يتم التحميل...

الإمام الكاظم عليه السلام في كلام الولي دام ظله

الحياة السياسية

هذا المقطع الزماني الممتدّ لـ 35 سنة - من العام 148 للهجرة إلى 183 - وهو مرحلة إمامة الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام ، يُعدّ أهم (مقطع) في مسيرة حياة الأئمّة عليهم السلام.

عدد الزوار: 283

ظروف تولّي الإمام الكاظم عليه السلام للإمامة
هذا المقطع الزماني الممتدّ لـ 35 سنة - من العام 148 للهجرة إلى 183 - وهو مرحلة إمامة الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام ، يُعدّ أهم (مقطع) في مسيرة حياة الأئمّة عليهم السلام . ففيه حكم اثنان من أكثر سلاطين بني العبّاس اقتداراً - المنصور وهارون - واثنان من أكثرهم تجبّراً المهدي والهادي. ولقد تمّ القضاء على الكثير من الثورات والانتفاضات في خراسان وأفريقيا وجزيرة الموصل والديلم وجرجان والشام ونصيبين ومصر وآذربايجان وأرمينيا وغيرها من الأقطار وتطويعها. وفي نواحي الشرق والغرب والشمال، من النطاق الإسلامي الوسيع، أُضيفت فتوحات جديدة وأموال وغنائم وافرة فزادت من قدرة عرش العبّاسيين واستحكامه.

في هذه المرحلة وصلت بعض التيّارات الفكرية والعقائدية إلى أوجها، وبعضها تولّد وخلق جوّاً فكريّاً مليئاً بالشبهات، ومنح أصحاب السلطة والقدرة حربةً جديدة وأضحى آفةً في الوعي الإسلامي والسياسي للناس، وضيّق على رواة ميدان المعارف الإسلامية الأصيلة وأصحاب الدعوة العلويّة وصعّب عليهم الأمر.

وقد تحوّل الشعر والفنّ والفقه والحديث، وحتى الزهد والورع إلى خدمة أصحاب السلطة؛ وأكمل لهم أدوات الهيمنة والتسلّط. في هذا العصر، لم يعُد الوضع كما كان عليه في نهاية عصر بني أميّة، ولا كان شبيهاً بالسنوات العشر الأولى لحكم العبّاسيين، ولا شبيهاً من مرحلة ما بعد هلاك هارون، بحيث يمثل في كلّ منها تهديداً للحكومة المتسلّطة في تلك الأزمنة؛ فأي تهديدٍ جدّي، ما كان ليزلزل جهاز الحكومة وما كان ليجعل الحاكم في هذا المقطع الزمني غافلاً عن التيّار العميق والمستمرّ لدعوة أهل البيت عليهم السلام .

في هذا العصر، الشيء الوحيد الّذي كان من الممكن أن يمنح جهاد أهل البيت عليهم السلام وحركتهم الفكرية والسياسية، هم وأتباعهم المقرّبين مجالاً للاستمرار والتكامل، هو السعي دون هوادة والجهاد الخطير واعتماد أسلوب التقيّة الإلهية. وبهذا اللحاظ تتضّح العظمة المدهشة لجهاد موسى بن جعفر عليه السلام .

يجب أن أقول إنّ المحقّقين والمتعمّقين في التاريخ الإسلامي عندما قاموا بتتبّع ودراسة حياة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام فإنّهم لم يخصّصوا القدر اللازم من التوجّه والانتباه لتلك الحادثة العظيمة والّتي لا نظير لها وهي "مدة السجن الطويلة" لهذا الإمام الهمام، ولهذا كانت النتيجة أن غفلوا عن جهاده الخطير.

وفي سيرة حياة هذا الإمام العالي المقام عليه السلام ، فإنّ الحديث عن الوقائع المختلفة وغير المترابطة فيما بينها، والتأكيد على المقام العلمي والمعنوي والمقدّس لسليل النبوّة؛ ونقل قضايا آل بيته وأصحابه وتلامذته ومناظراته العلمية والكلامية وأمثالها، دون التوجّه إلى خطّ الجهاد المستمرّ الّذي شمل مدّة إمامته المباركة الممتدّة لـ 35 سنة، كلّ ذلك يبقى ناقصاً وغير تام. فبشرح وتبيين هذا الخطّ، الّذي يربط جميع أجزاء هذه الحياة المليئة بالبركة فيما بينها، وبتقديم صورةً واضحةً ومتكاملةً وهادفةً فيها، تتّضح معاني كلّ ظاهرة أو حادثة أو حركة.

فلماذا يقول الإمام الصادق عليه السلام للمفضّل: لا تخبر أحداً عن أمر إمامة هذا الفتى إلا لمن تثق بهم؟ ويقول لعبد الرحمن بن الحجّاج تلميحاً لا تصريحاً: لقد كان الدرع على مقاسه؟ ويعرّفه على شيعته المقرّبين كصفوان الجمّال بالعلامة والصفة؟ ولماذا في آخر الأمر، في وصيّته يذكر اسم ابنه كوصيّ له بعد ذكر أربعة أسماء، أوّلهم المنصور العبّاسي ومن ثمّ حاكم المدينة ومن ثمّ امرأتين؛ بحيث أنّ جمعاً من كبار الشيعة لا يعرفون بعد ارتحاله، أنّ خليفته هو هذا الفتى ابن العشرين سنة؟ ولماذا في حديثه مع هارون الّذي خاطبه قائلاً: "خليفتان يجيء إليهما الخراج"1 يتنكّر ويلاطف، في حين أنّه في بداية خطابه لذلك الرجل الزاهد صاحب الكلمة النافذة المدعوّ حسن بن عبد الله، ينجرّ الحديث إلى معرفة الإمام، ويعرّفه بعنوان الإمام المفترض الطاعة، أي صاحب المقام الّذي كان في ذلك اليوم الخليفة العبّاسي قابضاً عليه؟؟

