يتم التحميل...

مناهج الجبر: الجبر الفلسفي

العدل

الجبر الأشعري يَرُدُّ الاختيار بعوامل غيبية وسماوية من القضاء والقدر وسبق العلم الأزلي والمشيئة الإِلهيةوغير ذلك.وأمَّا الجبر الفلسفي فهويعتمد على قواعد فلسفية مسلّمة عند الإِلهي والمادي ونذكر فيما يلي المهم من أدلته.الدليل الأول: وجود الشيء مقارن لوجوبه...

عدد الزوار: 257

الجبر الأشعري يَرُدُّ الاختيار بعوامل غيبية وسماوية من القضاء والقدر وسبق العلم الأزلي والمشيئة الإِلهية وغير ذلك.

وأمَّا الجبر الفلسفي فهويعتمد على قواعد فلسفية مسلّمة عند الإِلهي والمادي ونذكر فيما يلي المهم من أدلته:

الدليل الأول: وجود الشيء مقارن لوجوبه
قد ثبت في الفن الأعلى من الفلسفة أنَّ "الشيء ما لم يجب لم يوجد"، وهذه قاعدة مسلّمة عند الكل، وحاصل برهانها أنَّ الشيء الممكن في حدّ ذاته لا يقتضي الوجود ولا العدم، فنسبة الوجود والعدم إليه متساوية، ولا يتسم بهما إلاَّ بلحاظ أمر خارج عن ذاته، غير أن اتصافه بالوجود يتوقف على انضمام عامل إلى ماهية الممكن حتى يضفي عليها الوجود في حين أنَّه يكفي في اتصافه بالعدم لحاظ عدم العامل وعدم العلَّة.

وعلى هذا فلو وجد عامل خارجي يقتضي وجوده اقتضاءً إيجابياً، يتحقق. وإلاَّ يكون تطرق العدم إليه جائزاً وممكناً، ومعه لا يمكن أن يتحقق ويتلبس بالوجود.

وبعبارة ثانية: إذا كان هناك ما يقتضي وجوده، فإمَّا أن يقتضي وجوبه أيضاً أو، فعلى الأول فقد وجب وجوده، وتثبت القاعدة، وعلى الثاني يعود السؤال بأنه إذا كان تطرق العدم أمراً ممكناً جائزاً، فلماذا اتصف بالوجود دون العدم مع انفتاح طريق كل منهما، إذ المفروض أنَّ العلّة ما اقتضت وجوبه ولم تسد باب العدم على وجه القطع والبت، بل كان كل باب مفتوحاً على الشيء وإنْ ترجّح جانب الوجود، ولكنه لم يمتنع بعدُ الجانب الآخر، والأولوية العارضة لجانب الوجود غير كافية إذ المفروض أنَّ طريق العدم معها بعد مفتوح، ومع ذلك اتصف بالوجود ولم يتصف بالعدم. وعندئذ، ينطرح السؤال التالي:

لماذا تحقق هذا ولم يتحقق ذاك؟ ولأجل ذلك ذهب الحكماء إلى أنَّ وجود الشيء رهن سد باب العدم على وجه القطع والبت واتصافه بالوجود على وجه الوجوب حتى ينقطع السؤال بأنه لم اتصف بهذا دون ذاك.

هذا برهان القاعدة، ورتب عليها القول بالجبر، لأن فعل العبد لا يصدر منه إلاَّ بالوجوب، والوجوب ينافي الاختيار.

يلاحظ عليه: إنَّ القاعدة قاعدة متقنة لا غبار عليها غير أنَّ استنتاج الجبر من القاعدة أمر عجيب، لأنها لا تعطي أزيد من أنَّ المعلول إنما يتحقق بالإِيجاب والإِلزام، وأمَّا كون الفاعل، فاعلاً موجباً (بالفتح) ومجبوراً فلا يستفاد منها.

