موقف النبي وأهل بيته من القضاء والقدر
العدل
إنَّ القضاء والقَدَر من الأُصول الإِسلامية الواردة في الكتاب والسنَّة وليس لمن له إلمام بهذين المصدرين الرئيسيين أن ينكرهما أو ينكر واحداً منهم. وربما يصل إليهما العقل الفلسفي في تحليلاته وتفسيراته للكون المستند إلى الواجب سبحانه، ويخرج الجميع بنتيجة واحدة هي أنَّ لوجود كل شيء تحديداً وتقديراً...
عدد الزوار: 100وربما يصل إليهما العقل الفلسفي في تحليلاته وتفسيراته للكون المستند إلى الواجب سبحانه، ويخرج الجميع بنتيجة واحدة هي أنَّ لوجود كل شيء تحديداً وتقديراً، كما أنَّ له قضاءً وحكماً إبرامياً. وقد أصبح لفظ "المصير" في مصطلح اليوم قائماً مكان هذين اللفظين.
إنَّ الوقوف على حقيقة المصير من المسائل الفلسفية الّتي يتشوق إليها الكل، حتى من لم يكن فيلسوفاً، فإن المسائل الفلسفية على صنفين: صنف مطروح للخواص ولا حَظَّ لغيرهم فيه وهذا كمسأله "عينية الصفات مع الذات"، أو كون "الواحد لا يصدر منه إلاَّ الواحد" إلى غير ذلك من المسائل الّتي لا يقف على مغزاها ولا يتفكر فيها إلاَّ الباحث في المسائل العقلية.
وهناك صنف آخر، وإن كان أقل من سابقه، مطروح لكل الناس، والفيلسوف وغيره في التشوق إلى فهمه متساويان، ومن هذا القسم فهم القضاء والقدر في الكتاب والسنَّة وموقع الإِنسان بالنسبة إليهما، وهل للإِنسان في مقابل التقدير اختيار وحُرية، وأنَّ ما قُدِّر في الأزل، وقُضِيَ به لا يسلب حريّته، أو أنَّ الإِنسان بَعْدَ التقدير والقضاء، كالريشة المعلّقة في الهواء تقلبها الرياح كيفما مالت، وهل الإِنسان على مسرح الحياة مُمَثِّلٌ أو مشاهد. فالمُتَعمقون من الناس يميلون إلى الأول، والسطحيون إلى الثاني. ولأجل ذلك ترى أن القضاء والقدر لعب دوراً كبيراً في آداب الأمم وأشعارهم، فترى أنَّ كل شاعر وأديب يفسّر القضاء والقدر على الوجه الّذي يناسب نزعاته وبيئته وظروفه الاجتماعية ومن هنا نرى تناقضاً واضحاً للغاية بين الأدباء والكتّاب في تحليل هذا الأصل.
إنَّ مسألة التقديرلأجل الخصيصة الماضية قد ابتليت بتفسيرين مختلفين لا يجتمعان أبداً، بينهما بُعد المَشْرِقَين، فالمأثور الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وبعض الصحابة أنَّه لا صلة بين الإِعتقاد بالقضاء والقدر وتبرير المعاصي والمساويء عن ذلك الطريق وأنَّ القضاء والقدر ليسا سالبين للاختيار بل مؤيدان لحرية الإِنسان في حياته.
وفي مقابلهم جماعة سطحيون من الناس تَدرعوا بالقضاء والقدر، وأخذوا يبرّرون أفعالهم فيهما وكأنه ليس في الحياة عامل مؤثر سواهما، وأَنَّ الإِنسان في حياته مشاهد لما خُطّط من قبل وليس ممثلاً لشيء من الأشياء.
ولأجل إيقاف القارئ على موقف كلا الطائفتين، نورد كلماتهم في هذا المجال:
موقف النبي وأهل بيته وبعض الصحابة
1- قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "سيأتي زمان على أُمتي يَُؤوّلون المعاصي بالقضاء، أولئك بريئون مني وأنا منهم براء"1.
2- قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خمسة لا يستجاب لهم: أحدهم مَرّ بحائط مائل وهو يُقبل إليه، ولم يسرع المشي حتى سقط عليه.."2.
3- قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "رُقىً يُستشفى بها هل ترد من قدر الله؟ فقال: إنها من قدر الله"3. والرقى جمع الرقية بمعنى العوذة. فقد جعل رسول الله التمسك بالأسباب جزءاً من تقديره سبحانه، فأعْلَم بذلك أن ليس التقدير سالباً للاختيار، بل خِيَرة الإِنسان وحريته في مجال الحياة من تقديره سبحانه.
4- قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "في كل قضاء الله عز وجل خيرة للمؤمن"4.
5- وهذا أمير المؤمنين، باب علم النبي يوضح لنا مكانة التقدير بالنسبة إلى الاختيار. روى الأصْبَغ بن نُباتة أن أمير المؤمنين عليه السَّلام عَدَل من حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أمير المؤمنين أتَفرّ من قضاء الله؟ قال: "أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل"5.
6- لما انصرف أمير المؤمنين عليه السَّلام من صفين أقبل شيخ فجثا بين يديه ثم قال له: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام، أبقضاء الله وقدره؟ فقال: أجل يا شيخ، ما علوتم من تلعة ولا هبطتم من واد إلاَّ بقضاء من الله وقدر. فقال الشيخ: عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين. فقال أمير المؤمنين:مه يا شيخ!فوالله لقد عَظّم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين. فقال الشيخ: كيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفن. فقال أمير المؤمنين: أوَ تظن أنَّه كان قضاءً حتماً، وقدَراً لازماً؟ إنَّه لو كان كذلك لبطل الثَّواب والعقاب، والأمر والنهي، والزَّجر من الله تعالى، وسقط معنى "الوعد والوعيد" ولم تكن لائمة للمذنب، ولا مَحْمَدَةٌ للمحسن، ولكان المُذْنِب أولى بالإِحسان من المحسن، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب. وتلك مقالة إخوان عَبَدَةَ الأوثان، وخصماء الرحمان، وحزب الشيطان، وقَدَرِيّة هذه الأُمة ومجوسها (قد أطلق الإِمام لفظ القدرية هنا على مثبتي القدر لا نفاته على خلاف ما اشتهر بين المتكلمين). وإنَّ الله كلف "تخييراً" ونهى "تحذيراً" وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً ولم يُطَعْ مكرهاً، ولم يملك مفوّضاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاً، ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار6.
7- وقال أمير المؤمنين عندما سئل عن القضاء والقدر: "لا تقولوا وكلهم الله إلى أنفسهم فتوهنوه، ولا تقولوا أجبرهم على المعاصي فتظلموه، ولكن قولوا الخير بتوفيق الله والشر بخذلان الله، وكلّ سابقٌ فبعلم الله"7. والعجب كل العجب من الدكتور علي سامي النشار الّذي نقل الحديث في كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإِسلام، ج 1، ص 411، عن كتاب المنية لا بن المرتضى، وزعم أنه من موضوعات المعتزلة وأنَّ أسلوب الكلام فيه يمتاز عن أسلوب علي عليه السَّلام. ولكنه غفل عن أن الحديث منقول في كتب السلف من الشيعة الذين لا يمتّون إلى المعتزلة ولا إلى غيرهم من الفرق بصلة، وللتفصيل مجال آخر.
8- وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام: "ما غلا أحد في القدر إلاَّ خرج من الإِسلام". وفي نسخة "من الإِيمان"8.