ولماذا يأمر علي بن يقطين، الّذي كان صاحب منصبٍ رفيعٍ في جهاز هارون وهو من محبّي الإمام عليه السلام ، بالعمل بالتقيّة، لكنّه يوبّخ صفوان الجمّال على خدمته في نفس ذلك الجهاز ويدعوه إلى قطع علاقته مع الخليفة؟ وكيف وبأيّة وسيلة يوجد تلك العلقة والرابطة على امتداد انتشار الإسلام بين أتباعه وشيعته فتمتدّ تلك الشبكة إلى الصين؟ لماذا يعزم كلّ من المنصور والمهدي وهارون والهادي، في مرحلةٍ حكمه، على قتله وحبسه ونفيه؟ لماذا، كما يُعلم من بعض الروايات، يتخفّى الإمام عليه السلام في مدّةٍ من الزمن أثناء هذه الـ 35 سنة، ويلجأ إلى بعض قرى الشام أو مناطق طبرستان فتتمّ ملاحقته من قبل خليفة ذلك الزمان ويوصي أتباعه بالتنكّر له وعدم معرفته فيما لو سألهم الخليفة عنه؟

لماذا يقوم هارون في موسم الحجّ بتجليله إلى أعلى حدّ، وفي حجٍّ آخر يأمر بحبسه ونفيه؟ ولماذا يقوم الإمام عليه السلام ببيان حدّ فدك الّذي يشمل كلّ العالم الإسلاميّ المترامي في بداية خلافة هارون، حينما انتهج أسلوب اللين والصفح وحرّر العلويين من السجون إلى الدرجة الّتي يجيبه الخليفة معترضاً: إذاً قم واجلس مكاني؟ ولماذا يتبدّل سلوك هذا الخليفة الليّن بعد عدّة سنوات إلى الشدّة والعنف حتّى أمر بحبس الإمام عليه السلام وفيما بعدها بسنوات لم يعد يتحمّل وجوده في السجن فيأمر بقتله بالسمّ وارتكاب تلك الجريمة؟

هذه ومئات الأحداث الملفتة والمليئة بالمضمون، والّتي بحسب الظاهر غير مترابطة وأحياناً متناقضة فيما بينها، في حياة موسى بن جعفر عليه السلام ، تصبح ذات معنى وارتباط عندما نشاهد تلك السلسلة المستمرّة منذ بداية إمامته وإلى لحظة شهادته. وهذه السلسلة هي خطّ الجهاد والمواجهة للأئمّة عليهم السلام والّذي استمرّ طيلة 250 سنة وبأشكالٍ مختلفة وكان الهدف منه؛ أوّلاً تبيين الإسلام الأصيل والتفسير الصحيح للقرآن، وتقديم صورة واضحة عن المعالم الإسلامية؛ وثانياً، تبيين قضية الإمامة والحاكمية السياسية في المجتمع الإسلامي؛ وثالثاً، السعي من أجل تشكيل ذلك المجتمع وتحقيق هدف نبيّ الإسلام المعظّم وجميع الأنبياء، أي إقامة القسط والعدل وعزل أنداد الله عن ساحة الحكومة، وإيداع زمام إدارة الحياة إلى خلفاء الله وعباده الصالحين.

لقد أوقف الإمام موسى بن جعفر عليه السلام كلّ حياته لهذا الجهاد المقدّس؛ وكان تعليمه وفقهه وحديثه وتقيّته وتربيته كلّه في هذه الجهة. بالطبع، كان لزمانه خصائصه؛ لهذا كان جهاده أيضاً متناسباً مع مقتضيات زمانه؛ مثلما كان الأمر بالنسبة للأئمّة الثمانية من زمن الإمام السجّاد عليه السلام إلى زمن الإمام العسكري، حيث كان لكلّ واحدٍ أو لمجموعة منهم خصائص في زمانه وبتبع ذلك في جهاده. وكانت حياتهم بالمجموع عبارة عن المرحلة الرابعة من مسيرة حياة الـ 250 سنة والّتي يمكن تقسيمها أيضاً إلى مراحل.(26/07/1368)

السعي دون كللٍ واعتماد أسلوب التقيّة
كانت حياة موسى بن جعفر عليه السلام ، حياةً مدهشة وعجيبة. ففي حياته الخاصّة أوّلاً، كان الأمر واضحاً بالنسبة للمقرّبين. فلم يكن أيٌّ من هؤلاء المقرّبين والخواص من الأصحاب من لا يعلم بالهدف من وراء جهاده. وكان الإمام موسى بن جعفر عليه السلام نفسه يصرّح بهذا في كلماته وإشاراته وأعماله الرمزية لغيرهم أيضاً. حتّى في محلّ إقامته، تلك الغرفة الخاصّة الّتي كان يستقرّ فيها، كان الأمر بحيث إنّ الراوي الّذي كان من المقرّبين من الإمام عليه السلام يقول: لقد دخلت ورأيت في غرفة موسى بن جعفر ثلاث أشياء؛ أحدها لباسٌ خشن بعيدٌ كلّ البعد عن الحال المعتمد المرفّه العاديّ. أي بحسب مصطلح اليوم يمكن الفهم ويمكن القول أنّه لباس حربٍ. لقد وضع موسى بن جعفر هذا اللباس لم يلبسه كحالةٍ رمزية. و"سيفٌ معلّق" أي إما أن يكون متدلّياً من السقف أو معلّقاً بالجدار، و"المصحف"2 أي القرآن. فانظروا أيّ رمزٍ هذا وأيّة إشارةٍ جميلة حيث نشاهد في غرفته الخاصّة الّتي لا يدخلها سوى أصحابه الخواص، علامات ومؤشّرات رجلٍ حربيٍّ دينيّ. والسيف الموجود كان يشير إلى أنّ الهدف هو الجهاد. واللباس الخشن يشير إلى الوسيلة وهي الحياة الخشنة القتالية والثورية؛ والقرآن يشير إلى أنّ الهدف هو أنّنا نريد أن نصل إلى حياة القرآن بهذه الوسائل وهذه الصعاب الّتي نتحمّلها؛ أمّا أعداء هذا الإمام عليه السلام فكانوا يشعرون بهذه الأمور.