توضيح ذلك: إنَّ الفاعل لوكان فاعلاً طبيعياً غير شاعر ولا مختار، وشاعراً غير مختار، يصدر الفعل منه بالوجوب مع امتناع العدم ويكون الفعل واجباً والفاعل موجَباً (بالفتح). وأمَّا إذا كان الفاعل مدركاً ومختاراً، فصدور الفعل منه يتوقف على اتّصاف فعله بالوجوب، والعامل الذي يضفي هذا الوصف على المعلول هونفس الفاعل، فهوباختياره وحريته يوصل الفعل إلى حد يكون صدوره عنه على نحو الوجوب واللزوم. فعندئذ يكون الفاعل المدرك المختار فاعلا موجباً أي معطياً الوجوب لفعله ومَنْ هوكذلك لا يتصف هوولا فعله بالجبر. فالاستنتاج نبع من المغالطة بين الفاعل الموجَب والفاعل الموجِب، وهوأحد أقسام المغالطة1.

الدليل الثاني: الإِرادة ليست اختيارية
هذا الدليل الذي لجأ إليه الجبريون من الحكماء، هوالمزلقة الكبرى، والداهية العظمى في المقام ولقد زلّت في نقده وتحليله أقدام الكثير من الباحثين، ولا عتب علينا لو أسهبنا البحث فيه، فنقول:

قال المستدل: إنَّ كل فعل اختياري بالإرادة، ولكنها ليست أمراً اختيارياً وإِلاَّ لزم أن تكون مسبوقة بإرادة أُخرى، وينقل الكلام إليها، فإمَّا أن تقف السلسلة فيلزم الجبر في الإِرادة النهائية وإِمَّا أن لا تقف فيلزم التسلسل.

وبعبارة ثانية: إنَّ الفعل الاختياري ما كان مسبوقاً بالإِرادة، وأمَّا نفسها، فلا تكون كذلك، لأنا ننقل الكلام إلى الثانية منها فهل هي كذلك أو لا؟ وعلى الثاني يثبت كونها غير اختيارية لعدم سبق إرادة عليها، وعدم نشوئها من إرادة أُخرى. وعلى الأول ينقل الكلام إليها مثل الأولى فإما أن يتوقف في إرادة غير مسبوقة، ويتسلسل والثاني محال فيثبت الأول.

وقد نقل صدر المتألهين هذا الإِشكال عن المعلّم الثاني الفارابي حيث قال في نصوصه: "إن ظن ظان أنَّه يفعل ما يريد ويختار ما يشاء، استكشف عن اختياره هل هوحادث فيه بعدما لم يكن وغير حادث؟ فإن كان غير حادث فيه لزم أن يَصْحَبُهُ ذلك الاختيار منذ أوّل وجوده، ولزم أن يكون مطبوعاً على ذلك الاختيار لا ينفك عنه، وإن كان حادثاً ولكل حادث محدث فيكون اختياره عن سبب اقتضاه ومحدث أحدثه فإمَّا أن يكون هوأوغيره، فإن كان هونفسه، فإمَّا أن يكون إيجاده للاختيار بالاختيار، وهذا يتسلسل إلى غير النهاية، ويكون وجوداً لاختيار فيه لا بالاختيار فيكون مجبوراً على ذلك الاختيار من غيره، وينتهي إلى الأسباب الخارجة عنه التي ليست باختياره"2.

وأنت ترى أنَّ هذا البرهان لوصحّ لكان المادي والإِلهي متساويين بالنسبة إليه. وحاصل هذا البرهان أنَّ الإِرادة تعرض للنفس في ظل عوامل داخلية وخارجية فيكون اجتماع تلك العوامل موجباً لظهورها على لوح النفس. ولأجل ذلك تتصف الإِرادة بالجبر لكون وجودها معلولاً لتلك العوامل النفسانية وغيره. فالفعل الإِختياري ينتهي إلى الإِرادة وهي تنتهي إلى مقدماتها من التصور والتصديق والميل النفساني المنتهية إلى أشياء خارجة عن ذات المريد، نعم الإِلهي يرجع هذه المقدمات النفسانية والخارجية، بعد سلسلة الأسباب والمسببات إلى اللّه سبحانه، والمادي يرجعها إلى العوامل الموجودة في عالم المادية.

