فائدة مهمّة
مقدمات عامة
أنه تعالى أعلم يوسف عليه السلام لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربما تعلقت به فكان يتمزق ثوبه من قدام وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد أن ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف عليه السلام هو الجاني ولو كان ثوبه متمزقا من خلفه...
عدد الزوار: 188
أنه تعالى أعلم يوسف عليه السلام لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربما تعلقت به فكان يتمزق ثوبه من قدام وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد أن ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف عليه السلام هو الجاني ولو كان ثوبه متمزقا من خلفه لكانت المرأة هي الخائنة فالله تعالى أعلمه هذا العلم فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى هاربا عنها حتى صارت شهادة الشاهد حجة على براءته عن المعصية.
الوجه الثاني في الجواب أن نفسر الهم بالشهوة وهذا مستعمل في اللغة فمعنى الآية ولقد اشتهته و﴿اشتهاها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ﴾ لدخل ذلك العمل في الوجود.
الوجه الثالث أن نفسر الهم بحديث النفس وذلك لأن المرأة الفائقة في الحسن والجمال إذا تزينت وتهيأت للرجل الشاب القوي فلا بد وأن يقع هناك بين الشهوة والحكمة وبين النفس والعقل مجاذبات ومنازعات فتارة تقوى داعية الطبيعة والشهوة وتارة تقوى داعية العقل والحكمة فالهم عبارة عن جواذب الطبيعة ورؤية البرهان عبارة عن جواذب العبودية ومثاله الرجل الصالح القائم الصائم في الصيف إذا رأى الجلاب المبرد بالثلج فإن طبيعته تحمله على شربه إلا أن دينه يمنعه منه هذا لا يدل على حصول الذنب بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبودية أكمل فقد ظهر بحمد الله صحة القول الذي ذهبنا إليه ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرد التصلف وتعديد أسماء المفسرين واعلم أن بعض الحشوية روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ما كذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات فقلت الأولى أن لا تقبل مثل هذه الأخبار فقال على طريق الاستنكار فإن لم تقبله لزمنا تكذيب الرواة فقلت يا مسكين إن قبلنا لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم عليه السلام وإن رددنا لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ولا شك أن صون إبراهيم عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب إذا عرفت هذا الأصل فنقول للواحدي ومن الذي يضمن أن الذي نقلوا هذا القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين أم كاذبين.
المسألة الثالثة في أن المراد بذلك البرهان ما هو أما المحققون المثبتون للعصمة فقد فسروا رؤية البرهان بوجوه الأول أنه حجة الله تعالى في تحريم الزنى والعلم بما على الزاني من العقاب..
الثاني أن الله تعالى طهر نفوس الأنبياء عن الأخلاق الذميمة بل نقول إن الله تعالى طهر نفوس المتصلين بهم عنها كما قال ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا﴾ً والمراد برؤية البرهان هو حصول تلك الأخلاق وتذكير الأحوال المردعة لهم عن الإقدام على المنكرات.
الثالث أنه رأى مكتوبا في سقف البيت ﴿وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلًا﴾.
الرابع أنه النبوة المانعة عن ارتكاب الفواحش والدليل عليه أن الأنبياء بعثوا لمنع الخلق عن القبائح والفضائح فلو أنهم منعوا الناس عنها ثم أقدموا على أقبح أنواعه وأفحش أقسامها لدخلوا تحت قوله تعالى ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾.
و أيضا أن الله عير اليهود بقوله ﴿أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ وما يكون عيبا في حق اليهود كيف ينسب إلى الرسول المؤيد بالمعجزات.
و أما الذين نسبوا المعصية إلى يوسف فقد ذكروا في تفسير ذلك البرهان أمورا الأول قالوا إن المرأة قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب وقالت أستحي من إلهي هذا أن يراني على المعصية فقال يوسف تستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت فو الله لا أفعل أبدا.
الثاني نقلوا عن ابن عباس أنه مثل له يعقوب عليه السلام فرآه عاضا على أصابعه ويقول له لتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء عليهم السلام فاستحى منه وهو قول عكرمة ومجاهد وكثير من المفسرين.
قال سعيد بن جبير تمثل له يعقوب عليه السلام فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله.
الثالث قالوا إنه سمع في الهواء قائلا يقول يا ابن يعقوب لا تكن كالطير له ريش فإذا زنى ذهب ريشه.
الرابع نقلوا عن ابن عباس أن يوسف عليه السلام لم يزدجر برؤية يعقوب حتى ركضه جبرئيل عليه السلام فلم يبق فيه شيء من الشهوة إلا خرج.