إنّ حياة موسى بن جعفر، أي إمامته، بدأت في أصعب المراحل والمقاطع الزمنيّة. فباعتقادي لا يوجد عصر من بعد عصر الإمام السجّاد عليه السلام بشدّة وصعوبة عصر موسى بن جعفر عليه السلام . فموسى بن جعفر عليه السلام صار إماماً عام 148 بعد وفاة أبيه الإمام الصادق عليه السلام . وفي هذا العام كانت أوضاع بني العبّاس قد استتبّت، بعد فراغهم من الصراعات والخلافات والحروب الّتي كانت دائرة فيما بينهم في بداية حكمهم. فلقد قضوا على التهديد الكبير لخلافتهم والّذي كان يجيء من شخصيات وجيهة كبني الحسن - محمّد بن عبد الله بن الحسن وإبراهيم بن عبد الله بن الحسن وبقية أولاد الإمام الحسن الّذين كانوا من أشدّ الناس عداءً ونقمةً على بني العبّاس - حيث قتل العبّاسيّون عدداً كبيراً من رؤسائهم ووجهائهم، وتبيّن هذا الأمر بعد فتح الأسطوانات والأنبار عند موت المنصور العبّاسي، حيث وجدوا فيها عدداً كبيراً من الشخصيّات والأفراد المقتولين الّذين رُميت أجسادهم وظهرت هياكلهم العظمية أيضاً. فلقد قتل المنصور من الشخصيات المشهورة والمعروفة من بني الحسن وبني هاشم من أقاربه ومن الّذين كان يعدّون من المقرّبين لهم، بحيث إنّه بنى لذلك مخازن خاصّة. وبعد أن فرغ من كلّ هؤلاء وصل الأمر إلى الإمام الصادق عليه السلام ، فقتله بالسمّ غيلةً. ولم يعد في أجواء الحياة السياسية للعبّاسيين أيّ غبارٍ، في مثل هذه الظروف الّتي كان يتمتّع فيها المنصور بأوج السلطة الظاهرية والقدرة، جاء دور خلافة موسى بن جعفر عليه الصلاة والسلام، الّذي كان شابّاً في مقتبل العمر، وكان يخضع لكلّ هذه الرقابة. وكان الأمر بحيث إنّ الّذين كانوا يريدون أن يعرفوا إلى من يرجعون بعد الإمام الصادق عليه السلام كانوا يجدون صعوبة بالغة في شقّ الطريق والوصول إلى موسى بن جعفر عليه السلام . وكان موسى بن جعفر عليه السلام يوصيهم بالحذر لأنّه لو عُرف أنّهم قد سمعوا منه وأخذوا من تعاليمه وارتبطوا به سيكون مصيره الذبح. ففي مثل تلك الظروف، وصل الإمام موسى بن جعفر عليه السلام إلى الإمامة وبدأ جهاده.

وهنا لو سألتم أنّه كيف بدأ موسى بن جعفر جهاده عندما وصل إلى الإمامة، وماذا فعل، ومن جمع، وأين ذهب، وأيّة أحداثٍ جرت عليه طيلة هذه الـ 35 سنة، فللأسف ليس لهذا العبد جوابٌ واضح، وليس لي سوى الغصص كمحقّقٍ في حياة صدر الإسلام. فلا يوجد في يد أحد سيرةٌ مرتّبة ومدوّنة عن هذه المرحلة الممتدّة على 35 سنة. إنّ ما أذكره هنا لم يُكتب، ولم يجرِ حوله أبحاثٌ وتحقيقات، ويجب أن يحصل ذلك من أجل هذا الأمر. هناك أشياءٌ متفرّقة يمكن أن نفهم من مجموعها أشياء كثيرة.

إحداها أنّ هناك أربعة خلفاء حكموا في مرحلة إمامة موسى بن جعفر عليه السلام في هذه السنوات الـ 35. ومنهم المنصور العبّاسي والّذي امتدّ حكمه في بداية إمامة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام لمدة 10 سنوات، ثم جاء ابنه المهدي من بعده وحكم أيضاً لعشر سنوات. ومن بعد المهدي، جاء الهادي العبّاسي ليحكم سنةً واحدة، ومن بعده هارون الرشيد الّذي حكم لمدّة 12 سنة تقريباً، وقد كان الإمام موسى بن جعفر عليه السلام مشغولاً بالتبليغ والدعوة إلى الإمامة. وكلّ واحد من هؤلاء الخلفاء الأربعة، ضايقوا موسى بن جعفر عليه السلام وضغطوا عليه.

