تفسير القَدَر والقضاء العينيين
العدل
حاصل التقدير العيني أنَّ الموجودات الإمكانية على صنفين: موجود مجرد عن المادة والزمان والمكان، فَقَدَرُهُ هو ماهيته الّتي يتحدد بها وجوده. وبما أنَّ ماهية هذه الموجودات العليا خفية علينا، فنكتفي في بيان تقديرها بلفظ الإمكان والحاجة فكلها مصبوغة بهذه الصبغة ولا تخرج عن هذا الإطار، وتلك كالملائكة والعقول والنفوس.
عدد الزوار: 97
حاصل التقدير العيني أنَّ الموجودات الإمكانية على صنفين: موجود مجرد عن المادة والزمان والمكان، فَقَدَرُهُ هو ماهيته الّتي يتحدد بها وجوده. وبما أنَّ ماهية هذه الموجودات العليا خفية علينا، فنكتفي في بيان تقديرها بلفظ "الإمكان" و"الحاجة" فكلها مصبوغة بهذه الصبغة ولا تخرج عن هذا الإطار، وتلك كالملائكة والعقول والنفوس.
وموجود مادي خلق في إطار الزمان والمكان، فَقَدَرُهُ عبارة عن جميع خصائصه الزمانية والمكانية والكيفية والكمية. وبعبارة أُخرى: حدود وجوده، وخصوصياته الّتي تحف به من بدو تحققه إلى فنائه.
وأما القضاء، فهو عبارة عن الضرورة الّتي تحف وجود الشيء بتحقيق علته التامة بحيث يكون وجوده ضرورياً مقطوعاً به من ناحية علته الوجودية.
وعلى ذلك فكل ما في الكون لا يتحقق إلا بقدر وقضاء أما القدر فهو عبارة عن الخصوصيات الوجودية الّتي تبين مكانة وجود الشيء على صفحة الوجود، وأنَّه من قبيل الجماد أو النبات أو الحيوان أو فوق ذلك، وأنَّه من الوجودات الزمانية، والمكانية إلى غير ذلك من الخصوصيات الّتي تبين وضع الشيء وموضوعه في عالم الوجود.
وأما القضاء، فهو عبارة عن وصول الشيء حسب اجتماع أجزاء علته إلى حد يكون وجوده ضرورياً وعدمه ممتنعاً، بحيث إذا نسب إلى علته يوصف بأنَّه ضروري الوجود.
فلأجل ذلك استعير لبيان مقدار الشيء من الخصوصيات لفظ "القدر"، ولتبيين ضرورة وجوده وعدم إمكان تخلفه، لفظ "القضاء" ولأجل ذلك فسر أئمة أهل البيت عليهم السَّلام القدر بالهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، والقضاء بالإبرام وإقامة العين.
وعلى ذلك فيجب علينا أنْ نبحث عن التقدير والقضاء العينيين اللَّذين أخبر عنهما الكتاب العزيز وقال: ﴿إِنَا كُلَّ شَيْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَر﴾(القمر:49).
وقال سبحانه: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَموَات فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾(فصلت:12).
فلا يوجد على صفحة الوجود الإمكاني شيء إلا بظل هذين الأمرين
1- تقدير وجود الشيء وتحديده بخصوصيات تناسب وجوده، فلا يوجد شيء خالياً عن الحد والتقدير سوى الله تعالى سبحانه.
2- لزوم وجوده وضرورة تحققه بتحقق علته التامة الّتي تضفي على الشيء وصف الضرورة والتحقق.
وإلى ذلك يشير النبي الأكرم بقوله: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة"، وعَدّ منها القدر1..ويشير إليه الإمام الطاهر موسى بن جعفر بقوله: "لا يكون شيء في السماوات والأرض إلاَّ بسبعة" وعدَّ منها القضاء والقدر2.
فالعالم المشهود لنا لا يخلو من تقدير وقضاء.فتقديره تحديد الأشياء الموجودة فيه من حيث وجودها، وآثار وجودها، وخصوصيات كونها بما أنها متعلقة الوجود والآثار بموجودات أُخرى، أعني العلل والشرائط، فيختلف وجودها وأحوالها باختلاف عللها وشرائطها، فهي متشكلة بأشكال تعطيها الحدود الّتي تحدها من الخارج والداخل، وتعيّن لها الأبعاد من عَرْض وطول وشكل وهيئة وسائر الأحوال من مقدار الحياة والصحة والعافية أو المرض والعاهة ما يناسب موقعها في العالم الإمكاني. فالتقدير يهدي هذا النوع من الموجودات إلى ما قدر له في مسير وجوده. قال تعالى: (الذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالذِي قَدَّرَ فَهَدَى) أي هدى ما خلقه إلى ما قُدر له. وقال سبحانه: ﴿مِنْ نُطْفَة خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾(عبس:19-20).
