يتم التحميل...

ما هي أسباب غربة ولاية الفقيه ؟

أبحاث في الولاية

إنّ المطّلع على أدلّة ولاية الفقيه العامة من خلال أدلّتها العقليّة يجدها واضحة، بل بديهيّة كما ذكر الإمام الخميني، وعليه فإنّه يتعجّب من غيابها في الحوزات الدينيّة قبل طرحها من قبل الإمام الخميني قدس سره، وكأنَّ الأصل فيها هو عدم التبنّي لها مع أنّه مرّ معنا

عدد الزوار: 112

إنّ المطّلع على أدلّة ولاية الفقيه العامة من خلال أدلّتها العقليّة يجدها واضحة، بل بديهيّة كما ذكر الإمام الخميني، وعليه فإنّه يتعجّب من غيابها في الحوزات الدينيّة قبل طرحها من قبل الإمام الخميني قدس سره، وكأنَّ الأصل فيها هو عدم التبنّي لها مع أنّه مرّ معنا الموقف الإيجابيّ لعدد كبير من العلماء حول ولاية الفقيه العامّة، فكيف نجمع بين هذا الأمر المضاف لوضوحها البديهيّ، وبين غربتها فترة معتدًّا بها في التاريخ الشيعيّ؟

الجواب:
أشار الإمام الخمينيّ قدس سره في بداية كتاب "الحكومة الإسلاميّة" إلى عنوانين عامّين لأسباب غربتها هما: أوضاع المجتمع الإسلاميّ بشكل عام، وأوضاع الحوزات العلميّة بشكل خاصّ. قال : "ولاية الفقيه فكرة علميّة واضحة قد لا تحتاج إلى برهان، بمعنى إنّ من عرف الإسلام أحكامًا وعقائد يرى بداهتها، ولكن وضع المجتمع الإسلاميّ، ووضع مجامعنا العلميّة على وجه الخصوص يضع هذا الموضوع بعيدًا عن الأوصاف، حتى لقد عاد اليوم بحاجة إلى برهان"1.

وقد فصَّل الإمام الخمينيّ قدس سره هذين السببين بما سنلاحظه في طيّات العرض التفصيليّ الآتي لأسباب غربة ولاية الفقيه التي عرضها الإمام الخمينيّ قدس سره في ظل غربة "الحكومة الاسلامية" في المجتمع الشيعي، ونعرض ذلك ضمن عناوين:

العوامل الخارجيّة

1- الحركة اليهوديّة
لقد ابتليت الحركات الإسلاميّة من أوّل أمرها باليهود حينما بدأوا نشاطهم المضادّ لتلك الحركات مستهدفين تشويه سمعة الإسلام والافتراء عليه، وهو ما استمرّ إلى يومنا هذا.

2- الاستعمار
لقد أدرك المستعمرون أنّ أكبر مانع لهم من تحقيق أهدافهم هو الإسلام بأحكامه وعقائده، لذا تحاملوا عليه ودبَّروا له المكائد.

وقد استعان الاستعمار بالمشركين ووسائل الإعلام لتحقيق أهدافهم مع تركيزهم على المثقّفين من المسلمين، ليبعدوهم ما أمكن عن الإسلام المحمّدي الأصيل.

وقد زرعوا بين المسلمين شبهات لتشويه صورة الإسلام في أذهانهم منها:
1- فصل الإسلام عن نظام الحكم ليحصروه في الأحكام الفرديّة، وحينما يحشرون بالتشريعات الاجتماعيّة كانوا يقولون: هي غير قابلة للتنفيذ، لذا ينحصر دور الإسلام، على الأكثر، في التشريع فقط.
2- خشونة الأحكام القضائيّة في الإسلام، ممّا يؤدّي إلى وضع دساتير وقوانين جديدة أتَوا بها من الغرب.
3- عدم عدالة جملة من الأحكام الإسلاميّة كتلك المتعلّقة بالمرأة وبنظام الإرث.

العوامل الداخليّة

ساهم في غربة ولاية الفقيه جملة من العوامل داخل مجتمعنا، وهي وإن كانت غير مقصودة، إلاّ أنّها كانت ذات أثر في حصول تلك الغربة، منها:

1- سوء التطبيق في أنظمة تدّعي الإسلام
شاهد الناس تجربة سلبيّة في بلدان ادَّعت أنّها تحكم باسم الإسلام، وقد واكب سوء التطبيق هذا تشويهٌ إعلاميّ متعمِّد محاولاً تضخيم هذا الأمر، لينفر الناس من فكرة الحكومة الإسلاميّة.