فالمنصور استدعى الإمام عليه السلام (نفاه أو أحضره) جبراً إلى بغداد. وبالطبع، مثل هذه الأمور جرت بعد تلك الأحداث. عندما ينظر المرء إلى حياة موسى بن جعفر يرى الكثير من هذه الحوادث. وإحداها هو استحضاره من المدينة إلى بغداد وجعله فيها تحت الرقابة والضغوط. وما نستنتجه من الروايات أنّ الإمام عليه السلام قد وُضع تحت الكثير من المحذورات. وكم امتدّت هذه الحالة، ليس معلوماً. ففي مقطعٍ من حكومة المنصور، وبحسب الظاهر، جلبوا الإمام عليه السلام إلى منطقة في العراق تُدعى أبجر، ووضعوه فيها مدّة معيّنة. يقول الراوي أنّني وصلت إلى محضر موسى بن جعفر عليه السلام ، وهو هناك في تلك الحوادث فقال لي الإمام عليه السلام كذا وفعل كذا. وفي زمن المهديّ العبّاسي، أُحضر الإمام عليه السلام مرّة واحدة على الأقل من بغداد إلى المدينة. يقول الراوي: إنّني التقيت بموسى بن جعفر على طريقٍ وهم يحضرونه إلى بغداد "في المقدّمة الأولى" - فيُعلم من هذا التعبير أنّ الإمام عليه السلام قد أُحضر عدّة مرّات ولعلّ ثلاث مرّات في زمن المهدي - فوصلت إلى الإمام عليه السلام وتأسّفت وتألّمت. فقال لي الإمام كلا، لا تحزن فقد أرجع من هذا السفر سالماً، وهؤلاء لن يتمكّنوا من أن يضرّوني بشيء؛ وهذا كان في زمان المهديّ.

وفي زمن الهادي العبّاسي، أرادوا إحضاره من أجل قتله، وهناك حزن أحد الفقهاء المحيطين بالهادي العبّاسي وتألّم قلبه عندما رأى ابن النبيّ يُفعل به هذا، فتوسّط للهادي العبّاسي، فانصرف عن قتله. وفي زمن هارون، حينما جلبوا الإمام عليه السلام إلى بغداد، وُضع لمدّة طويلة وعلى مراحل، حيث أحتمل أنّه جرى ذلك في زمن هارون أكثر من مرّة، لكنّ المسلّم به أنّ ذلك حصل مرّة واحدة حيث أُحضر الإمام عليه السلام من المدينة ووُضع في سجون مختلفة وكان أحدها في بغداد، وفي سجون متعدّدة أيضاً، ثمّ كان آخرها في سجن السنديّ بن شاهك الّذي قتل فيه الإمام عليه السلام .

انظروا أنتم طيلة هذه السنوات الـ 35 حينما كان موسى بن جعفر عليه السلام مشغولاً بالدعوة إلى الإمامة والقيام بالتكليف والجهاد قد استُدعي عدّة مرّات وأُحضر. هذا بالإضافة إلى أنّ خلفاء عصره عزموا عدّة مرّات على قتله، وأعدّوا لذلك خطّته. فالمهدي العبّاسي ابن المنصور بمجرّد أن وصل إلى الحكومة قال لوزيره أو حاجبه الربيع أنّه عليك أن تعدّ العدّة لقتل موسى بن جعفر عليه السلام والقضاء عليه. كان يشعر أنّ الخطر الأساسي يأتي من جانب موسى بن جعفر عليه السلام . والهادي العبّاسي كما قلت قد عزم في بداية حكومته على قتل الإمام عليه السلام . حتّى أنّه أنشد شعراً وقال: لقد مرّ الزمان الّذي نعامل فيه بني هاشم باللين ونستسهل أمرهم، وإنّني عازمٌ وحازمٌ على أن لا أبقي منهم أحداً، وأوّل من سأقضي عليه هو موسى بن جعفر. وفيما بعد كان هارون الرشيد أيضاً يريد أن يفعل نفس هذا الأمر، وقد فعله وارتكب هذه الجريمة الكبرى. فانظروا أيّة حياةٍ مليئة بالأحداث مرّت على موسى بن جعفر عليه السلام .

ويوجد نقاطٌ كثيرةٌ دقيقةٌ لم تتّضح بالإضافة إلى هذه الأمور في حياة موسى بن جعفر عليه السلام . فباليقين كان موسى بن جعفر عليه السلام يعيش في مرحلة ما في الخفاء ولم يُعلم أين كان يتستّر. وهناك نجد أنّ الحاكم يستدعي أشخاصاً ويحقّق معهم فيما لو رأوا موسى بن جعفر عليه السلام أو علموا أين هو. وكانوا يصرّحون بأنّهم لم يشاهدوه حتّى أنّ بعض هؤلاء - كما جاء في رواية - قد أخبرهم موسى بن جعفر عليه السلام بأنّهم سيستدعونه ويسألونه عنه وعن مكان رؤيته، فأنكِر عليهم ذلك، ولا تعلِن أنّك رأيتني، فحصل ذلك وسجنوه وحقّقوا معه في ذلك.

فانظروا إلى حياة إنسانٍ هو لا يفعل سوى بيان الأحكام والمعارف الإسلامية ولا يتدخلّ في الحكومة أو يمارس المواجهة السياسية كيف وضعوه تحت مثل هذه الضغوط. حتّى أنّني رأيت في روايةٍ أنّ موسى بن جعفر أضحى يفرّ ويختفي في قرى الشام، "دخل موسى بن جعفر عليه السلام بعض قرى الشام هارباً متنكّراً فوقع في غار"3. حيث إنّه وفي حديثٍ رُوي أنّ موسى بن جعفر لم يكن لمدّةٍ في المدينة، وكان يلاحَق في قرى الشام من قبل الأجهزة الحاكمة، فتُرسل بتبعه الجواسيس وتلاحقه من قرية إلى قرية، وعندما يصل الإمام عليه السلام إلى غارٍ ويدخله يجد نصرانياً فيه. وهناك يحصل مناظرة بينه وبينه، وكأنّ الإمام عليه السلام حتّى في مثل تلك الظروف لم يغفل عن تكليفه الإلهيّ في بيان الحقيقة، فيتحدّث مع ذلك النصرانيّ الّذي يُسلم في النهاية.