وفي قوله سبحانه:(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ)إشارة لطيفة إلى أنَّ التقدير لا يسلب منه الاختيار، وفي وسع الإنسان أن يبطل بعض التقدير أو يؤيده ويدعمه فيذهب عن نفسه العاهة أو يؤكدها ويثبتها.
وأما قضاؤه، فلما كانت الحوادث في وجودها وتحققها منتهية إليه سبحانه فما لم يتم لها العلل والشرائط الموجبة لوجودها فإنها تبقى على حال التردد بين الوقوع واللاوقوع فإذا تمّت عللها وعامة شرائطها ولم يبق لها إلا أن توجد، كان ذلك من الله قضاءً وفصلاً لها من الجانب الآخر وقطعاً للإبهام.
يقول السيد الطباطبائي رحمه الله: "إنا نجد الحوادث الخارجية والأُمور الكونية بالقياس إلى عللها والأسباب المقتضية لها على إحدى الحالتين فإنها قبل أن تتم عللها الموجبة لها وقبل أن تتم الشرائط وترتفع الموانع الّتي يتوقف عليها حدوثها، لا يتعين لها التحقق والثبوت.
فإذا تمت عللها الموجبة لها، وكملت ما تتوقف عليه من الشرائط وارتفاع الموانع، خرجت من التردد والإبهام وتعين لها أحد الطرفين وهذا هو القضاء وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: ﴿فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(غافر:68).
وقال سبحانه: ﴿قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾(يوسف:41)"3.
وبذلك يظهر أنَّ التقدير، بمعنى إفاضة الحد على الشيء، والقضاء بمعنى إفاضة الضرورة على وجود الشيء، من صفاته الفعلية سبحانه، وإليه يشير الإمام الصادق عليه السَّلام في قوله: "إنّ القَضاءَ والقَدَرَ خَلْقانِ مِنْ خَلْقِ الله واللهُ يزيد في الخَلْق ما يَشاء"4.
وإنما يكون القضاء والقدر مخلوقين لله تعالى من حيث إنَّ وجود أيّةِ ظاهرة يكون ملازماً مع قَدَرها الّذي يعطي لها الحد والمقدار، ويخصّصها بشكل خاص كما يكون ملازماً مع القضاء الّذي هو ضرورة وجودها من قبل علتها فخالق الشيء خالق قدره وخالق قضائه.
التقدير مقدَّم على القضاء
إذا كان التقدير بمعنى تحديد وجود الشيء والحدّ الّذي يتحدد به فهو مقدَّم على القضاء بمعنى ضرورة وجوده، لأن الشيء إنما يتحدد، بكل جزء من أجزاء العلة فإن كل واحد منها يؤثر أثره في المعلول على حدته. فحيث إن أجزاء العلَّة تتحقق قبل تمامها، وكل جزء منها يؤثر أثره في محيطه، ويكون أثره تحديد الموجود وصبغه، يجب أنْ يكون التقدير مقدماً على القضاء فصانع الطائرة يهيء لمصنوعه قِطَعاً وأجزاءً صناعية مختلفة، كل منها من صُنع مَصْنع، ثم تركب هذه الأجزاء بعضها مع بعض، فيصل إلى حد القضاء، فتكون طائرة تحلق في السماء.
ومثله الثوب المخيط، فإنَّ هناك عوامل مختلفة تعطيه صورة واحدة، مثل تفصيل القميص، والخياطة الخاصة، وغير ذلك من الخصائص الّتي تحدد الثوب قبل وجود العلَّة التامة.
وفي ضوء هذا البيان يمكن أنْ يقال: إذا كان الشيء موجوداً مادياً، وكانت علته علة مركبة من أجزاء، فتقديره مقدم على قضائه حيث إنَّ تأثير الجزء مقدم على تأثير الكل.وأما الموجودات المجرّدة المتحققة بعلّة بسيطة، فالتقدير والقضاء العينيان فيها يكونان في آن واحد فإن الخلق والإيجاد، الّذي هو ظرف القضاء، هو نفس ظرف التقدير والتحديد.
