مناهج الاختيار : في مذهب الأمر بين الأمرين
العدل
إنَّ أصحاب المناهج الفكرية، في مسألة أفعال الإِنسان، اعتقدوا بأنَّ الحق ينحصر في القول بالجبر والتفويض وأنَّه ليس هناك طريق ثالث يسلكه الإنسان الباحث ويحفظ أساس القول بهما. وقد عرفت أنَّ الجنوح إلى الجبر في العُصور الأولى كان لأجل التحفظ على التوحيد الأفعالي وأنَّه لا خالق إلاّ هو.
عدد الزوار: 218
إنَّ أصحاب المناهج الفكرية، في مسألة أفعال الإِنسان، اعتقدوا بأنَّ الحق ينحصر في القول بالجبر والتفويض وأنَّه ليس هناك طريق ثالث يسلكه الإنسان الباحث ويحفظ أساس القول بهما. وقد عرفت أنَّ الجنوح إلى الجبر في العُصور الأولى كان لأجل التحفظ على التوحيد الأفعالي وأنَّه لا خالق إلاّ هو. كما أنَّ الإِنحياز إلى التفويض كان لغاية التحفظ على عدله سبحانه فالأشاعرة جنحوا إلى الجبر حرصاً على الأصل الأول، والمعتزلة إلى الثاني حرصاً على أصل العدل. وكلا الطرفين غفل عن نظرية ثالثة يوافقها العقل ويدعمها الكتاب والسُّنَّة وفيها الحفاظ على كل من أصل التوحيد والعدل، مع نزاهتها، عن مضاعفات القولين، فإنّ في القول بالجبر بطلان البعث والتكليف، وفي القول بالتفويض الثنوية والشرك.
فهذه النظرية الثالثة، جامعة وحافظة لما يتبناه الطرفان من الإصول وفي الوقت نفسه منزّهة عن التوالي والمفاسد. وهذا هو مذهب الأمر بين الأمرين الذي لم يزل أئمة أهل البيت عليهم السَّلام يحثون عليه، من لدن حمي وطيس الجدال في أفعال الإِنسان من حيث القضاء والقدر وغيرهما. غير أنَّ أكثر المتكلمين من السُّنَّة لم يقفوا على تلك النظرية بتاتاً ولم يتأمّلوا فيها. وقلّ فيهم من تأمل فيها وصرّح بصدقها كالإِمام الرّازي في تفسيره والشيخ عبده في رسالة التوحيد، فهما من قادة هذا المذاهب بين أهل السنة، ولكن غيرهما بين جبري لا يرى للإِنسان حرية واختياراً، وتفويضي وقع في حبال الشرك.نعم، قد انقرضت الطائفة الثانية بانقراض المعتزلة بالسيوف التي سلطت عليهم فلم يبق منهم ولا من آثارهم وكتبهم إلاَّ شيئاً لا يذكر.
وأمَّا حقيقة هذا المذهب فتتعين في ظل أمور:
الأول: الإِمكان في الماهية غير الإِمكان في الوجود
إنَّ الإِمكان تارة يقع وصفاً للماهية وأخرى وصفاً للوجود، والمقصود منه في الأول تساوي ماهية الشيء بالنسبة إلى الوجود والعدم، بمعنى أنها واقعة في مركز الدائرة، فلا تخرج عنه إلى أحد الطرفين، إلاَّ بعامل يخرجها عن حالة التساوي ويضفي عليها لزوم الإِتصاف بأحدهما، وهذا واضح.
وأمَّا إذا وقعت وصفاً للوجود بما هو وجود الذي يعبر عنه بالوجود الإِمكاني ويُعَدّ فعلا للواجب، فليس معنى إمكانه تساوي نسبته إلى الوجود والعدم، لأن ثبوت الشيء لنفسه ضروري، وسلبه عنه ممتنع فلا معنى لأن يقال إنَّ نسبة الوجود إلى الوجود الإمكاني تُساوي نسبته إلى العدم، بل نسبة الوجود إليه ضرورية ونسبة العدم إليه ممتنعة.
بل معنى توصيف الوجود بالإمكان عبارة عن كونه قائماً بالعلّة بجميع شؤونه وخصوصياته.
فكلما وصف الوجود بما هو وجود عار عن الماهية، وصادر عن العلّة الواجبة، يراد منه التعلّق والقيام، والصلة والإِرتباط لا التساوي. فافهم ذلك.
