ما هي صفات الوليّ الفقيه؟
أبحاث في الولاية
من الأمور البديهيّة أنّ الحاكم الذي يحكم باسم الإسلام، أي بموجب القوانين الإسلاميّة لا بدّ أن يكون مطّلعًا على هذه القوانين، إذ كيف يحكم بدون هذا الإطلاع؟!
عدد الزوار: 123
تقدّمت الصفات الثلاث للوليّ الفقيه بشكل إجماليّ، وهي: العلم بالقانون، والعدالة،
والكفاءة، وهنا نفصل القول فيها:
الأولى: العلم بالقانون
من الأمور البديهيّة أنّ الحاكم الذي يحكم باسم الإسلام، أي بموجب القوانين
الإسلاميّة لا بدّ أن يكون مطّلعًا على هذه القوانين، إذ كيف يحكم بدون هذا الإطلاع؟!
وإطّلاع الحاكم يكون بإحدى وسيلتين:
الأوّلى: الفقاهة والاجتهاد، بأن يكون الحاكم بنفسه قادرًا على استنباط واستخراج
الأحكام الشرعيّة.
الثانية: التقليد، بأن يعتمد في معرفة تلك القوانين على أحد الفقهاء.
الفقاهة في النصّ الدينيّ
بغضّ النظر عن الدليل العقليّ ومدى صحّة دلالته على شرط الفقاهة في الوليّ1، فإنّ
النصوص الدينيّة التي تقدّم بعضها أفادت شرطيَّة الفقاهة في الوليّ، ونعرض منها:
1- مكاتبة اسحاق بن يعقوب: "أمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا"،
فالتعبير برواة الحديث يفيد كونهم فقهاء، لأنّ كون الإنسان راويًا للحديث لا تُعطيه
مزية أن يكون حجّة الإمام المهدي |على الناس، لا سيّما أنّ هناك رواة لا يفقهون ما
يحفظونه من روايات، وبتعبير بعض النصوص: "ربّ حامل فقه، لا فقه له"2، وعليه لا بدّ،
إضافةً إلى روايته للأحاديث أن يكون فقيهًا بها لتكون له تلك المزية.
2- مقبولة عمر بن حنظلة التي فيها: "فينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر
في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكمًا، فإنّي جعلته عليكم حاكمًا"3.
إنّ هذا الحديث أوضح من سابقه من جهة كون الحاكم الوليّ فقيهًا، فهو إضافة إلى كونه
راويًا للحديث، فإنَّه ينظر في الحلال والحرام، ويعرف الأحكام، أي له نظرة في ذلك،
من خلالها يعرف الأحكام الشرعيّة، وهذه هي الفقاهة.
الثانية: العدالة
لكي يؤتمَن الفقيه على تطبيق الأحكام الشرعيّة على مواردها بالشكل الصحيح الخالي من
النوازع الذاتية، والمصالح الشخصية، لا بدّ أن يكون عادلاً، وبتعبير الإمام الخمينيّ
قدس سره: "فالحاكم إذا لم يكن عادلاً، فإنّه لا يؤمن أن يخون الأمانة، ويحمل نفسه
وذريته وآله على رقاب الناس"4.
والعدالة بحسب تعريف الإمام الخميني قدس سره في كتاب التقليد: "عبارة عن ملكة راسخة
باعثة على ملازمة التقوى، من ترك المحرّمات، وفعل الواجبات"5.
وقد دلَّت على شرطيّة العدالة في الوليّ عدّة روايات، منها:
1- عن محمّد بن مسلم، قال: "سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: "والله يا محمّد، من
أصبح من هذه الأمّة لا إمام له من الله عزّ وجل، ظاهر، عادل، أصبح ضالاًّ تائهًا"6.
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة أنّه قال: "وقد علمتم أنّه لا
ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين:
البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل، فيضلّهم بجهله، ولا الجافي، فيقطعهم
بجفائه، ولا الحائف
للدول، فيتّخذ قومًا دون قوم، ولا المرتشي في الحكم، فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون
المقاطع، ولا المعطّل للسُنَّة فيُهلك الأمّة"7.