جهاد الإمام عليه السلام ومعارضته لحكم هارون
لقد كانت حياة موسى بن جعفر عليه السلام المليئة بالأحداث هكذا، ترونها حياةً مليئةً بالمفاجآت والحماسة. نحن اليوم ننظر فنظن أنّ موسى بن جعفر عليه السلام هو مجرّد شخص مظلوم، يعيش حياةً هادئةً ومرفّهة في المدينة، فيأتي عمّال الخليفة إليه ويأخذونه إلى بغداد أو إلى الكوفة أو إلى البصرة، لحبسه وتسميمه فيما بعد، فيستشهد وتنتهي الأمور. لم تكن القضية هكذا. بل كانت عبارة عن جهادٍ طويلٍ ومواجهة منظّمة تحوي الكثير من الأفراد. وكان لموسى بن جعفر أتباعٌ في جميع أرجاء العالم الإسلامي يحبّونه. وفي ذلك الزمان نجد ابن عمّه السيّئ الذكر، والّذي كان من الأشخاص التابعين للجهاز الحاكم، يقول لهارون بشأن موسى بن جعفر عليه السلام هذه الجملة: "خليفتان يجيء إليهما الخراج". كأنه يقول لهارون أنّه لا تتصوّر أنّك الخليفة الوحيد على هذه الأرض، وداخل المجتمع الإسلامي، والوحيد الّذي تُجبى إليه الخراج. بل يوجد خليفتان أحدهما أنت والآخر موسى بن جعفر عليه السلام . فكما أنّ الناس يعطونك الخِراج فهم أيضاً يعطون موسى بن جعفر عليه السلام . وقد أراد بهذا الخبث السعاية في الإمام، ولكنه كان يذكر الواقع. لقد كان لموسى بن جعفر عليه السلام روابط وعلاقات ممتدّة عبر جميع مناطق العالم الإسلامي، غاية الأمر أنّ هذه العلاقات لم تصل إلى حيث يتمكّن موسى بن جعفر عليه السلام من القيام بحركةٍ عسكريةٍ علنيّة.

لقد كان حال موسى بن جعفر عليه السلام هكذا إلى أن وصل الأمر إلى هارون الرشيد. فكان هذا في الوقت الّذي لم يعد في المجتمع الإسلامي أيّة معارضة للجهاز الحاكم، وكان هارون الرشيد يحكم فارغ البال تقريباً، لكنّ وضع حياة موسى بن جعفر عليه السلام وانتشار دعوته لم يجعل مواجهة أمره من قبلهم سهلاً. وقد كان هارون سياسياً محنّكاً. ومن أعماله أنّه توجّه وذهب إلى مكّة حيث يحتمل الطبري - المؤرّخ المعروف، أو يذكر ذلك على نحو اليقين - أنّ هارون الرشيد قد عزم على الحج وكان هدفه في الخفاء أن يذهب إلى المدينة، ويطّلع على أوضاع موسى بن جعفر عليه السلام عن قرب. وأراد أن يرى هذه الشخصية الّتي يجري كلّ هذا الحديث عنها، ولها كلّ هؤلاء الأتباع حتّى في بغداد. وهل ينبغي أن يخاف منه، فجاء والتقى بموسى بن جعفر عليه السلام وكان هذا اللقاء مهمّاً جداً وحسّاساً للغاية. أولى هذه اللقاءات كان في المسجد الحرام حينما التقى كلّ من موسى بن جعفر عليه السلام وهارون خفاءً وجرت بينهما محادثات شديدة وحادّة، وحطّم موسى بن جعفر عليه السلام هيبة هذا الخليفة في محضر الموجودين، وهناك لم يكن هارون ملتفتاً إلى أنّ هذا هو موسى بن جعفر عليه السلام .

بعدها حينما يأتي إلى المدينة يعقد عدّة جلسات مع موسى بن جعفر عليه السلام ، وكانت هذه اللقاءات مهمّة. وإنّني أشير بهذا المقدار عسى أن يتابع أهل الدراسات والتحقيق والمهتمّين بهذه القضايا، فهذه بعض الرشحات وليتابعوا هم هذه القضية. منها هنا، أنّ هارون الرشيد وفي هذه اللقاءات قد استعمل كلّ ما يمكن أن يستعمله من أجل السيطرة على هذا الإنسان المخالف والمجاهد الحقيقي من التهديد والرشوة والحيلة.(23/01/1364)

إنّ هارون كان يعامل الإمام الكاظم عليه السلام معاملة جيّدة وحسنة وذلك خلال المرحلة الأولى من تصدّيه للحكم. والقصّة الّتي ينقلها المأمون حول الإمام الكاظم عليه السلام معروفة وملخّصها أنّ الإمام عليه السلام كان يمتطي دابّة وجاء ودخل إلى المكان الّذي كان يجلس فيه هارون وأراد الإمام عليه السلام أن يترجّل ولكن هارون لم يرضَ بذلك وأقسم عليه أن يبقى راكباً ويأتي بدابّته إلى بساطه، وعندما جاء الإمام عليه السلام راكباً على بساط الخليفة احترمه هارون وبقيا مدّة يتبادلان الحديث. فعندما عزم الإمام عليه السلام الرحيل طلب هارون مني (أي من المأمون) ومن الأمين أن نأخذ بركاب أبي الحسن، إلى آخر القصّة. والشيء الملفت في هذه القصّة هو ما نقله المأمون عن أنّ أبيه هارون أعطى جميع الحاضرين في المجلس 5 آلاف دينار و 10 آلاف دينار (أو درهم) كهدية وجائزة، ولكن أعطى لموسى بن جعفر عليه السلام 200 دينار، علماً بأنّه عندما كان الخليفة يسأل عن وضع الإمام عليه السلام كان الإمام عليه السلام يجيبه مبيّناً له المشكلات والأوضاع المعيشية السيّئة وكثرة العيال. فهذا الكلام من الإمام عليه السلام يحمل في طيّاته معنى دقيق، فأنا وبقيّة الّذين عاشوا تجربة التقيّة في زمان مواجهة الشاه نستطيع أن نفهم وندرك لماذا ذكر الإمام عليه السلام ولمثل هارون وضعه السيئ وعدم كفاية المعيشة، فهذا الكلام ليس فيه تذلّلاً.