2- المؤلَّفات الدينيّة في العهود الأخيرة
لفت الإمام الخمينيّ قدس سره إلى الفارق الكبير بين القرآن الكريم والكتب الحديثة، وبين الرسائل العلميّة الفقهيّة، إضافةً إلى المؤلّفات الدينيّة الأخرى.

فالقرآن وكتب الأحاديث زاخرة بالنصوص ذات العلاقة بالاجتماع، والاقتصاد، والتدبير، وسياسات المجتمع، وحقوق الإنسان، بكميّة تزيد بكثير عن النصوص ذات البعد الفرديّ للإنسان، في حين نلاحظ أنّ الرسائل العمليّة، وهكذا حال ما كان يعرض ويكتب حول أبحاث الخارج، يركّز على الجوانب الفرديّة أكثر بكثير من تركيزه على الجوانب الاجتماعيّة، ومن الواضح أنّ لهذا أثرًا في النظرة إلى حاكميّة الإسلام في المجتمع.

وهنا نشير إلى أن العديد من العلماء لعلهم لم يذكروا الأحكام والقضايا المتعلّقة بالحكومة الإسلامية بسبب استبعادهم فكرة إقامة هذه الحكومة بسبب الظلم الذي حلّ بهم وبمن قبلهم.

3- ولاية الفقيه في كتاب المكاسب
لعلّ من الأمور التي زادت من غربة ولاية الفقيه هو ما فهم من كتابٍ حوزويّ ما زال طلاب الحوزة يدرسونه منذ انتشاره في الحوزة العلميّة على عهد زعيمها الشيخ مرتضى الأنصاريّ الذي ولد عام 1214هـ وتوفي عام 1281هـ، ويدعى هذا الكتاب " المكاسب".

ورغم أنّ الشيخ الأنصاريّ هو من القائلين بولاية الفقيه العامّة -كما تقدَّم تصريحه بذلك- فإنَّه، وعلى طريقته في شحذ أذهان طلاب العلم ناقش أدلّة ولاية الفقيه النقليّة في كتاب المكاسب سندًا ودلالةّ على أساس معنيين هما:
الأوّل: استقلال الوليّ بالتصرُّف، بمعنى أنّ له حقًا مستقلاً في الأصل، لأنّه صاحب الحقّ في ذلك، وهذا هو معنى الولاية المطلقة المتماهية مع ولاية الأئمّة عليهم السلام.
الثاني: أن يكون له حقّ في التصرّف، لكن لا بالمعنى الاستقلاليّ المتقدِّم، بل بمعنى أنّ تصرُّف غيره لا يجوز إلاّ بإذنه2.

وقد ناقش دلالة الأدلّة النقليّة على المعنى الأوّل، مرتكزًا على كون الأصل أنْ لا ولاية لأحدٍ على أحد، فلم يثبت عنده الدليل عليه، وعبَّر عن عدم ثبوت الدليل بعبارة قاسية قال فيها: "وبالجملة، فإقامة الدليل على وجوب طاعة الفقيه كالإمام عليه السلام - إلاّ ما خرج بالدليل- دونه خرط القتاد"3.

والمراد من خرط القتاد هو تقشير الشجر ذي الشوك اجتذابًا بكفّ اليد4.

أمّا المعنى الثاني، فقد ناقش الشيخ الأنصاريّ الأدلّة الواردة في إطاره، بحسب نظره، ليخلص إلى النتيجة الآتية: "وعلى أيّ تقدير، فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ما دلّت عليه هذه الأدلّة هو ثبوت ولاية للفقيه في الأمور التي يكون مشروعيّة إيجادها في الخارج مفروغًا عنها، بحيث لو فرض عدم الفقيه كان على الناس القيام بها كفاية"5.

وبالنتيجة، فإنّ الشيخ الأنصاريّ لم يرفض ولاية الفقيه مطلقًا، بل قبلها في جميع الموارد التي يكون إيجادها في الخارج مشروعًا، بل واجبًا حتى مع عدم وجود الفقيه.