3- وعنه عليه السلام أيضًا في نهج البلاغة: "ولكنّني آسى أن يلي أمر هذه الأمّة
سفهاؤها وفجّارها، فيتّخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً والصالحين حربًا
والفاسقين حزبًا"8.
4- عن الإمام الحسن بن علي عليه السلام أنَّه قال في حضور معاوية: "أمّا الخليفة،
فمن سار بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعمل بطاعة الله عزّ وجل، وليس
الخليفة من سار بالجور"9.
5- عن الإمام الحسين عليه السلام في جوابه لكتب أهل الكوفة إليه: "فلعمري ما الإمام
إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه على ذات
الله"10.
الثالثة: الكفاءة
من البديهيّ عند العقلاء اشتراط الكفاءة في الوليّ الحاكم، بمعنى القدرة التي
تحتاجها قيادة الأمّة وإدارة شؤون البلاد، وهذا الشرط لا يحتاج إلى نصٍّ، بعد وضوح
عقلائيّته، ومع ذلك ورد في النصوص ما يشير إليه، منها:
1- عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به
غضبه، وحسن الولاية على من يلي، حتى يكون لهم كالوالد الرحيم"11.
2- عن الإمام الرضا عليه السلام: "والإمام عالم لا يجهل، ورع لا ينكل12...نامي
العلم، كامل الحلم، مضطلع بالإمامة، عالم بالسياسة..."13.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من حسنت سياسته وجبت طاعته"14.
4- وعنه عليه السلام: "من أحسن الكفاية استحقّ الولاية"15.
الوليّ الأكمل مقدَّم
إنّ الصفات السابقة للوليّ قد تتواجد في أكثر من فقيه، فهل تتخيّر الأمّة في اختيار
من شاءت منهم، أو إنّ المتعيّن بينهم هو الأكمل والأفضل فيهم؟
تفيد جملة من الروايات أنّ الوليّ يجب أن يكون الأكمل بينهم، ونعرض منها ما يأتي:
1- عن الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة: "أيّها الناس، إنّ أحقّ الناس بهذا
الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه..."16.
2- عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما ولّت أمّة قطّ أمرها رجلاً،
وفيهم أعلم منه، إلاّ لم يزل يذهب أمرهم سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا"17.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أفينبغي أن يكون الخليفة على الأمّة إلاّ أعلمهم
بكتاب الله وسنّة نبيّه، وقد قال الله:
﴿قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن
يُهْدَى﴾18 وقال:
﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾
19،
وقال: ﴿اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ﴾20"21.
4- عن الإمام عليّ عليه السلام في بيان صفات الإمام: "وأمّا اللواتي في صفات ذاته،
فإنّه يجب أن يكون أزهد الناس، وأعلم الناس، وأشجع الناس، وأكرم الناس، وما يتبع
ذلك لعلل تقتضيه...وأمّا إذا لم يكن عالمًا بجميع ما فرضه الله -تعالى- في كتابه
وغيره، قلّب الفرائض، فأحلّ ما حرّم الله، فضلّ وأضلّ...والثاني: أن يكون أعلم
الناس بحلال الله وحرامه، وضروب أحكامه، وأمره ونهيه، وجميع ما يحتاج إليه الناس،
فيحتاج الناس إليه، ويستغني عنهم"22.
5- عن أمير المؤمنين عليه السلام بعدما طلبوا منه البيعة لأبي بكر: "أنا أولى برسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم حيًّا وميتًا، وأنا وصيّه، ووزيره، ومستودع سرّه
وعلمه، وأنا الصدّيق الأكبر، والفاروق الأعظم، أوّل من آمن به وصدّقه، وأحسنكم
بلاءً في جهاد
المشركين، وأعرفكم بالكتاب والسُنّة، وأفقهكم في الدين، وأعلمكم بعواقب الأمور،
وأذربكم لسانًا، وأثبتكم جنانًا"23.
6- عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "وانظروا لأنفسكم، فوالله، إنّ الرجل ليكون
له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها يخرجه، ويجيء
بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها"24.