الثاني: ما هوالمراد من قيام المعلول بعلّته
إذا كان توصيف الوجود بالإمكان بمعنى قيامه بعلته، يقع الكلام في حقيقة ذلك القيام وأنَّه من أي نوع من أنواعه. فهل هو من قبيل قيام العرض بموضوعه والجوهر بمحله؟، وأن قيامه بها يرجع إلى معنى دقيق ويشبه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الإِسمي في المراحل الثلاث، التصور والدلالة والتحقق؟. إليك البيان:
إذا قلت: سرتُ من البصرة إلى الكوفة، فهناك معان إسمية هي السير والبصرة والكوفة، ومعنى حرفي وهو كون السير مبدوءاً من البصرة ومنتهياً إلى الكوفة. فالإبتداء والإنتهاء المفهومان من كلمتي "من" و"إلى" فاقدان للإستقلال في مجال التصور فلا يتصوران مستقلين ومنفكين عن تصور البصرة والكوفة، وإلاَّ لعاد المعنى الحرفي معنى إسمياً، ولصار نظير قولنا: "الإِبتداء خير من الإِنتهاء".
وكذلك فاقدان للإستقلال في مجال الدلالة فلا يدلان على شيء إذا انفكتا عن مدخوليهما.
كما هما فاقدان للإستقلال في مقام التحقق والوجود، فليس للإِبتداء الحرفي وجود مستقل منفك عن متعلقه، كما ليس للإنتهاء الحرفي وجود كذلك.
فالحفاظ على المعنى الحرفي لا يتحقق إلاَّ بثبوت عدم الإستقلال له في المجالات الماضية، وإلاَّ لخرج عن كونه معنى حرفياً.
وعلى ضوء ذلك يتبين وزان الوجود الإمكاني الذي به تتجلى الأشياء وتتحقق الماهيات، وبه تصير الماهيات كالشجر والحيوان والإنسان من الأعيان الخارجية، فإن وزانه إلى الواجب لا يعدوعن وزان المعنى الحرفي إلى الإسمي، وذلك لأنَّ الصادر من الواجب هو الوجود وهولا يخلو من قسمين: إمَّا واجب وممكن، والأول خلف لكون المفروض معلوليته وصدوره عنه، وما هو كذلك لا يمكن أن يخرج عمَّا هوعليه. فيتعين الثاني. وقد عرفت أنَّ معنى الإِمكان في الوجود غير الإِمكان في الماهية وأنَّ معناه في الأول كونه متعلقاً بالعلّة وقائماً بها بجميع شؤونه وخصوصياته، والإِمكان نافذ فيه وراسخ في واقعه رسوخ الحياة في الموجود الحىّ، وعند ذلك يكون الإِرتباط بالعلّة والقيام بها غير خارج عن واقع الوجود الإِمكاني ويكون الفقر والربط نفس ذاته وعين واقعه، وإلاَّ فلوكان في حاق الذات غنياً ثم عرض له الفقر يلزم الخلف، وخروج الموجود الغني عن كونه غنياً، إلى حيز الفقر والحاجة.
وعلى هذا الأصل، لا يمكن إنكار صلة الوجودات الإِمكانية باللّه سبحانه، من غير فرق بين الإِنسان وغيره، وتبطل نظرية التفويض القائلة بانقطاع الصلة بين المبدأ والموجودات الإِمكانية. وهذه الحقيقة صادقة في الفواعل الإِلهية والعِلَل غير الطبيعية ففيها يصدق ما ذكرنا من الوزان والمكانة وأمَّا العلل الطبيعية فصدق العلّة عليها من باب المجاز.
الثالث: وحدة حقيقة الوجود يلازم التأثير في جميع المراتب
قد وقع النزاع بين الفلاسفة في أنَّ الوجود الواجب والوجود الإِمكاني هل هما حقيقتان متباينتان بحيث لا صلة جامعة بينهما أبداً، وأنَّ إطلاق الوجود عليهما من باب إطلاق اللفظ الموضوع لمعنيين متباينين، كالعين الموضوعة تارة للشمس وأخرى للذهب، وأنهما من مقولة واحدة يجمعهما قدر مشترك وهوالوجود وطرد العدم وما يفيد ذلك1. وأنَّ الوجود يطلق عليهما بوضع واحد وبمعنى مفرد، وإطلاق المعنى الواحد على الشيئين يقتضي وجود قدر مشترك بينهما وإلاَّ يلزم انتزاع المعنى الواحد بما هو معنى واحد من الأشياء الكثيرة التي لا جهة وحدة بينها.