أثر المكاسب في النظرة إلى ولاية الفقيه

كان لبحث ولاية الفقيه هذا أثرٌ كبيرٌ في نظرة طلاب الحوزة العلميَّة إلى ولاية الفقيه العامّة من حيث ثبوتها شرعًا، وهذا ما نفهمه من خلال بيان النقاط الآتية:
أ- إنّ كتاب المكاسب ما زال يدرّس في الحوزات لحدّ الآن منذ ما يقارب 150 سنة.
ب- إنّ طالب الحوزة يدرس هذا الكتاب قبل أن تتفتّح ذهنيّته العلميّة المخرجة له عن دائرة الانبهار والتقليد.
ج- إنّ للشيخ الأنصاريّ سطوة علميّة قويّة في الحوزة، فهو في علم الأصول من تنصرف إليه صفة "الشيخ" إذا أطلقت مجرَّدة، وهو صاحب صفة "الشيخ الأعظم".
د- إضافة إلى سطوته العلميّة فهو موصوف بأخلاقيّاته العالية التي جعلته قدوة متميّزة لطلاب العلوم الدينيّة، فهو الذي حينما زاره الشاه لم يكن لابسًا عمامة ولا عباءة، وحينما استغرب الشاه منزله المتواضع، ولباسه الزاهد أجابه قائلاً: "إياك أن تعتقد أنّي لا
عمامة ولا عباءة عندي، فهما موجودان، ولكنَّهما منشوران على سطح المنزل للتجفيف بعد غسلهما"، وهو الذي فاجأته زوجته بأنّها كانت تقتطع شيئًا يسيرًا من المبلغ القليل الذي كان يعطيها من سهم الإمام عليه السلام لمصروف المنزل، واستطاعت من خلال ذلك الاقتطاع أن تشتري ثوبًا له، فبكى الشيخ الأنصاريّ، لأنّه علم وقتها أنّه كان يستطيع قبل هذه المدّة أن يصرف أقلّ ممّا كان يعطيها من مال، بينما كان لا يفعل ذلك لعدم التفاته إليه.

ولا يخفى أنّ إضافة هذه الصور الأخلاقيّة إلى السطوة العلميّة العالية تجعل التأثُّر بكتابه وما ذكر فيه أكبر.

إنّي أتذكّر يومًا كنت أتباحث فيه مع بعض الأخوة في حوزة قم المشرَّفة حول ولاية الفقيه، فدخل أحد المشايخ وقال: أتتباحثون عن ولاية الفقيه، وقد قال عنها الشيخ الأعظم: "دون إثباتها خرط القتاد".

لقد كان لكتاب المكاسب الأثر البارز في غربة ولاية الفقيه.

الأنصاريّ وريث النجفيّ

إنّ كلام الشيخ الأنصاريّ المتقدِّم في كتاب القضاء والشهادات، والذي يتبنّى فيه القول بولاية الفقيه العامّة يرفع استغرابًا حول تبنّيه العلميّ من قبل الشيخ حسن النجفيّ صاحب "جواهر الكلام" الذي وصف في كتابه الذي لا يقول بولاية الفقيه العامّة "كأنّه ما ذاق من طعم الفقه شيئًا"6.

فقد ورد في حياة الشيخ النجفيّ أنّه أراد أن يعيِّن المرجع الأعلم بعده، فاستدعى الوجوه العلميّة في النجف الأشرف، وحينما اجتمعوا عنده، نظر إليهم، وسأل عن الشيخ مرتضى

الأنصاريّ ، فاستدعي إلى تلك الجلسة، وحينما استتبّ المجلس أشار الشيخ النجفيّ إليه وقال للحاضرين: هذا هو الأعلم من بعدي.

إنّ ما مرّ من المقولة الواضحة للشيخ الأنصاريّ في ولاية الفقيه العامّة تناسب هذا التنصيب له من قبل صاحب الجواهر، إذ من المستبعد أنّ يعيَّن صاحب الجواهر مرجعًا بعده بصفته أعلم علماء الشيعة، وهو، بنظره، لم يذق من طعم الفقه شيئًا؟!.

4- الحالة النفسيّة للحوزة بعد ثورة العشرين
عاش الحوزويّون عشرات السنين تلت ثورة العشرين حالة انزواء عن المجتمع، رافضين الكثير من الجديد، فمن الأمور المسموعة من العديد ممّن عاشوا في تلك المرحلة ما يعبِّر عن حالة نفسيّة مستغربة، من قبيل الاعتراض على من يسمع الراديو، أو يتابع الأخبار بواسطة الصحف، ومن قبيل رفض تعليم الأولاد في المدارس الأكاديميّة، ومن قبيل الاعتراض على من لبس الساعة في اليد أو بدَّل "مداسه"7 بحذاء من النوع الجديد... الخ.

وقد أرجع البعض هذه الحالة النفسيّة العجيبة إلى كونها ردّة فعلٍ من أبناء الحوزة بعد انتهاء ثورة العشرين التي تعدّ من مفاخر العراقيين والحوزات العلميّة.