أقول: إنَّ هذا الإِشكال هومن أهم الإِشكالات في هذا الباب، وربما نرى أنّ بعض الماديين لجأوا إلى تنمية هذا الإشكال بشكل يناسب أبحاثهم، ويصرون على أنَّ الإِرادة في الإِنسان تحصل باجتماع معدات وشرائط ومقدمات وبواعث يكون الإِنسان مقهوراً في إرادته، وإن كان يتصور نفسه مختاراً، ويُرددون في أشداقهم كون الإنسان مسيراً بصورة المختار ونحن نأتي ببعض ما ذكر من الأجوبة، ثم نذكر المختار من الجواب عندنا.

الأجوبة المذكورة في المقام

الجواب الأول
: هوما أجاب به صدر المتألهين قال: "المختار ما يكون فعله بإرادته، لا ما يكون إرادته بإرادته. والقادر ما يكون بحيث إن أراد الفعل، صدر عنه الفعل، وإلاَّ فلا. لا ما يكون إن أراد الإرادة للفعل فعل، وإلاَّ لم يفعل"3.

يلاحظ عليه: إنَّ ما ذكره من التعريف إنما هوراجع إلى الأفعال الجوارحية فالمِلاك في كونها أفعالاً اختيارية وجبرية هوما ذكره وأمَّا الأفعال الجوانحية الصادرة عن النفس والضمير، فهي إمَّا أفعال جبرية، وإنَّ لكونها أفعالاً اختيارية مِلاكاً آخر يجب الإيعاز إليه.

وباختصار: إنَّ البحث ليس في التسمية حتى يقال: إنَّ التعريف المذكور للفعل الاختياري يوجب كون الإرادة والفعل من الأمور الاختيارية، بل البحث في واقع الإِرادة وحقيقتها، فإِذا كانت ظاهرة في الضمير الإِنساني في ظل عوامل نفسانية وأرضية وسماوية، فلا تكون أمراً اختيارياً. وبالنتيجة، لا يكون الفعل أيضاً فعلاً اختيارياً.

الجواب الثاني
: ما أفاده المحقق الخراساني في الكفاية في بحث التجرّي من أنَّ اختيارية الإرادة وإنْ لم تكن بالاختيار، إلاَّ أنَّ مبادئها يكون وجودها غالباً بالاختيار للتمكن من عدمه بالتأمل في ما يترتب على ما عزم عليه من اللوم والمذمة والتبعة والعقوبة4.

يلاحظ عليه: إنَّه لا يدفع الإشكال، لأنَّ تلك المبادئ لا تخلوإمَّا أن تكون مسبوقة بالإرادة أو لا، فعلى الأول يلزم عدم كونها أفعالاً اختيارية وإن كانت أفعالاً إرادية، وذلك لأن الإرادة السابقة على تلك المبادئ إرادة غير اختيارية وغير مسبوقة بإرادة أخرى، وإلاَّ ينقل الكلام إليها ويلزم التسلسل. وعلى الثاني يلزم عدم كونها فعلاً إرادياً للنفس أيضاً، بل تكون أفعالاً صادرة عن النفس بلا إرادة.

الجواب الثالث
: ما ذكره شيخ المشايخ العلامة الحائري وحاصله: إنَّ ما اشتهر من أنَّ الإرادة لا تتعلق بها الإِرادة ولا تكون مسبوقة بأخرى أمر غير صحيح بل تتحقق الإرادة لمصلحة في نفسها.

قال: "الدليل على ذلك هوالوجدان لأنَّا نرى إمكان أن يقصد الإنسان البقاء في المكان الخاص عشرة أيام بملاحظة أنَّ صحة الصوم والصلاة تامة تتوقف على القصد المذكور، مع العلم بعدم كون هذا الأثر مرتباً على نفس البقاء واقعاً فتتعلق بالإرادة، إرادة"5.

