سورة التكاثر
في كنف الوحي
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ, حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ, كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ, ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ, كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ, لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ, ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ, ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.
عدد الزوار: 270
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)﴾.
1- شرح المفردات
1- ألهاكم: الإلهاء الصرف إلى اللهو، واللهو الانصراف إلى ما يدعو إليه الهوى.
2- التكاثر: التفاخر والمباهاة.
3- اليقين: العلم الخالي من الشك.
4- عين اليقين: محض اليقين.
2- هوية السورة
• هذه السورة مكية وآياتها ثمانية.
محتوى السورة وفضيلتها
يعتقد كثير من المفكرين أن هذه السورة نزلت في مكة وما فيها من ذكر للتفاخر والتكاثر، إنما يرتبط بقبائل قريش التي كانت تتباهى على بعضها بأمور وهمية.
وبعضهم كالمرحوم الطبرسي في مجمع البيان يرى أنها مدنية وما فيها من ذكر للتفاخر قد ورد بشأن اليهود، أو طائفتين من الأنصار. لكن مكيتها أصح لشبهها الكبير بالسور المكية، هذه السورة تتناول في مجموعها تفاخر الأفراد على بعضهم، استناداً إلى مسائل موهومة وتذم ذلك وتلومهم عليه ثم تحذرهم من حساب المعاد وعذاب جهنم ومما سيسألون يوم ذاك عن النعم التي منَّ اللَّه بها عليهم، فأما وجه تسميتها فنسبة الى الآية الأولى فيها.
وفي فضيلة تلاوتها ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال:"من قرأها لم يحاسبه اللَّه بالنعيم الذي أنعم عليه في دار الدنيا وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية"1.
في كنف السورة
السورة المباركة فيها مواعظ جليلة تستأهل منّا التوقف عندها والتأمل فيها
1- الإنسان وغفلته عما بعد الدُّنيا (الإنسان اللاهي والمتكاثر)
لقد ورد الكثير من الآيات في القرآن الكريم تشير إلى أن كثيراً من الناس يعيشون الغفلة عن الآخرة ويستغرقون في الدنيا وغرورها، بحيث يذوبون فيها، فلا ينظرون إلا إليها، فتعمهم عن الحقيقة التي تفيد أن الدنيا ليست نهاية المطاف، إنما هي قنطرة يعبرها الإنسان إلى عالم آخر.
ومن الآيات المعبِّرة التي تشير إلى هذه الحقيقة:﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ...﴾(الحديد:20).
هذه الآية الكريمة تؤكِّد حقيقة غفلة الإنسان عبر مراحل عمره الخمسة.
حيث في البداية مرحلة الطفولة، والحياة في هذه المرحلة عادة مقترنة بحالة من الغفلة والجهل واللعب.
ثم مرحلة المراهقة حيث يأخذ اللهو مكان اللعب، وفي هذه المرحلة يكون الإنسان لاهثاً وراء الوسائل والأمور التي تلهيه وتبعده عن الأعمال الجدية.
والمرحلة الثالثة هي مرحلة الشباب والحيوية والحب والعشق والزينة.
وإذا ما تجاوز الإنسان هذه المرحلة فإنه يصل إلى المرحلة الرابعة حيث تنبعث في نفسه إحساسات علو المقام والتفاخر.
وأخيراً يصل إلى المرحلة الخامسة حيث يفكر فيها بزيادة المال والأولاد وما إلى ذلك.
فنرى أن الإنسان غالباً إلا من رحم اللَّه، يعيش الغفلة في مراحل عمره كلها، ولا يترك للَّه تعالى، ولمعرفة حقائق الوجود، وللتفكير بالمصير النهائي للوجود، أي مجالٍ وأي فسحة.
والآية التي نحن بصدد تفسيرها تعيش في هذا الجو: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر).
وهي تشير أكثر ما تشير إلى المرحلة الخامسة من عمر الإنسان حيث يلهيه جمع الأموال والأولاد والتفاخر بالأنساب والأقوام. ولقد عُرف عن العرب أنهم كانوا يتفاخرون بالأموال والأنساب، ويؤسّسون حياتهم على أسس قبلية، وهذه الآية كأمثالها تريد أن تخرج من النفوس هذه العصبية القبلية، والتفاخر بها وبالحطام.
وهنا لفتة مهمّة من الآية الكريمة، تشير إلى أن الإنسان يستيقظ من غفلته إما حين موته:﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾(ق:22-19).
وإما حين زيارته للمقابر حيث يتذكّر أنه سيموت يوماً ما، فيستيقظ من غفلته شيئاً ما، كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم:"اذكروا هادم اللذات" أي الموت.