الكثير منكم وفي عهد القمع والظلم قد فعلتم مثل ما فعل الإمام عليه السلام ، لأنّ الإنسان ومن خلال هذا الكلام يستطيع أن يبعد نظر العدوّ عن أعماله ونشاطاته. ومن الطبيعيّ أنّ هارون وبعد استماعه إلى مثل هذا الكلام كان ينبغي أن يعطي الإمام مبالغ طائلة 50 ألف دينار (أو درهم) مثلاً. ولكنّه رغم هذا كلّه لم يعطه أكثر من 200 دينار! يقول المأمون سألت أبي عن سبب إعطائه القليل فأجابني إذا أعطيته المبلغ الّذي في ذمّتي لخرج، ولقام مئة ألف فارس من الشيعة، بعد فترة وجيزة، ضدّي. فهذا كان استنتاج وفهم هارون وبرأيي، إنّ هارون كان صائباً في فهمه. هنا يتصوّر البعض أنّه قد تمّ السعاية والوشاية بالإمام عليه السلام لكن حقيقة القضية عكس ذلك وهو ما قلناه. لأنه لو كان الإمام عليه السلام يملك من الأموال الكافية في زمان جهاده ونضاله ضدّ هارون لاستطاع استقطاب الكثيرين ليحاربوا إلى جانبه. وهذا الوضع لاحظناه في زمان أبناء الأئمّة عليهم السلام وبالتأكيد أنّ الأئمّة لو كانوا يملكون المال الكافي لاستطاعوا جمع عدد أكبر من الناس حولهم، وعلى هذا نجد أنّ عهد الإمام الكاظم عليه السلام كان عهداً وصل فيه الجهاد والكفاح إلى أوجه حتّى انتهى باعتقال الإمام عليه السلام وسجنه.(28/04/1365)

رُوي أنّه قيل لموسى بن جعفر عليه السلام : "أنتم يا بني هاشم قد حُرمتم من فدك، وقد أخذوا فدك من آل علي، وأنا أريد أن أرجعها إليكم، قولوا لي أين هي فدك وما هي حدودها حتّى أرجعها إليكم". وكان واضحاً أنّ هذا مجرّد خداع، من أجل أن يظهر كأنّه قد أرجع حقّ آل محمد الضائع، وليُعرف بذلك بين الناس. فيقول له الإمام حسناً: إذا أنت أردت أن ترجع لنا فدك، فأنا سأعيّن لك حدودها. وهكذا تقرّر أن يحدّد له فدك. وما ذكره الإمام موسى بن جعفر عليه السلام في تعيين فدك كان عبارة عن كلّ العالم الإسلامي؛ وفدك هي هذه. أي أنّك إذا كنت تتصوّر أنّ نزاعنا معك هو حول بستان ما وعدّة أشجارٍ من النخيل فهذه سذاجة.

وليست قضيّتنا هنا عبارة عن بستان فدك مع نخيله، بل كانت القضية هي قضية خلافة النبيّ وخلافة الحكومة. غاية الأمر أنّه في ذلك اليوم فإنّ الشيء الّذي كان يُظنّ أنّه سيحرمنا من هذا الحقّ بشكل كامل هو مصادرة فدك. لهذا كنّا نصرّ ونؤكّد على هذه القضية. أمّا اليوم فإنّ الشيء الّذي غصبتنا إيّاه ليس فدك، الّتي لم يعد لها قيمة. وإنّ ما غصبته هو المجتمع الإسلامي والبلاد الإسلامية. فيذكر موسى بن جعفر أربعة حدودٍ ويقول هذه فدك، فأرجعها إلينا. أي أنّ الإمام موسى بن جعفر عليه السلام يصرّح بدعوى الحاكمية والخلافة في ذلك المجلس.(23/01/1364)

روي ان هارون الرشيد قال لموسى بن جعفر عليه السلام يوماً: "خُذّ فدكاً حتّى أردّها إليك"، امتنع الإمام عليه السلام في البداية ثمّ بعدها قال: "لا آخذها إلا بحدودها". فيقول له بعدها: "حسناً خذها". وعندها من الملفت جدّاً أن الإمام عليه السلام يعيّن له حدودها ويقول: "أمّا الحدّ الأوّل فعدن". ولأنّهما كانا جالسين مثلاً في المدينة أو في بغداد يتحدّثان. إذا قال "عدن" أي نهاية جزيرة العرب. "فتغيّر وجه الرشيد، وقال: تيهاً"، قال: "والحدّ الثاني سمرقند"، فاربدّ وجهه، "والحدّ الثالث إفريقيا"(أي الحدّ الثالث كان تونس) فاسودّ وجهه؛ أي هارون الرشيد؛ وقال: "هيه، عجيب أيّ كلامٍ هذا". قال: "والرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرمينيا". والآن هي أرمينيا وما يليها من الانحاء حتى البحر المتوسط. فقال الرشيد: "لم يبقَ شيء، فتحوّل إلى مجلسي". فرد عليه موسى بن جعفر عليه السلام : "قد أعلمتك أنّني إن حدّدتها لن تردّها" فعند ذلك عزم على قتله 4.( 28/04/1365)

شهادة الإمام الكاظم عليه السلام
عندما يريد هارون الرشيد أثناء الدخول إلى حرم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة في ذلك السفر أن يتظاهر بين المسلمين الّذين يزورونه، ويعلن قرابته من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ينزل إلى قبره ويقول: "السلام عليك يا بن العمّ"، فلا يقول: "يا رسول الله"، فيأتي موسى بن جعفر عليه السلام مباشرة، ويقف قبال الضريح ويقول: "السلام عليك يا أبتاه"، أي إذا كنت أنت ابن عمّه، فهو أبي. فيفضح هذا الأسلوب التزويري لهارون في نفس هذا المجلس.