والحق هو الثاني، لما عرفت من البرهان وعليه الحكماء غير المشائيين.وعلى ضوء هذا الأصل، إِذا كانت الحقيقة في مرتبة من المراتب ذات أثر خاص، يجب أن يوجد ذلك الأثر في المراتب النازلة، أخذاً بوحدة الحقيقة، نعم يكون الأثر من حيث الشدة والضعف، تابعاً للمؤثر من هذه الحيثية، فالوجود الواجب بما أنَّه أقوى وأشد، يكون العلم والدرك والحياة والتأثير فيه مثله. والوجود الإِمكاني بما أن الوجود فيه أضعف يكون أثره مثله. ولأجل ذلك ذهب الإِلهيون إلى القول بسريان العلم والحياة والقدرة إلى جميع مراتب الوجود الإِمكاني وقد أثبتوه بهذا البرهان وحكموا بصحته من طريق الكشف والشهود، ويشهد الكتاب العزيز على صحة نظريتهم في مجال السريان العلمي والدركي إلى جميع مراتب الوجود حتى الجماد 2.
وعلى ضوء هذا الأصل، تبطل نظرية الأشاعرة المخصصة للتأثير بالواجب سبحانه، والسالبة له عن سائر المراتب زاعمة أنه مقتضى التوحيد الأفعالي، مع أنه كما يتحقق بسلب التأثير عمَّا سواه يتحقق بتخصيص التأثير الإِستقلالي باللّه سبحانه وإرجاع تأثير الوجود في المراتب الإِمكانية إلى إذنه ومشيئته. والثاني هو المتعين لما عرفت من البرهان.
إذا وقفت على هذه الأصول تقف على النظرية الوسطى في المقام وأنه لا يمكن تصوير فعل العبد مستقلا عن الواجب، غنياً عنه، غير قائم به، قضاءً لكون الفعل وجوداً إمكانياً، والوجود الإِمكاني حقيقته التعلق والصلة والربط. كما أنه لا يمكن إنكار دور العبد بل سائر العلل في آثارها قضاء لحكم الأصل الثالث من أنَّ الوجود، في أي مرتبة كان من المراتب لا يخلوعن تأثير ودخالة فيما يظهر منه من الآثار، ويقوم به من الأفعال.فالفعل مستند إلى الواجب من جهة ومستند إلى العبد من جهة أخرى. فليس الفعل فعله سبحانه بحيث يكون منقطعاً عن العبد بتاتاً ويكون دوره دور المحل والظرف لظهور الفعل، كما أنَّه ليس فعل العبد فقط حتى يكون منقطعاً عن الواجب، قضاءً بكون الفعل بل الفاعل، أمرين ممكنين غير مستغنيين عن الواجب في آن من الآنات.
وفي هذه النظرية جمال التوحيد الأفعالي منزّهاً عن الجبر. كما أن فيها محاسن العدل منزّهاً عن مغبة الشرك والثنوية، يدرك ذلك كل من أمعن النظر. وينطبق عليها قول الإِمام أمير المؤمنين عليه السَّلام: "اليمين والشمال مَضَلَّة، والطريق الوُسْطى هي الجادّة عليها باقي الكتاب وآثار النُبوّة"3.
هذا إجمال النظرية حسب ما تسوق إليه البراهين الفلسفية، ولكن رفع الستار عن وجهها يحتاج إلى تمثيل يحقق واقعية النظرية بشكل محسوس. وما ذكروا من الأمثلة يختلف حسب إدراك الممثل حقيقة هذه النظرية وإليك بعضها.