ثورة العشرين

عام 1914 احتلّ البريطانيون "الفاو"8 وبعدها البصرة، ورغم المعاناة الشديدة التي عانها العراقيون من الأتراك، قرَّرت الحوزة العلميّة الوقوف إلى جانبهم لمواجهة غزو الانكليز، فأصدر كبار مراجع الدين في النجف وكربلاء والكاظميّة أحكامهم الشرعيّة بوجوب الدفاع عن البلاد، ومحاربة الكفّار والغزاة، وكان على رأسهم الميرزا محمّد تقي الشيرازي (سامراء)، والسيد محمد كاظم اليزدي (النجف)، والسيد مهدي الحيدريّ (الكاظمية)، ولم يكتفِ علماء الدين ببيان الحكم الشرعيّ، بل اشتركوا في القتال مباشرة، وقد تحرّك من مدينة النجف إلى الكاظميّة السيد مصطفى الكاشانيّ، والسيد علي الدماد، وشيخ الشريعة الأصفهانيّ، كما أرسل كلّ من الإمام اليزديّ والإمام الشيرازيّ بعض أولادهما للاشتراك في الجهاد، وتحرّك من الكاظميّة كلٌّ من السيد مهدي الحيدريّ، والشيخ مهدي الخالصيّ، ومن النجف الشيخ محمّد سعيد الحبّوبي الذي مرّ في طريقه على مدن الفرات الأوسط يثير الجماهير، ويجمع السلاح والذخيرة، وينظّم الرجال كتائب للجهاد9.

وبعد سقوط الدولة التركيّة، وقيام الاحتلال الانكليزيّ أصدر الإمام الشيرازيّ حكمه الجهاديّ قائلاً: "إذا أصرّ الانجليز على غصبكم حقّكم، وقابلوا التماسكم بالحرب، فيجب عليكم الدفاع بجميع قواكم، ويحرم الرضوخ لهم والاستسلام"10.

وهكذا قامت ثورة 1920م ضد الاحتلال الانكليزي بقيادة علماء الحوزة العلميّة، إلاّ أنّ عدم التكافؤ بين القوى، وغياب القائد برحيل الميرزا الشيرازيّ، وبعده شيخ الشريعة بموتٍ قد يكون اغتيالاً سريًّا، ولأسباب أخرى استطاع الانكليزي القضاء على الثورة، ونالت مناطق الثورة والتي فيها المراكز الأساسيّة للحوزات العلميّة، من إرهاب الإنكليز ما نالت، بعد هذا حصل الانزواء الاجتماعيّ لأبناء الحوزات العلميّة، وانصبّ تركيزهم على الجانب العلميّ بعيدًا عن قضايا المجتمع العامّة.

إنّ النظرة إلى حركة السيد الشهيد محمّد باقر الصدر التي انطلقت من رفضٍ لذلك الواقع توضِّح الآثار الاجتماعيّة في الحوزة في المدّة التي تلت ثورة العشرين، وهذا الأمر جعلها بعيدة بعدًا كبيرًا عن طرح أمور الحكومة الإسلاميّة، وزاد من غربة بحث ولاية الفقيه.

* يسألونك عن الولي، سماحة الشيخ أكرم بركات.


1- الإمام الخميني، روح الله، الحكومة الإسلاميّة، ص 9.
2- أنظر: الأنصاري، مرتضى، المكاسب، تحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، ط2، قم، المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئويّة لميلاد الشيخ الأنصاريّ، ج3، ص 546.
3- المرجع السابق، ص 553.
4- الفراهيدي، الخليل، كتاب العين، تحقيق د.مهدي المخزومي و د. إبراهيم السامراني، ط1، بيروت، الأعلمي، 1988م،، ج4، ص 215. الجوهريّ، إسماعيل، الصحاح، ط4، بيروت، دار العلم للملايين، 1987م، ج2، ص 512.
5- الأنصاري، مرتضى، المكاسب، ج3، ص 555.
6- النجفيّ، محمّد حسن، جواهر الكلام، تحقيق وتعليق عباس القوجاني، ط2، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1365هـ ش، ج21، ص 397.
7- نوع من الحذاء القديم.
8- كاظم، عباس، ثورة الخامس عشر من شعبان، ط1، (لا،م)، (لا،ن)، 1984م، ص 66.
9- كاظم، عباس، ثورة الخامس عشر من شعبان، ص 68.
10- المرجع السابق، ص 290.

2013-10-09