صلح الإمام الحسن عليه السلام
الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
وقبل أن يقبل اقتراح معاوية للصلح، قام الإمام عليه السلام بإتمام الحجّة, من خلال خطاب يتضمّن استطلاعاً لآراء أصحابه, واستخباراً لنيّاتهم, فقد قال عليه السلام، بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه: "أما والله ما ثنّانا عن قتال أهل الشام ذلّة ولا قلّة
عدد الزوار: 484موقف الإمام عليه السلام بعد الصلح |
▪ |
أسباب الصلح وأهدافه |
▪ |
|
ما بعد الصلح |
▪ |
وكتب إليه معاوية في الهدنة والصلح1، وأنفذ إليه بكتب أصحابه، التي ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه إليه، واشترط له على نفسه في إجابته إلى صلحه شروطاً كثيرة, وعقد له عقوداً كان في الوفاء بها مصالح شاملة، فلم يثق به الحسن عليه السلام، وعلم احتياله بذلك واغتياله.
وقبل أن يقبل اقتراح معاوية للصلح، قام الإمام عليه السلام بإتمام الحجّة, من خلال خطاب يتضمّن استطلاعاً لآراء أصحابه, واستخباراً لنيّاتهم, فقد قال عليه السلام، بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه: "أما والله ما ثنّانا عن قتال أهل الشام ذلّة ولا قلّة, ولكن كنّا نقاتلهم بالسلامة والصبر, فَشِيب السلام بالعداوة, والصبر بالجزع, وكنتم تتوجّهون معنا، ودينكم أمام دنياكم, وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم, وكنّا لكم وكنتم لنا, وقد صرتم اليوم علينا, ثمّ أصبحتم تصدّون قتيلين: قتيلاً بصفين تبكون عليهم, وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأرهم, فأمّا الباكي فمخذول, وأمّا الطالب فثائر".
وبعد ذلك، عرض عليهم اقتراح معاوية للصلح, فقال عليه السلام: "وإنّ معاوية قد دعا إلى أمرٍ ليس فيه عزٌّ ولا نَصَفَةٌ, فإن أردتم الحياة قبلناه منه, وأغضضنا على القذى, وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله, وحاكمناه إلى الله".
فنادى القوم بأجمعهم: بل البقيّة والحياة2.
"فلم يجد بُدّاً، من إجابة معاوية إلى ما التمس، من ترك الحرب وإنفاذ الهدنة، لما كان عليه أصحابه ممّا وصفناه من ضعف البصائر في حقّه، والفساد عليه، والخلف منهم له، وما انطوى كثير منهم عليه في استحلال دمه، وتسليمه إلى خصمه، وما كان في خذلان ابن عمّه له، ومصيره إلى عدوّه، وميل الجمهور منهم إلى العاجلة، وزهدهم في الآجلة.
فتوثّق عليه السلام لنفسه من معاوية لتأكيد الحجّة عليه، والإعذار فيما بينه وبينه عند الله عزَّ وجلَّ، وعند كافّة المسلمين"3، واشترط عليه شروطاً لهذا الصلح شكّلت صيانة للإسلام وحفظاً لنهج رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وهي على الشكل التالي:تسليم الأمر إلى معاوية، على أن يعمل بكتاب الله وبسنّة رسوله صلى الله عليه واله وسلم، وبسيرة الخلفاء الصالحين.
أن يكون الأمر للحسن عليه السلام من بعده, فإن حدث به حدث، فلأخيه الحسين عليه السلام , وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد.
أن يترك سبّ أمير المؤمنين عليه السلام، والقنوت عليه بالصلاة, وأن لا يذكر عليّاً عليه السلام إلّا بخير.
على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم, وأن يُؤمن الأسود والأحمر, وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم, وأن لا يتبع أحداً بما مضى, ولا يأخذ أهل العراق بإحنة. وعلى أمان أصحاب عليّ عليه السلام، حيث كانوا, وأن لا ينال أحداً من شيعة عليّ عليه السلام بمكروه, وأنّ أصحاب عليّ عليه السلام وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم, وأن لا يتعقّب عليهم شيئاً، ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء, ويوصل إلى كلّ ذي حقٍّ حقّه, وعلى ما أصاب أصحاب عليّ عليه السلام، حيث كانوا. وعلى أن لا يبغي للحسن بن عليّ عليه السلام، ولا لأخيه الحسين عليه السلام، ولا لأحد من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم غائلة, سرّاً ولا جهراً, ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق4.
وبالجملة: دعاه إلى ترك سبّ أمير المؤمنين عليه السلام، والعدول عن القنوت عليه في الصلوات، وأن يؤمن شيعته، ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كلّ ذي حقّ منهم حقّه.
فأجابه معاوية إلى ذلك كلّه، وعاهده عليه، وحلف له بالوفاء به.