و لما نقل الواحدي هذه الروايات تصلف وقال هذا الذي ذكرناه قول أئمة المفسرين الذين أخذوا التأويل عمن شاهد التنزيل فيقال له إنك لا تأتينا البتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها فأين الحجة والدليل وأيضا فإن ترادف الدلائل على الشيء الواحد جائز وإنه عليه السلام كان ممتنعا عن الزنى بحسب الدلائل الأصلية فلما انضاف إليها هذه الزواجر قوي الانزجار وكمل الاحتراز والعجيب أنهم نقلوا أن جروا دخل تحت حجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبقي هناك بغير علمه قالوا فامتنع جبرئيل عليه السلام من الدخول عليه أربعين يوم وهاهنا زعموا أن يوسف عليه السلام حال اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبرئيل عليه السلام.
و العجب أيضا أنهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبرئيل عليه السلام ولو أن أفسق الخلق كان مشغولا بفاحشة فإذا دخل عليه رجل صالح على زي الصالحين استحى منه وفر وترك ذلك العمل وهاهنا رأى يعقوب عض على أنامله ولم يلتفت.
ثم إن جبرئيل عليه السلام على جلالة قدره دخل عليه فلم يمتنع عن ذلك القبيح بسبب حضوره حتى احتاج جبرئيل إلى ركضه على ظهره فنسأل الله تعالى أن يصوننا عن العمى في الدين والخذلان في طلب اليقين.
فهذا هو الكلام الملخص في هذه المسألة انتهى كلامه وتسلطه على الواحدي فيما قمع به أساس كلامه هو مذهب أصحابنا قدس الله أرواحهم.
و الوجهان اللذان اختارهما أومى الرضا عليه السلام إلى أحدهما في حديث أبي الصلت الهروي.
حيث قال: وأما قوله عز وجل في يوسف ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها فإنها همت بالمعصية وهم يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما داخله فصرف الله عنه قتله والفاحشة وهو قوله ﴿كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والْفَحْشاءَ﴾ يعني الزنى.
و أشار إليهما معا في خبر ابن الجهم.
حيث قال: لقد همت به ولو لا أن رأى برهان ربه لهم بها كما همت به لكنه كان معصوم والمعصوم لا يهم بذنب ولا يأتيه ولقد حدثني أبي عن أبيه الصادق عليه السلام أنه قال همت بأن تفعل وهم بما لا يفعل.
أقول: لا يتوهم خطأ في قصده القتل إذ الدفع عن الغرض والاحتراز عن المعصية لازم وإن انجر إلى القتل ولكنه تعالى نهاه عن ذلك لمصالح كثيرة وقد ظهر حقيقة الحال فما ورد في روايتنا مما يوافق العامة فأحمله على التقية.
ثم قال الزجاج وأما قوله ﴿وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّدا﴾ً ففيه إشكال وذلك لأن يعقوب عليه السلام كان أبا يوسف وحق الأبوة حق عظيم وأيضا إنه كان شيخ والشاب يجب عليه تعظيم الشيخ.
و الثالث أنه كان من أكابر الأنبياء إلا أن يعقوب عليه السلام كان أعلى حالا منه.
الرابع أن جده واجتهاده في تحصيل الطاعات أكثر من جد يوسف.
و لما اجتمعت هذه الجهات الكثيرة فهذا يوجب أن يبالغ يوسف في خدمة يعقوب فكيف استجاز يوسف أن يسجد له يعقوب هذا على تقرير السؤال والجواب عنه من وجوه الأول هو قول ابن عباس إن المراد بهذه الآية أنهم ﴿خَرُّوا لَهُ سُجَّداً﴾ أي لأجل وجدانه سجدوا لله وحاصله أنه كان ذلك سجود الشكر فالمسجود له هو الله إلا أن ذلك السجود إنما كان لأجله.
و الدليل على صحة هذا التأويل أن قول ﴿وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّداً﴾ مشعر بأنهم صعدوا ذلك السرير ثم سجدو ولو أنهم سجدوا ليوسف عليه السلام لسجدوا له قبل الصعود إلى السرير لأن ذلك أدخل في التواضع وحينئذ فيكون المراد من قوله ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشَّمْسَ والْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ﴾ أي رأيتهم ساجدين لأجلي أي أنها سجدت لله لطلب مصلحتي والسعي في إعلاء منصبي وعندي أن هذا التأويل متعين لأنه يبعد من عقل يوسف ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولاة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوة.