يلاحظ عليه: إنَّه لا يقلع الإِشكال أيضاً، إذ غايته كون الإِرادة الأولى اختيارية لسبقها بإرادة ثانية وأمَّا الإِرادة الثانية فهي بعد باقية على صفة غير اختيارية، لأنَّ الميزان في الفعل الاختياري حسب معايير القوم كونه مسبوقاً بالإرادة فلوسلمت هذه القاعدة لصارت الإرادة الثانية غير اختيارية.

الجواب الرابع
: ما ذكره العلامة الطباطبائي في ميزانه وحاصله: إنَّ الحوادث بالنسبة إلى علتها التامة واجبة الوجود، وبالنسبة إلى أجزاء عللها ممكنة الوجود، فهذا هوالمِلاك في أعمال الإنسان وأفعاله فلها نسبتان: نسبة إلى علّتها التامة ونسبة إلى أجزائها، فالنسبة الأولى ضرورية وجوبية، والنسبة الثانية نسبة ممكنة. وكل فعل من الأفعال ضروري الوجود بملاحظة علله التامة وممكن بملاحظة أجزاء علته6.

وبما إنَّ الإِرادة ليست علّة تامة للفعل، تكون نسبة الفعل إليها نسبة الإمكان لا نسبة الوجوب.

يلاحظ عليه: بنفس ما لوحظ على كلام صدر المتألهين إذ المفروض أنَّ ما وراء الإِرادة أمر خارج عن الاختيار. فإذا كانت الإِرادة مثله في الخروج عن الاختيار فلا يتصف الفعل بالاختيار ولا الإِرادة به. وما ذكره مجرّد اصطلاح إذ لا شك أنَّ نسبة الفعل إلى أجزاء العلّة التامة نسبة ضرورية وإلى بعضها إمكانية ولكنه لا يشفي العليل ولا يروي الغليل، إذ البحث في أنَّ مدار اختيارية الفعل هوالإِرادة، والإرادة ليست اختيارية لأنها تطرأ على النفس في ظل عوامل خاصة من نفسية وغيرها، فالنسبتان المذكورتان لا تدفعان الإشكال.

نعم قد ذكر في ذيل كلامه هنا وفي موضع آخر من تفسيره7 كلاماً حاصله: إنَّ إرادته سبحانه لم تتعلق بصدور الفعل عن الإِنسان بأي نحواتفق وإنما تعلقت بالفعل بجميع شؤونه وخصوصياته ومنها أنها فعل اختياري صادر من فاعل كذا في زمان كذا إلى آخر ما أفاده. فهوجواب عن إشكال آخر تقدم عند البحث عن الجبر الأشعري8. وليس هذا جواباً عن الإِشكال المطروح في المقام.

الجواب الخامس
: ما أجاب به السيد المحقق الخوئي دام ظله في محاضراته في كلام مفصل نأخذ المهم منه، وحاصله: منع كون الإِرادة علّة تامة للفعل بل الفعل على الرغم من وجوده وتحققه يكون تحت اختيار النفس وسلطانها ولوكانت الإرادة علّة تامة لحركة العضلات ومؤثرة فيها لم يكن للنفس تلك السلطنة، ولكانت عاجزة عن التأثير فيها مع فرض وجودها..

ثم قال: "إنَّ الميزان في الفعل الاختياري ما أوجدته النفس باختيارها وإعمال القدرة والسلطنة المعبر عنها بالاختيار وقد خلق اللّه النفس الإِنسانية واجدة لهذه السلطنة والقدرة وهي ذاتية لها، وثابتة في صميم ذاتها، ولأجل هذه السلطنة تخضع العضلات لها، وتنقاد في حركاتها، فلا تحتاج النفس في إعمالها لتلك السلطنة والقدرة إلى إعمال سلطنة"9.