وبهذا يتضح سر تأكيد الإمام عليه السَّلام على تقدم القَدَر على القضاء.
روى البرقي في المحاسن بسنده عن هشام بن سالم قال:قال أبو عبد الله عليه السَّلام:"إنَّ الله إذا أراد شيئاً قدّره، فإذا قدّره قضاه، فإذا قضاه أمضاه"5.
وروى أيضاً بسنده عن محمد بن إسحاق قال:قال أبو الحسن ليونس مولى علي بن يقطين:"يا يونس لا تتكلم بالقدر، قال:إني لا أتكلم بالقدر، ولكن أقول: لا يكون إلا ما أراد الله وشاء وقضى وقدر. فقال: ليس هكذا أقول، ولكن أقول: لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى"6.
بقي هنا نكتتان هامتان يجب التنبيه عليهما
الأُولى: قد عرفت عناية النبي وأئمة أهل البيت عليهم السَّلام بالإيمان بالقدر، وأنَّ المؤمن لا يكون مؤمناً إلا بالإيمان به، فما وجه هذه العناية؟
والجواب: إنَّ التقدير والقضاء العينيين من شعب الخلقة، وقد عرفت أنَّ من مراتب التوحيد، التوحيد في الخالقية وأنه ليس على صفحة الوجود خالق مستقل سواه.ولو وصفت بعض الأشياء بالخالقية، فإنما هي خالقية ظليّة تنتهي إلى خالقيته سبحانه، انتهاء سلسلة الأسباب والمسببات إليه.
ولما كان القدر العيني، تأثر الشيء عن علله وظروفه الزمانية والمكانية، وانصباغه بصفة خاصة فهو نوع تخلّق وتكوّن للشيء فلا محالة يكون المقدِّر والمكوِّن هو الله سبحانه.
ولما كان القضاء العيني، هو ضرورة تحققه ولزوم وجوده، فهو عبارة أُخرى عن الخلقة الواجبة اللازمة، فلا محالة يستند إليه سبحانه.
فلأجل ذلك ترى أنه سبحانه تارة يسند التقدير إلى نفسه ويقول: ﴿قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَىْء قَدْراً﴾(الطلاق:3) ويقول: ﴿الذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾(الأعلى:2- 3).
وأخرى يسند القضاء ويقول: ﴿فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(البقرة:117) ويقول: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَموَات فِي يَوْمَيْنِ﴾(فصلت:12).
فبما أنَّ التقدير والقضاء عبارة أُخرى عن كيفية الخلقة، فلا يوجد شيء في صفحة الوجود إلا بهما، وإلى ذلك يشير ما تقدم من الإمام الصادق عليه السَّلام من قوله:"إنَّ القَضاءَ والقَدَرَ خَلْقان مِنْ خَلْقِ اللهِ واللهُ يَزيدُ في الخَلْقِ ما يَشاء"7.
الثانية: إن كون التقدير والقضاء العينيَّين منه سبحانه لا يلازم كون الإنسان مسلوب الاختيار، لأن المفروض أنَّ الحرية والاختيار من الخصوصيات الموجودة فيه، فالله سبحانه قدر وجوده بخصوصيات كثيرة منها كونه فاعلاً بالاختيار مقابل الفواعل الطبيعية الّتي لا تفعل إلا عن جبر طبيعي.
كما أنه سبحانه إذ قضى بأفعال الإنسان فإنما قضى على صدورها منه عن طريق المبادئ الموجودة فيه الّتي منها الحرية والاختيار. فقضى قضاءً تكوينيّاً بصدور فعل الإنسان منه عن اختياره وحريته التامة. وعلى ذلك فكون التقدير والقضاء العينيَّين منه سبحانه لا يسلب الاختيار عن فاعل مختار مثل الإنسان.