أ- اللّه فاعل بالتسبيب والعبد بالمباشرة
إنّ كثيراً من محققي الإِمامية صوّروا هذه النظرية بما يوجبه هذا العنوان فجعلوا نسبة الفعل إلى اللّه نسبة تسبيبية ونسبته إلى العبد نسبة مباشرية بحجة أنَّ اللّه سبحانه وهب الوجود والحياة وا لعلم والقدرة لعباده، وجعلها في اختيارهم. وأنَّ العبد هو الذي يصرف الموهوب في أي مورد شاء، فينسب الفعل إليه سبحانه لأجل كونه معطي المبادئ ومفيض الوجود والقُدرة، وإلى العبد لأنه الذي يصرفها في أي مورد شاء.والمثال الذي يبين حقيقة النظريات الثلاث في هذا المجال هو ما ذكره المحقق الخوئي في تعاليقه القيّمة على أجود التقريرات، ومحاضراته الملقاة على تلاميذه وإليك خلاصة البيان، قال:
لوفرضنا شخصاً مرتعش اليد فاقد القدرة، فإذا ربط رجل بيده المرتعشة سيفاً قاطعاً وهو يعلم أنّ السيف المشدود في يده سيقع على آخر ويهلكه، فإذا وقع السيف وقتل، ينسب القتل إلى من ربط يده بالسيف دون صاحب اليد الذي كان مسلوب القدرة في حفظ يده.
ولوفرضنا أنَّ رجلا أعطى سيفاً لمن يملك حركة يده وتنفيذ إرادته فَقَتَل هوبه رجلاً، فالأمر على العكس، فالقتل ينسب إلى المباشِر دون من أعطى.
ولكن لوفرضنا شخصاً مشلول اليد (لا مرتعشها)غير قادر على الحركة إلاَّ بإيصال رجل آخر التيار الكهربائي إليه ليبعث في عضلاته قوة ونشاطاً بحيث يكون رأس السلك الكهربائي بيد الرجل بحيث لورفع يده في آن انقطعت القوّة عن جسم هذا الشخص في الحال وأصبح عاجزاً.فلوأوصل الرجل تلك القوّة إلى جسم هذا الشخص فذهب باختياره وقتل إنساناً والرجل يعلم بما فعله، ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كل منهما، أمَّا إلى المباشر فلأنه قد فعل باختياره وإعمال قدرته، وأمَّا إلى الموصل فلأنه أقدره وأعطاه التمكن حتى في حال الفعل والإِشتغال بالقتل، وكان متمكناً من قطع القوة عنه في كل آن شاء وأراد.
فالجبري يمثل فعل العبد بالنسبة إلى اللّه تعالى كالمثال الأول، حيث أنَّ اليد المرتعشة فاقدة للإِختيار ومضطرة إلى الإِهلاك.
كما أنَّ التفويضي يمثل نسبة فعله إليه كالمثال الثاني، فهو يصوّر أنَّ العبد يحتاج إلى إفاضة القدرة والحياة منه سبحانه حدوثاً لا بقاء والعلّة الأولى كافية في بقاء القُدرة فيه إلى نهاية المطاف، كما أنَّه كان الأمر في المثال كذلك فكان الإِنسان محتاجاً إلى رجل آخر في أخذ السيف، وبعد الحصول عليه انقطعت حاجته إلى المعطي.
والقائل بالأمر بين الأمرين يصوّر النسبة كالمثال الثالث، فالإِنسان في كل حال يحتاج إلى إفاضة القوة والحياة منه إليه بحيث لوقطع الفيض في آنة واحد بطلت الحياة والقدرة، فهو حين الفعل يفعل بقوة مفاضة منه وحياة كذلك من غير فرق بين الحدوث والبقاء. إلى أن قال: إنَّ للفعل الصادر من العبد نسبتين واقعيتين إحداهما نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره منه باختياره وإعمال قدرته، وثانيهما نسبته إلى اللّه تعالى باعتبار أنه معطي الحياة والقدرة في كل آن وبصورة مستمرة حتى في آن اشتغاله بالعمل4.
وهذا التمثيل مع كونه رفيع المنزلة في تبيين المقصود إلاَّ أنَّ الفلاسفة الإِلهيين لا يرضون بالقول بأنَّ النفس تستخدم القوى كمن يستخدم كاتباً ونقاشاً قائلين بأنَّ مقام النفس بالنسبة إلى قواها أرفع من ذلك لأن مستخدم البناء لا يلزم أن يكون بنّاء، ومستخدم الكاتب لا يكون كاتباً، ومستخدم القوة السامعة والباصرة (النفس) لا يجب أن يكون سميعاً وبصيراً. مع أنَّ النفس هي السميعة البصيرة، فإذا كانت نسبة النفس إلى قواها فوق التسبيب والإِستخدام فكيف مثله سبحانه وهو الخالق القيوم وما سواه قائم به قوام المعنى الحرفي بالإِسمي.