يلاحظ عليه أولاً: إنَّ الإِصرار على أنَّ الفعل بعد الإِرادة تحت اختيار النفس وسلطانها وأنَّ الإِرادة ليست علّة تامة لصدور الفعل، إصرار غير لازم، إذ يكفي في ذلك إثبات كون الإِرادة أمراً اختيارياً وإن كان صدور الفعل بعدها أمراً إلزامي. فالذي يجب التركيز عليه هوالأول (الإِرادة فعل اختياري للنفس) لا الثاني (كون الفعل بعد الإِرادة ممكن الصدور لا واجبه) وسيوافيك توضيحه في الجواب المُختار.

وثانياً: إنَّ القاعدة الفلسفية القائلة بأنَّ (الشيء ما لم يجب لم يوجد)غير قابلة لتخصيص، فكما هي تعم الأفعال الطبيعية، فهكذا تعم الأفعال النفسانية. والمِلاك في الجميع واحد، وهوأنَّ صدور الفعل يتوقف على سد باب العدم على الشيء ومع سدّه يتصف الفعل بالوجوب ولا يبقى لوصف الإمكان مجال كما أوضحناه.

وثالثاً: إنَّ اعمال السلطنة والقدرة، فعل من أفعال النفس. فما هوالمِلاك لكونها اختيارية؟، اللازم التركيز عليه بوجه واضح، وما جاء في كلامه لا يزيد عن إشارات إلى البرهان وسيوافيك تفصيله.

الجواب السادس: ما أفاده السيد الأُستاذ الإِمام الخميني دام ظله بتوضيح وتحرير منا، وحاصله: إنَّ الكبرى ممنوعة وهي جعل مِلاك الفعل الاختياري كونه مسبوقاً بالإِرادة حتى تخرج الإِرادة عن إطار الفعل الاختياري، بل المناط في اختيارية الفعل سواء أكان فعلاً جوارحياً وجوانحياً كونه صادراً عن فاعل مختار بالذات، غير مجبور في صميم ذاته، ولا مضطر في حاق وجوده، بل الاختيار مخمور في ذاته وواقع حقيقته،والإِنسان من مصاديق تلك الضابطة في أفعاله الاختيارية10.

وإليك بيانه: إنْ ما يصدر من الإِنسان من الأفعال على قسمين، قسم منه يصدر عن طريق الآلات والأسباب الجسمانية كالخياطة والبناء، وهذا القسم من الفعل يكون مسبوقاً بالتصور والتصديق والشوق إلى الفعل والعزم والجزم الذي يلازم تحريك العضلات نحوالمراد. وهذا ما يسمى بالأفعال الجوارحية.

وقسم يصدر منه بلا آلة بل بخلاقية منها، وهذا كالأجوبة التي تصدر من العالم النحوي الذي له ملكة علم النحوعند السؤال عن مسائله. فإنَّ هذه الأجوبة تصدر واحدة بعد الأخرى لا بتصور ولا بتصديق ولا بشوق ولا بعزم سابق على الأجوبة. وليس صدور تلك الأجوبة عن النفس كصدور الأفعال الجوارحية من الأكل والشرب مسبوقة بمبادئها، بل هي تظهر في لوح النفس وتصدر عنها بدون هذه التفاصيل.

وهذه الأجوبة التي تعد صوراً علمية، موجودة للنفس مخلوقة لها، خلقاً اختيارياً بحيث لوشاء ترك، مع أنها ليست مسبوقة بالإِرادة ولا بمبادئها، بل كفى في كونها اختيارية كون النفس "فاعلا مختاراً بالذات" بحيث تكون حقيقتها كونها مختارة، وكونها مختارة نفس حقيقتها.

وبذلك يظهر أن وِزان الإرادة بالنسبة إلى النفس وزان الصور العلمية. فكما أنَّ صدور الصور العلمية لا يتوقف على المبادئ السابقة، فكذلك ظهور الإِرادة في الضمير.