نعم، لو قدره بغير هذه الخصوصية وقضى على صدور فعله منه لا عن هذا الطريق، لكان لما توهم مجال. هذان هما التقدير والقضاء العينيَّان وهناك معنى آخر للعيني من القضاء والقدر يستفاد من آيات كثيرة، والمعنيان غير متزاحمين، غير أنا نعبر عن المعنى الأول بالقضاء والتقدير العينيَّين الجزئيَّين، وعن الآخر بالعينيَّين الكلّيَّين. وإليك بيان ذلك القسم الآخر:
القضاء والقَدَر العينيَّان الكليَّان
إن وجودالسُّنن الإلهية السائدة على الكون والمجتمع الإنساني وعلى أفراده ممّا لا يُنكر، كما أنَّ تأثير هذه السنن في السعادة والشقاء أمر قاطع لا يتخلف. وعلى ذلك فالسُّنن الإلهية الواردة في الكتاب والسُّنّة، أو الّتي كشف عنها الإنسان عبر ممارساته وتجاربه، كلها من تقديره وقضائه سبحانه. والإنسان تجاه هذه النواميس والسنن السائدة حُرّ مختار، فعلى أيّة واحدة منها طبَّق حياته يرى نتيجة عمله، وإليك المثال:
إنَّ التقدير الإلهي على أُمة يعيش أكثرها في الفقر والحرمان، وقليل منها بالغنى والرفاه عن طريق الظلم والتعدّي على حقوق الآخرين، هو أن لا ترى الطائفة المُرَفّهة الراحة ولا الهناء بل لا تعيش إلا حياة القلق والاضطراب خوفاً من ثورة الكادحين وحذراً من بطشة المحرومين.
بينما تقديره تعالى على أُمة تعيش آلام المحرومين وآمال الكادحين وتهيّئ لهم الحياة اللائقة بهم وتقلل من غلواء الطبقات المرفهة لصالح الفقراء، وتأخذ منهم حقوقهم الّتي جعلها الله لهم (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالَْمحْرُومِ)، هو أن يعيشوا عيشة الثبات والاستقرار والرُّقي والتقدم والتحرك والبناء.
وهذان التقديران واضحان محسوسان يستوي فيهما جميع أُمم العالم وليس هناك عامل خارج عن إطار اختيار الأُمّة وإرادتها، يجبرها على اختيار أحدهما، فالأُمّة إمّا أن تتبع العقل والحكمة، أو تتبع الغرور والشهوة. وكل تصل إلى النتيجة الّتي تترتب على عملها، والكل بقضاء الله تعالى فإنه هو الّذي أودع في الكون هذه السنن وجعل الناس أحراراً في اختيار سلوك أحد الطريقين.
فإذا كان ما مرّ من المثال راجعاً إلى سُنَّة إلهيَّة في حق المجتمع فهناك سنن راجعة إلى كل فرد من أفراد المجتمع مثلاً:الشاب الّذي يبدأ حياته بإمكاناته الحرة وأعصابه المتماسكة، وذكائه المعتدل، فإما أنْ يصرف تلك المواهب في سبيل تحصيل العلوم والفنون والكسب والتجارة، فمصيره وتقديره هو الحياة السعيدة الرغيدة.
وإمَّا أنْ يسيء الاستفادة من رصيده المادي والمعنوي ويصرفه في الشهوات واللذات الزائلة، فتقديره هو الحياة الشقيّة المظلمة.
والتقديران كلاهما من الله تعالى والشاب حر في اختيار أحد الطريقين والنتيجة الّتي تعود إليه، بقضاء الله وقدره. كما أنَّ له أن يرجع أثناء الطريق فيختار بنفسه تقديراً آخر ويغيّر مصيره، وهذا أيضاً يكون من تقدير الله عزّ وجلَّ فإنه هو الّذي خلقنا وخيّرنا وأقدرنا على الرجوع وفتح لنا باب التوبة.
وإليك مثالاً ثالثاً: المريض الّذي يقع طريح الفراش أمامه تقديران:
1- إما أنّ يرجع إلى الأطباء الخبراء ويعمل بالوصفة الّتي تعطى له، فعندئذ يكون البُرء والشفاء حليفه.
2- أو يهمل نفسه ولا يشاور الطبيب أو لا يتناول الدواء فاستمرار المرض والداء حليفه.
والتقديران كلاهما من الله تعالى والمريض حُرّ في اختيار سلوك أي الطريقين شاء. وأنت إذا نظرت إلى الكون والمجتمع والحياة الإنسانية تقدر على تمييز عشرات من هذه السنن السائدة، وتعرف أنها كلها من تقاديره سبحانه. والإنسان حرّ في اختيار واحد منها.ولأجل ذلك نرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "خمسة لا يستجاب لهم: أحدهم مرّ بحائط مائل وهو يُقبل إليه، ولم يسرع المشي حتى سقط عليه"8.