وقد احتمل المفسرون معنيين
1- إنكم ذهبتم إلى المقابر لتستكثروا أنفس قبيلتكم.
2- إنكم انشغلتم بالتكاثر والتفاخر حتى لحظة موتكم وورودكم إلى المقابر.
وللإمام علي عليه السلام كلام بعد أن تلا: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر).
قال: "ياله أمر ما أبعده، وزوراً ما أغفله، وخطراً ما أفظعه، لقد استخلوا منهم أي مدّكر وتناوشوهم من مكان بعيد، أفبمصارع آبائهم يفخرون؟ أو بعديد الهلكى يتكاثرون؟ ترتجعون منهم أجساداً خوت، وحركات سكنت، ولأن يكونوا عبراً أحق من أن يكونوا مفتخر"2.
فالموت خير واعظ لمن يتعظ، ومن هنا ورد استحباب زيارة القبور، عسى أن يقوم الإنسان من سكر الغفلة، غفلة الدنيا والاستكثار بالأموال والأولاد، والتفاخر بالأحساب والأنساب.
2- إشارة إلى عذاب القبر(كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ).
ورد العديد من الآيات القرآنية الكريمة التي تشير إلى أن الإنسان لا يصبح عدماً بعد موته، بل له حياة أخرى بعد الموت، إنها حياة البرزخ، ومن هذه الآيات:
﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(المؤمنون:100-99).
وذهب بعض المفسرين أن: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ).
الأولى إشارة إلى عذاب القبر والبرزخ، والثانية إلى عذاب القيامة.
في التفسير الكبير للفخر الرازي عن زر بن حبيش قال: كنا في شك من عذاب القبر حتى سألنا علياً فأخبرنا أن هذه الآية دليل على عذاب القبر.
3- مراتب اليقين
من الواضح أن المؤمنين ليسوا على درجة واحدة من الإيمان بل البعض منهم لا يطلق عليهم إلا الإسلام وما آمنت قلوبهم:﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ...﴾(الحجرات:14).
ولذلك ورد العديد من الروايات التي تشير إلى هذه الحقيقة، فقد جعل الإمام الباقرعليه السلام الإيمان أعلى من الإسلام درجة، والتقوى أعلى من الإيمان درجة، واليقين أعلى من التقوى درجة، ثم يقول:"ولم يقسم بين الناس شيء أقل من اليقين".
ورغم ما يستفاد من الروايات أن اليقين هو أعلى مراحل الإيمان، فإن له مراتب، وهي ثلاث:
1- علم اليقين: وهو الذي يحصل للإنسان عند مشاهدته الدلائل المختلفة، كأن يشاهد دخاناً فيعلم علم اليقين أن هناك ناراً.
2- عين اليقين: وهو يحصل حين يصل الإنسان إلى درجة المشاهدة كأن يرى بعينه مثلاً النار.
3- حق اليقين: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾(الواقعة:95): وهو كأن يدخل الإنسان النار بنفسه ويحس بحرقتها، وهذه أعلى مراحل اليقين.
4- السؤال عن النعيم: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم﴾(التكاثر:8): قيل إن النعيم المسؤول عنه وهو نعمة السلامة، وفراغ البال، وقيل: إنه الصحة والسلامة والأمن.
وقيل: الآية تشمل كل هذه النعم.
وروي أن أبا حنيفة سأل الإمام الصادق عليه السلام عن تفسير هذه الآية فقال عليه السلام: ما النعيم عندك يا نعمان؟
قال: القوت من الطعام والماء البارد.
فقال عليه السلام:"لئن أوقفك اللَّه يوم القيامة بين يديه حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها وشربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه قال فما النعيم جعلت فداك قال نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم اللَّه بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين وبنا ألّف اللَّه بين قلوبهم وجعلهم إخواناً بعد أن كانوا أعداءاً وبنا هداهم اللَّه للإسلام وهي النعمة التي لا تنقطع واللَّه سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم اللَّه به عليهم وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعترته"3.
من كل هذه الروايات التي يبدو أنها مختلفة في ظاهرها نفهم أن النعيم له معنى واسع جداً يشمل كل المواهب الإلهية المعنوية مثل: الدين والإيمان والإسلام والقرآن والولاية لأهل البيت "عليهم السلام"، وأنواع النعم المادية الفردية منها والاجتماعية:
﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾(الصافات:24).
*في كنف الوحي، إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية، طـ1 ،ايلول2004م ، ص49-55.
1- مجمع البيان، ج10، ص532.
2- نهج البلاغة، الخطبة 221.
3- مجمع البيان، ج10، ص535.