وكما أنَّ ظهور تلك الأجوبة، ظهور اختياري لدى النفس، فكذلك الإِرادة، وليس مناط اختياريتها سبق إرادة أخرى، لما عرفت من عدم كونها مسبوقة بها، بل المِلاك في اختياريتها كون النفس فاعلاً مختاراً بالذات وليس الاختيار مفصولاً عن ذاتها وهويتها.

وإن شئت فاستوضح الحال بأفعاله سبحانه، فإنها كلها اختيارية لكن لا بمعنى كونها مسبوقة بالإرادة التفصيلية الجزئية الحادثة لكونه سبحانه منزّهاً عن مثل هذه الإرادة، وقد عرفت أنَّ حقيقة إرادته وواقع كونه مريداً هوكونه فاعلاً مختاراً بالذات، فلأجل ذلك تصبح أفعاله سبحانه في ظل هذا الاختيار الذاتي، أفعالا اختيارية والنفس الإِنسانية في خلاقيتها بالنسبة إلى الصور العلمية والإِرادة التفصيلية مثال للواجب سبحانه، ﴿وَللّه المَثَلُ الأعْلى وَ هُوَ العَزِيز الحَكِيمُ(النحل:60).

وما اشتهر من أنَّ ملاك الفعل الاختياري السبق بالإِرادة، فإنَّما هوناظر إلى الأفعال الجوارحية الصادرة من الإنسان عن طريق الأسباب والآلات ولا يعم كل فعل اختياري.

ويمكن أن يقال: إنَّ تعريف الفعل الاختياري بسبق الإِرادة من قبيل جعل ما بالعرض مكان ما بالذات، بل المِلاك في كونه فعلاً اختيارياً للإِنسان هوانتهاء الفعل إلى فاعل مختار بالذات، وصدوره عنه بالإرادة. غير أنَّا لتسهيل الأمر على الطلاّب نتوافق على هذا التعريف في مورد الأفعال الجوارحية لا مطلقاً.

إلى هنا خرجنا بهذه النتائج
1- إنَّ الأفعال النفسانية تصدر عن النفس لا بإرادة مسبقة بل يكفي في صدورها الإِختيار الذاتي الثابت للنفس.
2- إنّ هذه الأفعال كما هي غير مسبوقة بالإِرادة غير مسبوقة بمبادئها أيضاً، فليس قبل صدورها تصوّر ولا تصديق ولا شوق ولا عزم ولا جزم.
3- إنَّ الأفعال القلبية اختيارية للنفس بمِلاك الاختيار الذاتي الثابت لها.

وأمَّا الدليل على ثبوت اختيار ذاتي للنفس فيكفي في ذلك:

أولاً: قضاء الفطرة والبداهة بذلك فإن كل نفس، كما تجد ذاتها حاضرة لديها فهكذا تجد كونها مختارة، وأنَّ سلطان الفعل والترك بيدها، ولها أن تقْدم على عمل وأن لا تقدم عليه، ولا شيء أظهر عند النفس من هذا الاختيار، وإنْ أنكره الإِنسان فإنما ينكره باللسان وهومعتقد به.

وثانياً: إنَّ فاقد الكمال لا يكون معطيه فالنفس واجدة للاختيار في مقام الفعل ويعد فعلها فعلاً اختيارياً لأجل كونه مسبوقاً بالإرادة. فمفيض الاختيار في مقام الفعل واجد له في مقام الذات. وهذا نظير ما يقال: إنَّ الصور التفصيلية الظاهرة في الضمير من أفعال النفس، وهي واجدة لها في مقام الذات، فمن كانت له ملكة علم النحوثم سئل مسائل كثيرة فأجاب عنها واحدة بعد الأخرى بأجوبة تفصيليلة فهي كانت موجودة في صميم الملكة وذات النفس بوجود بسيط إجمالي، لا بوجود تفصيلي. وهذا يدلنا على أنَّ كل ما يظهر للنفس في مقام الفعل والتفصيل، ومنه الاختيار، فهي واجدة له في مقام الذات بوجه بسيط إجمالي مناسب لمقام الذات.