ولذا فإن لهم تمثيلاً آخر في المقام وهو التالي:
ب- الفعل فعل العبد وفي الوقت نفسه فعل اللّه
إنَّ بعض المحققين من الإِمامية وفي مقدمهم معلّم الأمَّة الشيخ المفيد وبعده صدر المتألّهين وتلاميذ نهجه يرون الموقف أدق من ذلك ويعتقدون أنَّ للفعل نسبة حقيقية إلى اللّه سبحانه، كما أنَّ له نسبة حقيقية إلى العبد، ولا تُبطل إحدى النسبتين الأخرى، ونأتي لتبيين ذلك بمثالين:
أحدهما، ما ذكره معلّم الأُمة الشيخ المفيد (ت 336 ـ م 413 هـ)، على ما حكاه عنه العلاّمة الطباطبائي في محاضراته، ولم أقف عليه في كتب الشيخ المفيد وهو:
نفترض أنّ مولىً من الموالي العرفيين يختار عبداً من عبيده ويزوجه إحدى فتياته، ثم يقطع له قطيعة ويخصّه بدار وأثاث، وغير ذلك مما يحتاج إليه الإِنسان في حياته إلى حين محدود وأجل مسمّى.
فإن قلنا إنَّ المولى وإن أعطى لعبده ما أعطى، وملّكه ما ملك فإنه لا يملك، وأين العبد من الملك، كان ذلك قول المُجبِرة.
وإن قلنا: إنَّ المولى بإعطائه المال لعبده وتمليكه، جعله مالكاً وانعزل هوعن المالكية وكان المالك هو العبد، كان ذلك قول المعتزلة.
ولوجمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين، وقلنا: إنَّ للمولى مقامه في المولوية، وللعبد مقامه في الرقيّة وإنَّ العبد يملك في ملك المولى، فالمولى مالك في عين أنَّ العبد مالك أن فهناك ملك على ملك، كان ذلك القول الحق الذي رآه أئمة أهل البيت عليهم السَّلام وقام عليه البرهان5.
وفي بعض الروايات إشارات رائعة إلى هذا التمثيل، منها:
ما رواه الصدوق في (توحيده)عن النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم قال: قال اللّه عزوجل: "يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد"6.
ترى أنه يجعل مشيئة العبد وإرادته، مشيئة اللّه سبحانه وإرادته، ولا يعرّفهما مفصولتين عن اللّه سبحانه بل الإِرادة في نفس الإِنتساب إلى العبد منتسبة إلى اللّه سبحانه.
ثانيهما: ما ذكره صدر المتألّهين وقال ما هذا حاصله:
إذا أردت التمثيل لتبيين كون الفعل الواحد فعلا لشخصين على الحقيقة فلاحظ النفس الإِنسانية، وقواها، فاللّه سبحانه خلقها مثالا، ذاتاً وصفة وفعلا، لذاته وصفاته وأفعاله، قال سبحانه: ﴿وَفِي الأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾(الذاريات:20-21).وقد أُثرَ عن النبي والوصي القول بأنَّه "مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ، عَرَفَ رَبَّهُ"7.
إنَّ فعل كل حاسة وقوة من حيث هو فعل تلك القوة، فعل النفس أيضاً. فالباصرة ليس لها شأن إلاَّ إحضار الصورة المُبْصَرة، وانفعال البصر منها، وكذلك السامعة، فشأنها إحضار الهيئة المسموعة وانفعالها بها، ومع ذلك فكل من الفعلين، كما هو فعل القوة، فعل النفس أيضاً، لأنها السميعة البصيرة في الحقيقة وليس شأن النفس استخدام القوى بل هو فوق ذلك. لأنّا إذا راجعنا إلى وجداننا نجد أن نفوسنا بعينها الشاعرة في كل إدراك جزئي وشعور حسّي، كما أنها المتحرك بكل حركة طبيعية وحيوانية منسوبة إلى قواها. وبهذا يتضح أنَّ النفس بنفسها في العين قوة باصرة وفي الأُذن قوة سامعة وفي اليد قوة باطشة، وفي الرجل قوّة ماشية، وهكذا الأمر في سائر القوى التي في الأعضاء، فبها تبصر العين وتسمع الأُذن وتمشي الرجل. فالنفس مع وحدتها وتجردها عن البدن وقواه وأعضائه، لا يخلومنها عضومن الأعضاء عالياً كان وسافلا، ولا تبائنها قوة من القوى، مدركة كانت ومحركة، حيوانية كانت وطبيعية.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنَّه كما ليس في الوجود شأن إلاَّ وهو شأنه، كذلك ليس في الوجود فعل إلاَّ فعله، لا بمعنى أنَّ فعل زيد مثلا ليس صادراً عنه، بل بمعنى أنَّ فعل زيد مع أنَّه فعله بالحقيقة دون المجاز فهو فعل اللّه بالحقيقة.فكما أنَّ وجود زيد بعينه أمر متحقق في الواقع منسوب إلى زيد بالحقيقة لا بالمجاز، وهو مع ذلك شأن من شؤون الحق الأول، فكذلك علمه وإرادته وحركته وسكونه وجميع ما يصدر عنه منسوب إليه بالحقيقة لا بالمجاز والكذب. فالإِنسان فاعل لما يصدر عنه ومع ذلك ففعله أحد أفاعيل الحق الأول على الوجه اللائق بذاته سبحانه8.