9- كتب الحسن بن أبي الحسن البصري إلى الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما يسأله عن القدر، فكتب إليه: "فاتبع ما شرحت لك في القَدَر ممّا أُفضي إلينا أهل البيت، فإنه من لم يؤمن بالقَدَر خيره وشره فقد كفر، ومن حمل المعاصي على الله عز وجل فقد افترى على الله افتراء عظيماً، إنَّ الله تبارك وتعالى لا يطاع بإكراه، ولا يُعصى بغَلَبة ولا يُهمِل العباد في الهلكة، لكنه المالك لما ملكهم، والقادر لما عليه أقدرهم. فإن ائتمروا بالطاعة، لم يكن الله صادّاً عنها مبطئاً، وإن ائتمروا بالمعصية فشاء ان يَمُنّ عليهم فيحول بينهم وبين ما ائتمروا به فعل. وإن لم يفعل فليس هو حملهم عليها قسراً، ولا كلفهم جبراً بل بتمكينه إياهم بعد إعذاره وإنذاره لهم واحتجاجه عليهم، طوقهم ومكنهم وجعل لهم السبيل إلى أخذ ما إليه دعاهم، وترك ما عنه نهاهم جعلهم مستطيعين لأخذ ما أمرهم به من شيء غير آخذيه. ولترك ما نهاهم عنه من شيء غير تاركيه، الحمد لله الّذي جعل عباده أقوياء لما أمرهم به ينالون بتلك القوة، وما نهاهم عنه. وجعل العذر لمن يجعل له السبيل حمداً متقبلاً فأنا على ذلك أذهب وبه أقول. والله وأنا وأصحابي أيضاً عليه وله الحمد"9.
10- وقال الإِمام الصادق عليه السَّلام: "كما أنَّ بادئ النعم من الله عز وجل وقد نحلكموه، كذلك الشرّ من أنفسكم وإن جرى به قدره"10.
11- وقال الإمام الرضا عليه السَّلام ، فيما يصف به الربّ: "لا يجور في قضية، الخلق إلى ما علم منقادون، وعلى ما سطر في كتابه ماضون، لا يعملون خلاف ما علم منهم، ولا غيره يريدون"11.
فقد صدّر كلامه عليه السَّلام بقوله: "لا يجور في قضيته"، أي لا يكون جائراً في قضائه. وهو نفس القول بأنَّ القضاء لا يجعل الإنسان مكتوف الأيدي. وأمَّا قوله: "لا يعملون خلاف ما علم منهم" فلا يلازم الجبر، إذ فرق بين أن يقول "لا يعملون خلاف ما علم"، وقوله "لا يعملون خلاف ما علم منهم". فإنَّ الثاني ناظر إلى أنَّ علمه لا يقبل الخطأ، وأنَّ علمه بأفعال العباد لا يتخلف، ولكن المعلوم له سبحانه هو صدور كل فعل من فاعله بما احتفَّ من المبادئ;من الإختيار أو ضده. وسيوافيك تفسيره.
هذا هو المأثور عن النبي الأعظم وأهل بيته الطاهرين، فالكل يركزون على أنَّ القضاء والقَدَر لا يسلبان الحرية عن الإنسان. ولأجل اشتهار علي وأهل بيته في هذا المجال بهذا، قيل من قديم الأيام:"الجبر والتشبيه أمويان، والعدل والتَّوحيد علويان".
نعم وجد بين الصحابة من قال بهذا القول متأثراً بما سمعه من النبي الأكرم أو صحابته الوعاة ونأتي في المقام ببعض النماذج من هذه الكلمات:
12- روى الطبري في تاريخه: "وَقِدمَ عُمَر بن الخطاب الشام فصادف الطَّاعون بها فاشياً، فاستشار الناس فكل أشار عليه بالرجوع وأن لا يدخلها إلاَّ أبا عبيدة ابن الجراح فإنه قال: "أتفرّ من قدر الله" قال: "نعم، أفرّ من قدر الله بقدر الله إلى قدر الله، لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!" فما لبث أن جاء عبد الرحمن بن عوف فروى لهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "إذا كنتم ببلاد الطَّاعون فلا تخرجوا منها، وإذا قدمتم إلى بلاد الطاعون فلا تدخلوه". فحمد الله على موافقة الخبر لما كان في نفسه وما أشار به الناس وانصرف راجعاً إلى المدينة"12.