أسباب الصلح وأهدافه
وتتلخّص أهمّ أسباب الصلح وأهدافه فيما يلي
1- ضعف أنصار الإمام وتخاذلهم، وعدم انصياعهم لأوامره، بعد تأثير دسائس معاوية فيهم, وبهذا سوف لا تجدي المقاومة، بل سوف تتحتّم الانتكاسة للخطّ الرساليّ أمام مكر معاوية, وعلى الإمام أن يحافظ على بقاء هذا الخطّ، وتناميه في مجتمع يسوده مكر معاوية وخدائعه.
ويترتّب على انتكاسة جيش الإمام الحسن عليه السلام، استشهاده مع الخلَّص من أهل بيته وأصحابه، أو أسرهم وبقاؤهم أحياءً في سجن معاوية، أو إطلاق سراحهم مع بقائهم في موقع الضعف، بعد الامتنان عليهم بالحرّية, وكلّ هذه النتائج غير محمودة. فإنّ الاستشهاد إذا لم يترتّب عليه أثر مشروع عاجل أو آجل فلا مبرّر له, ولا سيّما إذا اقترن بتصفية الخطّ الإماميّ، وإبادته الشاملة.
2- كشف واقع المخطط الأمويّ الجاهليّ، وتحصين الأمّة الإسلاميّة ضدّه، بعد أن مهّدت الخلافة لسيطرة صبيان بني أميّة على زمام قيادة الأمّة المسلمة، والتلاعب بمصير الكيان الإسلاميّ، ومصادرة الثورة النبويّة المباركة.
3- حقن دماء المسلمين، حيث لا تجدي الحرب مع الفئة الباغية.
4- صيانة الثلّة المؤمنة بحقّانيّة أهل البيت عليهم السلام، وحفظهم من التصفية والإبادة الأمويّة الشاملة، بعد إحراز بقاء الحقد الأمويّ لبني هاشم ومن يحذو حذوهم, كما أثبتته حوادث التاريخ الإسلاميّ الدامي.
5- ضرورة تهيئة الظروف الملائمة، لمقارعة الكفر والنفاق المستتر، من موقع القوّة.
لقد خفيت الأسباب الحقيقيّة، التي كانت تكمن وراء الموقف الإلهيّ، الذي اتخذه الإمام المعصوم على كثير من الناس المعاصرين للحدث، وعلى بعض اللّاحقين من أصحاب الرؤى السطحيّة، أو المُضلَّلين الذين وقعوا تحت تأثير التزييف للحقائق, لكنّ الأحداث التي أعقبت الصلح، والسياسات العدوانيّة التي انتهجها معاوية وبقيّة الحكام الأمويّين، والتي ألحقت أضراراً جسيمة بالإسلام والمسلمين، كشفت عن بعض أسرار موقف الإمام الحسن عليه السلام5.
وهكذا صالح الحسن عليه السلام، كما صالح جدّه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في الحديبيّة, وكان في ذلك خيرٌ كبيرٌ لهذه الأمّة, فعن أبي جعفر عليه السلام، قال: "والله للّذي صنعه الحسن بن عليّ عليه السلام، كان خيراً لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس.."6.
موقف الإمام عليه السلام بعد الصلح
وقد احتجّ عليه السلام على من أنكر عليه مصالحة معاوية، ونسبه إلى التقصير في طلب حقّه, فعن سليم بن قيس، قال: قام الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام على المنبر، حين اجتمع مع معاوية، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: "أيّها الناس إنّ معاوية زعم: أنّي رأيته للخلافة أهلاً، ولم أرَ نفسي لها أهلاً، وكذب معاوية، أنا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان نبيّ الله، فأقسم بالله، لو أنّ الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني، لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها، ولما طمعتم فيها، يا معاوية، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: "ما ولّت أمّة أمرها رجلاً قطّ، وفيهم من هو أعلم منه، إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً، حتى يرجعوا إلى ملّة عبدة العجل".
وقد ترك بنو إسرائيل هارون، واعتكفوا على العجل، وهم يعلمون أنّ هارون خليفة موسى، وقد تركت الأمّة عليّاً عليه السلام، وقد سمعوا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، يقول لعليّ: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، غير النبوّة، فلا نبيّ بعدي" وقد هرب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من قومه، وهو يدعوهم إلى الله، حتى فرّ إلى الغار، ولو وجد عليهم أعواناً ما هرب منهم، ولو وجدت أنا أعواناً ما بايعتك، يا معاوية.
وقد جعل الله هارون في سعة حين استضعفوه، وكادوا يقتلونه، ولم يجد عليهم أعواناً، وقد جعل الله النبيّّ في سعة، حين فرّ من قومه، لمّا لم يجد أعواناً عليهم, كذلك أنا وأبي في سعة من الله، حين تركتنا الأمّة، وبايعت غيرنا، ولم نجد أعواناً، وإنّما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً.
أيّها الناس: إنّكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب، لم تجدوا رجلاً من ولد النبيّّ غيري وغير أخي".