الوجه الثاني في الجواب أن يقال إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكرا لنعمة وجدانه كما يقال سجدت للكعبة قال حسان.
ما كنت أعرف أن الأمر منصرف عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أ ليس أول من صلى لقبلتكم وأعرف الناس بالآثار والسنن
فقوله ﴿وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّدا﴾ً أي جعلوه كالقبلة ثم سجدوا لله شكرا لنعمة وجدانه.
الوجه الثالث في الجواب أن التواضع قد يسمى سجودا كقوله.
ترى الأكم فيها سجدا للحوافر.
إلا أن هذا مشكل لأنه تعالى قال ﴿وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّدا﴾ً والخرور إلى السجدة مشعرة بالإتيان بالسجدة على أكمل الوجوه وأجيب عنه بأن الخرور يعني به المرور فقط.
قال الله تعالى ﴿لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّ وعُمْياناً﴾ يعني لم يمروا.
الوجه الرابع في الجواب أن نقول الضمير في قوله وخَرُّوا لَهُ غير عائد إلى الأبوين لا محالة وإلا لقال وخروا له ساجدين بل الضمير عائد إلى إخوته وإلى سائر من كان يدخل عليه لأجل التهنئة فالتقدير ورفع أبويه على العرش مبالغة في تعظيمهما.
و أما الإخوة وسائر الداخلين فخروا له ساجدين وإن قالوا فهذا لا يلائم قوله ﴿يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ﴾.
قلنا إن تعبير الرؤيا لا يجب أن يكون مطابقا للرؤيا حسب الصورة والصفة من كل الوجوه فسجود الكواكب والشمس والقمر تعبيره تعظيم الأكابر من الناس له.
و لا شك أن ذهاب يعقوب مع أولاده من كنعان إلى مصر لأجل نهاية التعظيم له فيكفي هذا القدر في صحة الرؤيا فأما أن يكون التعبير في الصفة والصورة فلم يقل بوجوبه أحد من العقلاء.
الوجه الخامس في الجواب لعل الفعل الدال على التحية والإكرام في ذلك الوقت هو السجود فكان مقصودهم من السجود تعظيمه وهو في غاية البعد لأن المبالغة في التعظيم كان أليق بيوسف منها بيعقوب فلو كان الأمر كما قلتم لكان من الواجب أن يسجد يوسف ليعقوب الوجه السادس فيه أن يقال لعل إخوته حملتهم الأنفة والاستعلاء على أن يسجدوا له على سبيل التواضع وعلم يعقوب أنهم لو لم يفعلوا ذلك لصار ذلك سببا لثوران الفتن وظهور الأحقاد القديمة مع كونها فهو عليه السلام مع جلالة قدره وعظيم حقه بسبب الأبوة والتقدم في النبوة فعل ذلك السجود حتى تصير مشاهدتهم لذلك سببا لزوال تلك الأنفة والنفرة عن قلوبهم.
أ لا ترى أن السلطان الكبير إذا نصب محتسبا فإذا أراد تربيته مكنه من إقامة الحسبة عليه ليصير ذلك سببا في أن لا يبقى في قلب أحد منازعة ذلك المحتسب في إقامة الحسبة فكذلك هاهنا.
الوجه السابع لعل الله تعالى أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية لا يعرفها إلا هو كما أمر الملائكة بسجودهم لآدم لحكمة لا يعرفها إلا هو ويوسف عليه السلام ما كان راضيا بذلك في قلبه إلا أنه لما علم أن الله أمره بذلك سكت انتهى.
أقول أفعال الأنبياء عليهم السلام غير محتاجة إلى هذه التكلفات لأن النبي لا ينطق عن الهوى.
و هذا السجود الذي رآه يوسف عليه السلام في المنام ومنام الأنبياء نوع من الوحي. فما أوحى إلى يوسف في المنام أوحاه إلى يعقوب في اليقظة كما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده صار سببا لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظة.
و سواء كان ذلك السجود ليوسف عليه السلام ولله تعالى شكرا على الوجدان وغير ذلك لا إشكال فيه لأن السجود ليوسف إذا كان بأمر الله تعالى فهو سجود لله لأنه وقع امتثالا لأمره كالسجود إلى القبلة دون باقي الجهات.
و الله أعلم ورسوله وأهل بيته المعصومون سلام الله عليهم أجمعين1.
1 _النور المبين / المحدّث العلامة الجليل نعمة الله الجزائري.
2012-11-29