وقد شعر من كان من حواشي هارون الرشيد أنّ أكبر خطر على جهاز الخلافة هو وجود موسى بن جعفر عليه السلام . هناك وقف رجلٌ من أتباع جهاز الحكومة والسلطة ورأى أنّ شخصاً راكباً يأتي من دون أي نوع من الاعتبارات، ومن دون أن يمتطي حصاناً فاخراً، ومجرّد أن جاء فُتح له الطريق وعلى الظاهر في نفس سفر المدينة ذاك، على ما أظن، ويدخل ويسأل ذاك الرجل: من هو هذا الّذي إذا دخل خضع الجميع مقابله، وفتح له حواشي الخليفة الطريق ليدخل". قيل له: هذا موسى بن جعفر". وبمجرّد أن قالوا له ذلك، قال: ويلٌ لحماقة هؤلاء"، أي بني العبّاس، يجلّون شخصاً يريد زوالهم والقضاء على حكومتهم. كانوا يعلمون أنّ خطر موسى بن جعفر عليه السلام على جهاز الخلافة هو خطرُ قائدٍ كبير يتمتّع بالعلم الوسيع والتقوى والصلاح، ويعرفه الجميع. وله أتباعٌ ومحبّون في جميع أرجاء العالم الإسلامي. ويتمتّع بشجاعةٍ لا تخيف أيّة قوّةٍ مهما بلغت، ولهذا يقف مقابل الأبّهة الظاهرية لسلطنة هارون ويتحدّث من دون أيّة محاباةٍ أو مجاملة.

مثل هكذا شخصية مجاهدة ومناضلة ومتّصلة بالله ومتوكّلة على الله لها أنصارٌ في جميع أرجاء العالم الإسلامي ولديها خطّة لأجل إقامة الحكومة والنظام الإسلاميين. كان هذا يمثّل أكبر خطر لحكومة هارون. لهذا قرّر هارون أن يزيل هذا الخطر من أمامه. بالطبع، لقد كان هارون رجلاً سياسيّاً لهذا لم يقم بهذا العمل دفعةً واحدة. وفي البداية كان يرغب أن يتمّ هذا الأمر بطريقة غير مباشرة. بعدها وَجد أنّه من الأفضل أن يسجن موسى بن جعفر عليه السلام ، لعلّه يستطيع في السجن من التفاوض معه أو إعطائه امتيازات، ويضعه تحت الضغوط من أجل حمله على القبول والإذعان والتسليم. لهذا أمر باعتقال موسى بن جعفر عليه السلام وإحضاره من المدينة؛ ولكن بطريقة لا تخدش مشاعر أهل المدينة ولا يعرفون ما حلّ بموسى بن جعفر عليه السلام . لهذا، صنعوا مركبين ومحملين ووجّهوا واحداً منهما إلى العراق وآخر إلى الشام من أجل أن لا يعرف الناس إلى أين يأخذون موسى بن جعفر. فجاؤوا بموسى بن جعفر إلى مركز الخلافة في بغداد وسجنوه هناك، وكان هذا السجن لمدّة طويلة. بالطبع، هناك احتمال أنّه ليس من المسلّم أنّ الإمام عليه السلام قد أُخرج من السجن دفعةً واحدة واعتُقل مجدّداً، ولكن من المسلّم أنّه اعتُقل مرّة أخرى من أجل أن يُقتل في السجن وهذا ما فعلوه.

بالتأكيد كانت شخصية موسى بن جعفر عليه السلام داخل السجن هي تلك الشخصيّة الّتي تشبه المنارة الهادية لكلّ من كان يحيط بها. فانظروا، الحقّ هو هذا، إنّ حركة الفكر الإسلامي والجهاد الّذي يقوم على أساس القرآن هي مثل هذه الحركة، فلا يمكن أن تتوقّف لحظةً واحدة حتّى في أصعب الظروف وهذا هو العمل الّذي قام به موسى بن جعفر عليه السلام حيث يوجد في هذا المجال قصصٌ كثيرة وروايات عديدة؛ وواحدة من أكثرها جمالاً ولفتاً للنظر، أن السنديّ بن شاهك المعروف والّذي تعلمون كان سجاناً عنيفاً جداً وشديداً ومن عبيد العباسيين والأكثر وفاءً لهذه السلطنة والخلافة في تلك الأيام؛ وقد كان هذا سّجان موسى بن جعفر عليه السلام وسجن موسى بن جعفر عليه السلام في زنزانة شديدة الصعوبة تحت الأرض، في منزله. وكانت عائلة السنديّ بن شاهك في بعض الأوقات تنظر من طاقة إلى داخل السجن وقد أثّر وضع حياة موسى بن جعفر عليه السلام فيهم وغرس فيهم بذر محبة أهل البيت. فأحد أبناء السنديّ بن شاهك ويُدعى كشاجم أصبح من كبراء التشيّع وأعلامهم. ولعلّه يأتي جيل أو جيلين من السنديّ بن شاهك، وهو من أبناء السندي بن شاهك كشاجم الّذي كان من أكبر الأدباء والشعراء وأعلام التشيّع في زمانه، وقد ذكره الجميع؛ اسمه كشاجم السندي الّذي هو من أبناء السندي من شاهك.

