سورة الناس
في كنف الوحي
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ, مَلِكِ النَّاسِ, إِلَهِ النَّاسِ, مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ, االَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس, مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ.
عدد الزوار: 572
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ *مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * االَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ *مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ *﴾.
1- شرح المفردات
1- الوسواس: الصوت الخفي الذي لا يحسّ.
2- الخناس: صيغة مبالغة من الخنوس وهو التراجع والاختفاء.
3- الجنة: أي الجن في مقابل الإنس.
2- هوية السورة
• نزلت هذه السورة في مكة المكرّمة1 وآياتها ست.
محتوى السورة وفضيلتها
الإنسان معرض دائماً لوساوس الشيطان, وشياطين الجن والإنس يسعون دائماً للنفوذ في قلبه وروحه. ومقام الإنسان في العلم مهما ارتفع، ومكانته في المجتمع مهما سمت يزداد تعرضه لوساوس الشياطين ليبعدوه عن جادة الحق. وليبيدوا العالم بفساد العالِم.
هذه السورة تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره القدوة والأسوة أن يستعيذ باللَّه من شر الموسوسين.
محتوى هذه السورة شبيه بمحتوى سورة الفلق، فكلاهما يدوران حول الاستعاذة باللَّه من الشرور والآفات، مع فارق أن سورة الفلق تتعرض لأنواع الشرور، وهذه السورة تركز على شر (الوسواس الخناس).
وفي فضيلة هذه السورة وردت روايات متعددة منها ما روي:"إن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم اشتكى شكوى شديدة، ووجع وجعاً شديداً. فأتاه جبرائيل وميكائيل، فقعد جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، فعوّذه جبرائيل بقل أعوذ برب الفلق وميكائيل بقل أعوذ برب الناس"2.
روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال:"من أوتر بالمعوذتين وقل هو اللَّه أحد قيل له: يا عبد اللَّه أبشر فقد قبل اللَّه وترك"3.
في كنف السورة
1- الوسواس
الإنسان مركب من العقل والشهوة، والملائكة من العقل فقط، والحيوان من الشهوة فقط، كما ورد في بعض الأحاديث، لذلك كان من الطبيعي أن الإنسان تتجاذبه الموجات المتقابلة، من جهة موجة إلهية ملائكية ومصدرها العقل، ومن جهة أخرى موجة شيطانية إبليسية ومصدرها الشهوة، فهما يتصارعان، فإذا تغلب عقل الإنسان على شهوته أصبح أفضل من الملائكة، وإذا تغلبت شهوة الإنسان على عقله أصبح أخسَّ من الحيوان.
من هذا التصارع والتضاد في روح الإنسان وقلبه، يدخل الوسواس لكي يغلّب جهة الشهوة والهوى على جهة العقل والحكمة.
ولقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:"ما من مؤمن إلا ولقلبه أذنان في جوفه: أذن ينفث فيها الوسواس الخناس، وأذن ينفث فيها الملك، فيؤيد اللَّه المؤمن بالملك، وذلك قوله تعالى: ﴿... وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ...﴾(المجادلة:22)".
وعنه عليه السلام: "ما من قلب إلا وله أذنان، على أحدهما ملك مرشد، وعلى الآخر شيطان مفتر، هذا يأمره وهذا يزجره، وكذلك من الناس شيطان يحمل الناس على المعاصي، كما يحمل الشيطان من الجن".
2- علاج الوسواس
والوسواس مخالف للعقل والحكمة إلا أن كثرة تكرار الوسوسة على النفس تؤثر سلباً عليها، كما أن الإيحاء الإلهي الملائكي كثرة تكراره في النفس يؤثر إيجاباً عليها.
وهذا سرُّ الأمر بذكر اللَّه تعالى ذكراً كثيراً لأن النفس إذا لم تملئ بذكر اللَّه، فسيدخل الوسواس الشيطاني الشهواني إلى الفراغ النفسي.
ولقد حثّ الإسلام العظيم على ذكر اللَّه، فقال القرآن الكريم:﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾(الأحزاب:41).﴿اذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾(آل عمران:41).
وحذّر من الإعراض عن ذكره: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾(الزخرف:36).
وقال الصادق عليه السلام: "ما ابتلي المؤمن بشيء أشد عليه من خصال ثلاث يحرمها، قيل: وما هن؟ قال: المواساة في ذات اللَّه، والانصاف من نفسه، وذكر اللَّه كثيراً، أما وإني لا أقول لكم: سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر، ولكن ذكر اللَّه عندما أحل له، وذكر اللَّه عندما حرم عليه".
واعتبر الإمام الباقر عليه السلام ذكر اللَّه صلاة، فقال:"لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر اللَّه قائماً كان أو جالساً أو مضطجعاً، إن اللَّه يقول: الذين يذكرون اللَّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض...".
