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
شاملة
لكلّ البلدان، وجميع المسلمين، فكذلك هي ولاية الفقهاء رواة الحديث والسُنّة.
إنّ الدليل المتقدِّم "فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة
الله"14 يفيد كون هؤلاء الفقهاء راويي أحاديث أهل البيت عليهم السلام هم حجّة
الإمام على المسلمين في جميع دائرة حجيّته عليهم، وبما أنّ الإمام هو حجّة على
المسلمين
جميعًا في كلّ البلدان فكذلك الفقهاء.
إنّ الدليل المتقدِّم "العلماء ورثة الأنبياء"15يفيد كون العلماء هم ورثة للأنبياء
عليهم السلام في جميع دوائر ولايتهم، وهذا يعني أنّهم ورثتهم على جميع الناس في
جميع البلدان.
أمّا حديث "إنّي قد جعلته عليكم حاكمًا"16، فإنّه يفيد كون الفقيه الراوي للحديث،
الناظر في الحلال والحرام، العارف بالأحكام هو حاكم مطلق، إذ لا تقييد في هذه
الفقرة، كما أنّ ما سبق هذه العبارة من بيانٍ في الرواية المقبولة لا يفيد تقييده
بالذين نظروا
واختاروا، فإنّ قول الإمام عليه السلام: "فينظران من كان منكم ممّن قد روى
حديثنا..." 17هو أمرٌ بأن يبحثوا عن الفقيه ليكون حاكمًا. ومن الغريب أن يستفاد منه
أنّ هذه العبارة تفيد كون الحاكم هو للذين ينظرون من كان من الشيعة فقيهًا من أهل
البلد
الواحد دون غيرهم من البلدان18.
مؤيّدان على وحدة الوليّ الفقيه
إضافةً إلى ما تقدّم، فإنّنا نعرض أمرين يؤيّدان ضرورة كون الوليّ الفقيه واحدًا
لكلّ الأمّة.
المؤيّد الأوّل: إنّ القول بتعدّد الولاة على البلدان الإسلاميّة يواجه سؤالاً هو:
ما هي جغرافيّة ذلك البلد؟ هل هو الوطن بحسب اتفاقيّة "سايكس بيكو" ونحوها، أو هو
الإقليم، أو هو المحافظة، أو هو المدينة، أو هو القرية؟! أليس فتح المجال لتعدّد
الولاة يفتح
المجال لتفسّخ الأمّة أكثر فأكثر، وقد يصل الأمر إلى الأحياء؟!
المؤيّد الثاني: إنّ وجود وليّ لكلّ نطاق جغرافيّ يجعل كلّ وليّ يقدِّم أولويّات
نطاقه الجغرافيّ، وقد يكون ذلك على حساب بلد إسلاميّ آخر، أمّا لو كان الوليّ
واحدًا على جميع البلدان، فإنّ المتوقّع منه هو تقديم المصلحة العامّة للمسلمين، لا
مصلحة نطاق
جغرافيّ خاصّ، لخصوصيّته، بدل أن يكون لأجل مصلحة المسلمين.
* يسألونك عن الولي، سماحة الشيخ أكرم بركات.
1- انظر: الإمام الخمينيّ، روح الله، كتاب البيع، ص 514- 519.
2- أنظر: شمس الدين، محمد مهدي، نظام الحكم والإدارة في الإسلام، ط3، قم، دار
الثقافة، 1991م، ص 418.
3- الكليني، محمّد، الكافي، ج1، ص 67.
4- شمس الدين، محمد مهدي، نظام الحكم والإدارة في الإسلام، ص 419.
5- وهبي، مالك، الفقيه والسلطة والأمّة، ص 326.
6- الكليني، محمد، الكافي، ج 1، ص 178.
7- الصدوق، محمد، كمال الدين وتمام النعمة، ص 223
8- المصدر السابق، ص 417.
9- وهبي، مالك، الفقيه والسلطة والأمّة، ط1، بيروت، الدار الإسلاميّة، 2000م، ص
333.
10- كقوله تعالى: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء
بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ)سورة التوبة،
الآية 71- وكالحديث الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام: "من خلع جماعة المسلمين
قدر شبر خلع ربقة الإيمان من عنقه" الحر العاملي، محمد حسن، وسائل الشيعة، ج8، ص
249.
11- الطوسيّ، محمّد، اختيار معرفة الرجال (المعروف برجال الكشي)، تحقيق مهدي
الرجائي، (لا، ط)، قم، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، (لا، ت)، ج2، ص 581-582.
12- الصدوق، محمّد، من لا يحضره الفقيه، ج4، ص 420.
13- المصدر السابق نفسه.
14- الصدوق، محمّد، كمال الدين وتمام النعمة، ص 484.
15- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج1، ص 34.
16- الكليني، محمّد، الكافي، ج1، ص 67.
17- الكليني، محمّد، الكافي، ج1، ص 67.
18- أنظر تفصيل النقاش في "وهبي، مالك، الفقيه والسلطة والأمّة، ص 335- 337".