وعن حنان بن سدير، عن أبيه سدير، عن أبيه، عن أبي سعيد عقيصيّ، قال: لمّا صالح الحسن بن عليّ بن أبي طالب، معاوية بن أبي سفيان، دخل عليه الناس، فلامه بعضهم على بيعته، فقال عليه السلام: "ويحكم، ما تدرون ما عملت، والله، للّذي عملت لشيعتي خير ممّا طلعت عليه الشمس أو غربت، ألا تعلمون أنّي إمامكم، ومفترض الطاعة عليكم، وأحد سيّدي شباب أهل الجنّة، بنصٍّ من رسول الله عليّ؟" قالوا: بلى. قال: "أما علمتم أنّ الخضر لمّا خرق السفينة، وأقام الجدار، وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران عليه السلام، إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان ذلك عند الله، تعالى ذكره، حكمة وصواباً؟ أما علمتم أنّه، ما منّا أحد إلّا يقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلّا القائم ؟ الذي يصلّي خلفه روح الله عيسى بن مريم عليه السلام، فإنّ الله عزّ وجلّ يخفي ولادته، ويغيّب شخصه، لئلّا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج، ذاك التاسع من ولد أخي الحسين، ابن سيّدة الإماء، يطيل الله عمره في غيبته، ثمّ يظهره بقدرته في صورة شابّ دون أربعين سنة، ذلك ليعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير"7.
ما بعد الصلح
ولمّا استتمّت الهُدنة على ذلك، سار معاوية حتى نزل بالنخيلة8، وكان ذلك يوم جمعة، فصلّى بالنّاس ضحى النهار، فخطبهم، وقال في خطبته: "إنّي والله، ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا، ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون, ألّا وإنّي كنت منَّيتُ الحسنَ، وأعطيتُه أشياء، وجميعها تحت قدميَّ، لا أفي بشيء منها له".
ولمّا استقرّ الصلح بين الحسن صلوات الله عليه وبين معاوية على ما ذكرناه، خرج الحسن عليه السلام إلى المدينة، فأقام بها كاظماً غيظه، لازماً منزله, منتظراً لأمر ربّه جلَّ اسمه، إلى أن تمّ لمعاوية عشر سنين من إمارته، وعزم على البيعة لابنه يزيد، فأراد التخلّص من الحسن عليه السلام، ليخلو هذا الأمر من بعده ليزيد, فدسّ إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس9 وكانت زوجة الحسن عليه السلام من حملها على سمّه، وضمن لها أن يزوّجها بابنه يزيد، وأرسل إليها مائة ألف درهم، فسقته جعدة السمّ...
فسوّغها معاوية المال، ولم يزوّجها منه, وأرسل إليها: إنّا لنحبّ حياة يزيد, ولولا ذلك لوفينا لك بتزويجه10, فإنّ امرأة لا تصلح للحسن بن عليّ، لا تصلح لبنيّ يزيد11.
فخلف عليها رجل من آل طلحة فأولدها, فكان إذا وقع بينهم وبين بطون قريش كلام عيّروهم, وقالوا: يا بني مُسِمّة الأزواج12.
ومضى عليه السلام لسبيله في صفر13، سنة خمسين من الهجرة، وله يومئذ ثمان وأربعون سنة، فكانت خلافته عشر سنين14....
* السبط المسموم (شهادة الالمام الحسن المجتبى). سلسلة مجالس العترة. نشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية. ط: نيسان 2010م / 1431هـ. ص: 49- 61.
1- كتب العديد من علمائنا "رضوان الله عليهم" تحت عنوان "صلح الحسن" وتعرّضوا له في مؤلّفاتهم, منهم: السيّد عبد الحسين شرف الدين, والشيخ راضي آل ياسين, والسيّد محمّد جواد فضل الله, وغيرهم.
2-المجمع العالميّ لأهل البيت, أعلام الهداية, الإمام الحسن المجتبى ج 4 ص 145.
3-المفيد: الإرشاد ج 2 ص 14.
4-المجمع العالميّ لأهل البيت, أعلام الهداية, الإمام الحسن المجتبى ج 4 ص 146.
5- المصدر السابق ج 4 ص 158.
6- الكلينيّ: الكافي ج 8 ص 330.
7- الطبرسيّ: الاحتجاج ج 2 ص 288.
8- النخيلة: موضع قرب الكوفة.
9- روى الكلينيّ في الكافي ج 8 ص 167: عن أبي عبد الله أنّه قال:"إنّ الأشعث بن قيس شرك في دم أمير المؤمنين, وابنته جعدة سمّت الحسن, ومحمّد ابنه شرك في دم الحسين"!.
10- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 6.
11-الطبرسيّ: الاحتجاج ج 2 ص 292.
12- الأصفهانيّ أبو الفرج: مقاتل الطالبييّن ص 80/ الخوارزميّ: مقتل الحسين ج 1 ص 198.
13-وقع الخلاف في تاريخ شهادته على أقوال, أشهرها أنّه في آخر صفر لليلتين بقيتا منه, وذهب بعضهم إلى أنّها في السابع منه, وقيل: إنّه لخمس خلون من ربيع الأوّل, وقيل: إنّه لخمس بقين منه.
14-أنظر حول جميع ما تقدّم: المفيد: الإرشاد ج 2 ص 915, الأصفهانيّ: مقاتل الطالبيّين ص 62 – 82.