هذا ما أفاده صدر المتألّهين من التمثيل عند تبيين حقيقة النظرية، وفي بعض الأحاديث إشارة إليه، روى الكليني في (الكافي)، عن أبان بن تَغْلِب، عن أبي جعفر الباقر: إنَّ اللّه جلّ جلاله قال: "ما يقرب إلىَّ عبد من عبادي بشيء أحبّ إلىّ ممَّا افترضت عليه، وإنَّه ليتقرب إلىَّ بالنافلة، حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته"9.
إلى هنا تم تبيين التمثيل المبيّن لحقيقة النظرية، فسواء أكان المختار هو البيان الأول المشهور بين الإِمامية، أم كان ما ذكره صدر المتألّهين، فالتحقيق هو أنَّ الفعل فعل اللّه وهو فعلنا إمَّا بحديث التسبيب والإِستخدام ولأجل أنَّه لا يخلوشيء منه سبحانه، فقال سبحانه: ﴿وَهو مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ﴾(الحديد:4). وقال سبحانه: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾(ق:16). واللّه سبحانه من وراء وجود فعل الإِنسان ومعه وبعده كالنفس بالنسبة إلى قواها وأفعالها.وقال سبحانه: ﴿وَ لَهُ المَثَلُ الأَعلى في السَّمواتِ والأرْضِ وَ هو العَزِيزُ الحَكِيم﴾(الروم:27).
ثم إنَّ القول بأنَّ فعل العبد فعل اللّه سبحانه لا يصح نسبة كل ما يصدر عن العبد إلى اللّه سبحانه كأكله وشربه ونكاحه.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2،ص341-352
1- وهذه العناوين ليست معرفات حقيقية بل هي عناوين مشيرة إلى حقيقة مجهولة فإنَّ حقيقة الوجود لا يقدر الإنسان على دركها، لانَّ أدوات المعرفة لا تتجاوز الذهن والذهنيات، وهي لا تدرك الحقيقة الخارجية بل المفاهيم العارية عنها كمفهوم النار.وأما حقيقة الوجود فهي نفس العينية الخارجية، فكيف يمكن أن تكون مُدرَكَة للذهن؟!.
2- وقد أوعزنا إلى الآيات الناظرة إلى سريان العلم وإن أردت التفصيل فلاحظ مفاهيم القرآن، الجزء الأول، ص 207 ـ 238.
3- نهج البلاغة، الخطبة 16.
4- المحاضرات، ج 2، ص 87 و88.أجود التقريرات، ج 1، ص 90.
5- الميزان، ج 1، ص 100.وقد أشار إلى هذا التنزيل في تعليقته على البحار، لاحظ ج 5، ص 83.
6- التوحيد باب المشيئة والإرادة، ص 340، الحديث 10.ولاحظ بحار الأنوار كتاب العدل والمعاد ح 62 و63 مع تعليقة العلاَّمة الطباطبائي على الأول.
7- غُرَرُ الحِكَمْ،ص 268، طبعة النجف.وروي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام قوله: "أَعْلَمُكُمْ بنفسه أعلمكم بربه".أمالي المرتضى، ج 2، ص 329.
8- الأسفار، ج 6، ص 377 إلى 378، وص 374.
9- وسائل الشيعة، ج 3، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، ب 17، ح 6.