ترى أنَّ الخليفة مع أنه كان يعتقد بخلاف ذلك على ما أثر عنه في غزوة حنين كما سيأتي لا يرى الاعتقاد بالقضاء والقدر مخالفاً لكون الإِنسان ممسكاً إرادته أو مرخياً لها في الدخول إلى بلاد الطاعون.
وروى ابن المرتضى في طبقات المعتزلة عن عدة من الصحابة جملاً تحكي عن كونهم متحيزين في مسألة القضاء والقدر إلى القول بالاختيار وإليك بعض ما نقله عنهم، قال:
13- وقد أُتي عمر بسارق فقال: لِمَ سرقت؟ فقال قضى الله عليّ. فأمر به فقطعت يده وضرب أسواطاً، فقيل له في ذلك، فقال:القطع للسرقة والجلد لما كذب على الله13.
14- وقيل لعبد الله بن عمر يا أبا عبد الرَّحمن إنَّ أقواماً يزنون ويشربون الخمر ويسرقون ويقتلون النفس ويقولون: كان في علم الله فلم نجد بداً منه، فغضب ثم قال:سبحان الله العظيم، قد كان ذلك في علمه إنهم يفعلونها ولم يحملهم علم الله على فعله14.
15- روى مجاهد عن ابن عباس أنَّه كتب إلى قراء المجبرة بالشام: أما بعد، أتأمرون الناس بالتقوى وبكم ضل المتقون، وتنهون الناس عن المعاصي وبكم ظهر العاصون. يا أبناء سلف المقاتلين، وأعوان الظالمين، وخزان مساجد الفاسقين، وعمّار سلف الشياطين، هل منكم إلاَّ مفتر على الله يحمل إجرامه عليه وينسبها علانية إليه..
ولعل وجه افترائهم على الله سبحانه هو تعليل أعمالهم الإِجرامية بسبق علمه سبحانه عليها، فصوروا أنفسهم مجبورين ومسيرين، فرد عليهم ابن عباس بما قرأت.
هذه هي الكلمات المأثورة عن النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين وبعض الصحابة ولكن تجاه هؤلاء جماعة يرون القضاء والقدر هو العامل المؤثر في الحياة، وأنَّ الإِنسان مكتوف اليدين في مصيره ومسيره. وليست تلك الفكرة مختصة ببعض المسلمين، بل القرآن الكريم يحكيها عن بعض المشركين....
*الإلهيات، آية الله جعفر السبحاني، مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2، ص157-164
1- الصراط المستقيم، ص 32.
2- بحار الأنوار، ج 5، باب القضاء والقدر، ذيل الحديث 31، ص 105.
3- المصدر نفسه، الحديث الأول، ص 87.
4- التوحيد للصدوق ذيل الحديث الحادي عشر، ص 371.
5- التوحيد للصدوق، ص 369.
6- التوحيد للصدوق، ص 380، ح 28. وهذا الحديث الّذي نقلناه ذكره الكليني المتوفّى عام 329 هـ في كافيه، والشيخ الصدوق المتوفّى عام 381 ه. في توحيده، والشريف الرضي المتوفّى عام 406 في نهج البلاغة. وما أفرغه عليه السَّلام في هذه الخطبة لا يمتاز عن سائر خطبه وكلمه.
7- بحار الأنوار ج 5، باب القضاء والقدر، ج 16، ص 95.
8- المصدر نفسه، ح 60، ص 120.
9- المصدر نفسه، ح 71، ص 123.
10- المصدر نفسه، ح 42، ص 114.
11-المصدر نفسه، ح 25، ص 101.
12- تاريخ الطبري، ج 3، ص 606 ذكره في حوادث عام 17.
13- طبقات المعتزلة لأحمد بن يحيى بن مرتضى، ص 11، طبعة بيروت 1380.
14- المصدر السابق، ص 12.