إذا عرفت ذلك فنحن في غنى عن إيضاح الجواب ولعل ما ذكرناه هومقصود صاحب المحاضرات كما نقلنا عنه. ولكنه دام ظله يصرّ على أمر لا دخالة له في الإِجابة وهوأنَّه ليست الإِرادة علّة تامة للفعل بل الفعل على الرغم من وجوده وتحققه يكون تحت اختيار النفس وسلطانها، ولوكانت الإِرادة علّة تامة لحركة العضلات ومؤثرة فيها لم يكن للنفس تلك السلطنة وكانت عاجزة عن التأثير فيها مع فرض وجودها.

أقول: لوكانت الإِرادة علّة تامة للفعل، وكانت جزءاً أخيراً من العِلة التامة كما هوالحق بحيث يكون تحقق الفعل معها ضرورياً، فلا ينافي ذلك سلطان النفس واختيارها قبل الإِرادة، إذ لها أن تتأمل فيما يترتب على الفعل والإِرادة من الآثار السيئة ولا تريدها، ولكنها باختيارها أوجدت الإرادة وحققتها، ومعها وجب صدور الفعل من النفس. ومثل هذا لا يوجب خروج الفعل عن كونه اختيارياً. فالإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار، والفعل وإن كان يتحقق وجوده بعدها لكن لا يخرجه اللزوم عن كونه فعلا اختيارياً، وهذا كالملقي نفسه من شاهق باختيار، لا يعد هبوطه وسقوطه فعلا خارجاً عن الاختيار، لكون مبادئه بالاختيار. فالذي يجب التركيز عليه هواختيارية الإرادة ولا يضر وجوب الفعل بعد حصولها إذا كانت الإرادة اختيارية. فالتركيز على عدم وجوب الفعل بعد الإِرادة فراراً عن اضطرارية الفعل ليس بأولى من التركيز على وجوب الفعل بعد الإرادة، إذا كانت الإِرادة فعلا اختيارياً للنفس باختيار ذاتي لها.

فالذي تنحل به العقدة هو كون الإِرادة تحت سلطان النفس لا كون الفعل غير واجب بعد حصول الإرادة.


*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2،ص303-314


1- إن للمغالطة أقساماً كثيرة ربما تناهز الثلاثة عشر قسماً، ومنها هذا القسم الوارد في هذا البحث. لاحظ قسم المغالطة في شرح المنظومة للحكيم السبزواري حيث بقول: أنواعها الثلاثة عشر كما * قد ضبطوها من كلام القُدَم.
2- الأسفار، ج 6 ص 390. ويظهر هذا الإشكال من الشيخ الرئيس في الفن الثالث من طبيعيات الشفاء وفي أول العاشرة من إلهيات الشفاء. وقد نقل صدر المتألهين نصوصه في المصدر نفسه، فلاحظ.
3- الأسفار، ج 6، ص 388، وله جواب آخر عن الإشكال غير متين جداً، فمن أراد فليرجع إلى كتابه، كما نقل جواباً آخر عن أُستاذه المفخم المحقق الداماد.
4- كفاية الأصول للمحقق الخراساني ت 1255 م 1329 ج 2، ص 14
5- الدُّرَر للشيخ عبدالكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم ت 1274 - م 1355، ج 2، ص 15.
6- الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 99.
7- لاحظ الميزان، ج 11، ص 21.
 8- لاحظ الأصل الثالث من أصول الأشاعرة.
9- المحاضرات، ج 1، ص 59 - 60 وقد أخذنا موضع الحاجة منه.
10- لبّ الأثر في الجبر والقَدَر، تقرير لدرس السيد الإِمام بقلم الأُستاذ دام ظله، مخطوط.

2009-08-01