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يقول تعالى: إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي نقلت شهوته في مسألتي ومناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك فأراد أن يسهو حلت بينه وبين أن يسهو، أولئك أوليائي حقاً، أولئك الأبطال حقاً، أولئك الذين إذا أردت أن أهلك الأرض بعقوبة زويتها عنهم من أجل أولئك الأبطال".
وقد تحدّث الإمام الخميني عن تأثير الإيحاء المكرّر في النفس الإنسانية ولكن بمفهوم التلقين فقال:"إن الكتب التي جاءت لبناء الإنسان كالقرآن الكريم، والكتب التي كتبت في الأخلاق وتستهدف بناء الإنسان وبناء الاجتماع تكرّر المواضيع حسب أهميتها. ويكثر التكرار في القرآن الكريم، ويتسائل البعض لماذا هذا التكرار؟ في حين أنه لازم أن التلقين هو من الأشياء المفيدة لبناء الإنسان. لو أراد الإنسان أن يبني نفسه لوجب عليه أن يلقّن نفسه تلك الأمور المرتبطة ببناء نفسه ويكرّرها.
ويزداد تأثير تلك الأمور التي ينبغي أن تؤثّر في نفس الإنسان من خلال التلقين والتكرار. فسبب تكرار الأدعية وتكرار الصلاة في كل يوم عدّة مرات ودائماً هو لكي يقول الإنسان ويسمع، ويقرأ بنفسه ويستمع تلك الآيات التي تبنيه مثل سورة الحمد المباركة... فالتلقين هو من الأمور الضرورية.
وسبب أنني ألقِّن الأصدقاء في بعض المسائل مطلباً باستمرار هو أهميّة المطلب... ولذا ينبغي تكرار المسائل المهمّة، وأن يقوم الخطباء بالتكرار، ويلقن المستمعون أنفسهم باستمرار حتى تؤثر في النفوس إنشاء اللَّه"4.
ويقول أيضاً قدس سره:"وكان شيخنا الجليل (هو آية اللَّه محمد علي الملك آبادي) يقول: إن المثابرة على تلاوة آخر آيات سورة الحشر المباركة، من الآية الشريفة:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(الحشر:18).
إلى آخر السورة المباركة، مع تدبّر معانيها، في تعقيبات الصلوات، وخصوصاً في أواخر الليل حيث يكون القلب فارغ البال، مؤثِّرة جدّاً في إصلاح النفس وفي الوقاية من شرِّ النفس والشيطان"5.
اليهود كان من بعض معالجاتهم للمريض أنهم يهمسون في أذن المصاب ببعض آيات من سفر الخروج التي تقول: "إذا أصغيت لكلام الرّب إلهك، وعملت ما هو حق في نظره، واستمعت إلى وصاياه، وحافظت على جميع فرائضه فلن أرسل عليك أي مرض من الأمراض التي أرسلتها على المصريين فإني أنا الرب الذي يبرئك".
إن هذا الهمس والإيحاء وتأثيره يعرف بعلم النفس الحديث "بالإيحاء" الذي يؤثر في النفس الإنسانية تأثيراً لا شك في فاعليته ونجاحه كما تدلّ تجارب هؤلاء العلماء6.
3- تنوّع الوسواس في هذا العصر
الوسواس الشيطاني كانت وسائله في الماضي أقل خطراً ودخولاً إلى المجتمع المؤمن، أما في هذا الزمن فلقد كثرت الإغراءات وقلّت الكوابح، سبل الشيطان مفتوحة، وأبواق الضلال مرتفعة أصواتها، في هذا الزمن أصبح المؤمن فيه قابضاً على إيمانه كأنه قابض على الجمر.
فالوسواس في هذا الزمن يأتي بألف ملبس وملبس، فلا بد من اللجوء إلى رب الناس وملك الناس وإله الناس، والاستعاذة به منه في كل أشكاله وصوره، أصدقاء السوء، الجلساء المنحرفون، الولاة الجبابرة الطواغيت، الكتاب الخطباء الشعراء الفاسدون، المدارس الإلحادية والالتقاطية المخادعة، ووسائل الإعلام الفاسدة، والانترنت، إلى غير ذلك الذي يندرج تحت المفهوم الواسع للوسواس الخنّاس.
﴿... إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾(النساء:76).
*في كنف الوحي، إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية، طـ1 ،ايلول2004م ، ص109-116.
1- وقيل في المدينة.
2- نور الثقلين، ج5، ص7645، ومجمع البيان، ج10، ص567 و569.
3- المصدر السابق.
4- الإمام الخميني كتيب التربية والمجتمع مركز الإمام الخميني، ص67.
5- ن.م، ص39.