كيف نحدّد الأكمل بين الفقهاء؟
ذكر الفقهاء بناءً للأدلّة الشرعيّة أنّ من الوسائل الشرعيّة لصحّة تقليد الفقيه
المرجع هو الاعتماد على البيِّنة التي تشهد بأعلميّته، أي شهادة عالمين من أهل
الفضل العلميّ بذلك، وعليه فإذا اعتمد أحدُ المؤمنين على بيّنة أفادت بأعلميّة
مرجع، واعتمد آخرون
على بيّنة أخرى بأعلميّة غيره، فلا بأس في ذلك، ولا ضرر حاصلاً منه عادة، لأنّ
التقليد يطال العلاقات الفرديّة مع الله عزّ وجلّ أو مع الآخرين بشكل جزئيّ ومحدود.
وهذا الأمر لا ينطبق على العلاقة مع الوليّ الفقيه الذي تكون أحكامه عامة للأمّة،
ولا تتعلّق عادةً بالفرد، وعليه فإنّ تعدّد الوليّ في المجتمع قد يؤدّي إلى نزاعٍ،
وبالتالي إلى فساد.
بناءً على ما تقدّم، فإنّ الاطمئنان بكون المجتهد هو الفقيه الأكمل، ليُتَّبع على
أنّه الوليّ الفقيه، لا يكفي فيه البيِّنة، بل ولا يكفي فيه الاطمئنان الشخصيّ، بل
لا بدّ من حصول اطمئنان نوعيّ، وهذا يحتاج إلى عددٍ كبير من أهل الفضل والخبرة
يفيدون أنَّه
الأكمل والأكفأ بين الفقهاء لمنصب الوليّ الفقيه.
من هنا ابتكر الإمام الخمينيّ آلية تنظيمية لـ "مأسسة" ولاية الفقيه وهو مجلس
الخبراء المؤلّف اليوم من 86 عالمًا من أهل الخبرة، على أن تكون النتيجة الإيجابيّة
في تحديد الأكمل بين الفقهاء في الأصوات التي تزيد على 50%، ومن الواضح أنّ عدد44
وما
فوق يفيد اطمئنانًا نوعيًّا في الأمّة، بل أقلّ منه بكثير يفيد ذلك.
* يسألونك عن الولي، سماحة الشيخ أكرم بركات.
1- أنظر: بركات، أكرم، ولاية الفقيه، بين البداهة والاختلاف، ط4، بيروت، بيت
السراج، 2012، ص 95.
2- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد بن حنبل، (لا، ط)، بيروت، دار صادر، (لا، ت)، ج5، ص
183.
3- الكليني، محمّد، الكافي، ج1، ص 67.
4- الإمام الخميني، روح الله، الحكومة الإسلامية، ص 51.
5- الإمام الخميني، روح الله، تحرير الوسيلة، ط2، النجف الأشرف، دار الكتب العلمية،
1390هـ، ج1، ص12.
6- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج1، ص 184.
7- الإمام علي، نهج البلاغة، ط1، قم، دار الذخائر، 1412هـ، ج2، ص 14.
8- المصدر السابق، ج3، ص 120.
9- الطبرسي، أحمد، الاحتجاج، (لا، ط)، النجف الأشرف، دار النعمان، 1386م، ج1، ص
419.
10- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج44، ص 334.
11- الكليني، محمد، الكافي، ج1، ص 407.
12- أي لا يجبن.
13- الكليني، محمد، الكافي، ج1، ص 202.
14- الواسطي، علي، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق حسين الحسيني البيرجندي، ط1، (لا،م)،
دار الحديث، (لا، ت)، ص 431.
15- المصدر السابق، 439.
16- ابن أبي طالب، الإمام علي، نهج البلاغة، ج2، ص86.
17- الطبرسي، أحمد، الاحتجاج، ج1، ص 219.
18- سورة يونس، الآية 35.
19- سورة البقرة، الآية 247.
20- سورة الأحقاف، الآية 4.
21- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج31، ص 417.
22- المصدر السابق، ج90، ص 45.
23- الطبرسي، أحمد، الاحتجاج، ج1، ص 95.
24- الكليني، محمد، الكافي، ج8، ص 264.