هذا هو حال حياة موسى بن جعفر الّتي كانت تجري معه في السّجن. بالتأكيد لقد جاؤوا مرّات إلى الإمام في السجن وهدّدوه وطمّعوه وأرادوا أن يرغّبوه لكنّ هذا الإنسان العظيم الّذي اتّصف بتلك الصلابة الإلهيّة، وبالتوكّل على الرّب المتعال واللطف الإلهي ونفس هذا الصمود هو الّذي حفظ القرآن والإسلام إلى اليوم. اعلموا هذا، أنّ استقامة أئمّتنا في مقابل تيّارات الفساد هي الّتي أدّت أن نتمكّن اليوم من أن ندرك الإسلام الحقيقيّ. يمكن للأجيال المسلمة وأبناء البشر اليوم أن يدركوا شيئاً باسم الإسلام والقرآن وسنّة النبيّ في الكتب، أعم من كتب الشيعة وحتى في كتب أهل السنة. لو لم تكن هذه الحركة المجاهدة الشديدة للأئمّة عليهم السلام طيلة هذه الـ 250 سنة فاعلموا أنّ الكتّاب المأجورين والخطباء المأجورين لعصر الأمويين والعباسيين كانوا ليبدّلوا الإسلام بالتدريج، وكانوا يفعلون ذلك، حيث إنّه بعد مرور قرنين من الإسلام لما كان بقي منه شيء. أو لما بقي القرآن، أو لكان القرآن محرّفاً. إنّ هذه الرايات الخفّاقة وتلك المشاعر المتّقدة وهذه المنارات الرفيعة هي الّتي وقفت في تاريخ الإسلام وأطلقت شعاع الإسلام بحيث إنّ كلّ المحرّفين والّذين أرادوا أن يقلبوا الحقائق في تلك البيئة المظلمة لم يتمكّنوا من أن يحقّقوا ما أرادوا. وتلامذة الأئمّة عليهم السلام كانوا من جميع الفرق الإسلامية ولم يكونوا من الشيعة فقط؛ وأولئك الّذين كانوا من تلامذة الأئمّة والّذين لم يكونوا يعتقدون بأهداف التشيّع أي الإمامة الشيعية، كانوا كثر. وقد تعلّموا التفسير والقرآن والحديث وسنّة النبي من الأئمّة. إنّ هذه المقاومة هي الّتي حفظت الإسلام إلى يومنا هذا.

في النهاية قُتل موسى بن جعفر عليه السلام في السجن مسموماً. ومن أشدّ مرارات سيرة الأئمّة هي شهادة موسى بن جعفر عليه السلام . وبالطبع لقد كانوا يريدون في ذلك الوقت أن يتظاهروا بالحسنى. ففي الأيام الأخيرة، جاء السنديّ بن شاهك بمجموعة من الوجوه والمشاهير الكبار الّذين كانوا في بغداد ليجتمعوا حول الإمام عليه السلام وقال لهم انظروا إنّ وضع حياته جيّد ولا يوجد أيّة مشكلة. فقال الإمام عليه السلام : نعم، ولكن اعلموا أنّهم سيقتلونني مسموماً. وقد قتل الإمام مسموماً في بضعة حبوب من التمر، وتحت تلك الأغلال والقيود الّتي قيّدوا بها عنقه وقدميه، وهكذا ارتفعت روح الإمام العظيم والمظلوم والعزيز في السجن، إلى الملكوت الأعلى ووصل إلى الشهادة.

بالطبع، كان هؤلاء يخافون أيضاً، يخافون من جنازة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ، وكذلك من قبر موسى بن جعفر عليه السلام . ولهذا عندما أخرجوا جنازة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام من السجن وكانوا يطلقون الشعارات الّتي تدل على أن هذا الشخص كان خارجياً ويثور على الحكومة، كانوا يقولون هذه الكلمات لكي يجعلوا شخصية موسى بن جعفر عليه السلام في مورد التهمة. وقد كانت أجواء بغداد بالنسبة لجهاز الحكم أجواء غير مستقرّة إلى درجة بحيث أنّ أحد عناصر جهاز الحكم نفسه وهو سليمان بن جعفر - سليمان بن جعفر بن المنصور العبّاسي أي ابن عم هارون الّذي يُعدّ من أشراف العباسيين - وجد أنّ هذا الوضع من الممكن أن يخلق لهم مشكلة، فقام بدور آخر وأحضر جنازة موسى بن جعفر عليه السلام ووضع كفناً قيّماً على الجنازة، وجاء بكلّ احترام إلى الإمام في مقابر قريش، الّتي تُعرف اليوم بـ "الكاظميين"، ودفنوا الإمام عليه السلام في المرقد المطهّر القريب من بغداد، وهكذا ختم موسى بن جعفر حياةً مليئةً بالجهاد.(23/01/1364)


1- الاحتجاج على أهل اللجاج، الطبرسي، ج 2، ص 389.
2- بحار الأنوار، ج 48، ص 100.
3- بحار الأنوار، ج 48، ص 105.
4- راجع: بحار الأنوار، ج 48، ص 144. في مناقب ابن شهرآشوب، في كتاب أخبار الخلفاء أن هارون الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر عليه السلام : "خذ فدكا حتى أردها إليك، فيأبى حتى ألح عليه فقال عليه السلام لا آخذها إلا بحدودها قال: وما حدودها؟ قال عليه السلام : إن حددتها لم تردها، قال: بحق جدك إلا فعلت؟ قال عليه السلام : أما الحد الأول فعدن، فتغير وجه الرشيد وقال: أيها، قال عليه السلام : والحد الثاني سمرقند، فأربد وجهه قال: والحد الثالث إفريقية فاسود وجهه وقال: هيه، قال عليه السلام : والرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرمينية، قال الرشيد : فلم يبق لنا شئ ، فتحول إلى مجلسي، قال موسى عليه السلام : قد أعلمتك أنني إن حددتها لم تردها فعند ذلك عزم على قتله".

2013-04-01