والسر في عدم استجابة دعائه واضح، لأن تقديره سبحانه وقضاءه على الإنسان الّذي لا يقوم من تحت ذلك الجدار المائل هو الموت وبذلك تقف على مغزى ما روي عن علي أمير المؤمنين عندما عدل من حائط مائل إلى حائط آخر، فقيل له يا أمير المؤمنين: أتفرّ من قضاء الله؟ فقال عليه السَّلام:أفرّ من قضاء الله إلى قدره عز وجل9، يعني أنَّ ذلك باختياري فإن شئت بقيت في هذا القضاء وإنْ شئت مضيت إلى قدر آخر. فإن بقيت أُقْتل بقضاء الله، وإنْ عدلت أبقى بتقدير منه سبحانه، ولكل تقدير مصير، فأيهما فعلت فقد اخترت ذلك المصير.
ثم إنَّ في القرآن الكريم آيات كثيرة بصدد بيان السنن الإلهية السائدة على المجتمع الإنساني الّتي تَعُدّ الكل من تقديره وقضائه سبحانه، والمجتمع محكوم بنتائج هذه السنن حكماً قطعياً وقضاءً باتّاً، ولكن له الاختيار في سلوك أي طريق شاء.ولأجل إيقافك على بعض هذه السنن التي تعد من القضاء والقدر العينيَّين الكليَّين نشير إلى بعضها:
السنن الإلهية في المجتمع البشري
ننقل في هذا الباب بعض الآيات الّتي تنص على قوانين كلية وسنن إلهية سائدة على المجتمع البشري من غير فرق بين مجتمع وآخر وإنما المهم هو اختيار أحد جانبي تلك السنن.
1- قال سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء نوح: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً *وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَال وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّات وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ﴾(نوح:10-12).
فترى أنَّ نوحاً عليه السَّلام يجعل الاستغفار سبباً مؤثراً في نزول المطر وكثرة الأموال وجريان الأنهار، ووفرة الأولاد. وإنكار تأثير الاستغفار في هذه الكائنات أشبه بكلمات الملاحدة.وموقف الاستغفار هنا موقف العلة التامة أو المقتضي بالنسبة إليها والآية تهدف إلى أنَّ الرجوع إلى الله وإقامة دينه وأحكامه يسوق المجتمع إلى النظم والعدل والقسط وفي ظله تتركز القوى على بناء المجتمع على أساس صحيح، فتصرف القوى في العمران والزراعة وسائر مجالات المصالح الاقتصادية العامة، كما أنّ العمل على خلاف هذه السنّة، وهو رجوع المجتمع عن الله وعن الطهارة في القلب والعمل، ينتج خلاف ذلك.
فللمجتمع الخيار في التمسك بأهداب أي من السنتين، فالكل قضاء الله وتقديره.
2- قال سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَات مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(الأعراف:96).
3- قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرعد:11).
4- وقال سبحانه: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾(الأنفال:53).
والتقرير في مورد هذه الآيات الثلاث مثله في الآية السابقة عليها.
5- وقال سبحانه: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾(إبراهيم:7).
نرى أنَّ الآية تتكفل ببيان كلا طرفي السُّنة الإلهية إيجاباً وسلباً وتبين النتيجة المترتبة على كل واحد منهما.والكل قضاؤه وتقديره والخيار في سلوكهما للمجتمع.
6- وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾(الطلاق:2-3).
7- وقال سبحانه: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ﴾(إبراهيم:27).
فالمجتمع المؤمن بالله وكتابه وسنة رسوله إيماناً راسخاً يثبته الله سبحانه في الحياة الدنيا وفي الآخرة، كما أنَّ الظالم والعادل عن الله سبحانه يخذله الله سبحانه ولا يوفقه إلى شيء من مراتب معرفته وهدايته.ولأجل ذلك يرتب على تلك الآية قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ *جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾(إبراهيم:28-29).
8- وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ﴾(الأنبياء:105).
فالصالحون لأجل اتصافهم بالصلاح في العقيدة والعمل، يغلبون الظالمين وتكون السيادة لهم، والذلة والخذلان لمخالفيهم.
9- وقال سبحانه: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَني لاَ يُشْرِكُونَ بي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(النور:55).
فالاستخلاف في الأرض نتيجة الإيمان بالله والعمل الصالح وإقامة دينه بتمام معنى الكلمة ويترتب عليه وراء الاستخلاف ما ذكره في الآية من التمكين وتبديل الخوف بالأمن.
10- وقال سبحانه: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾(محمد:10).
والآيات الواردة حول الأمر بالسير في الأرض والاعتبار بما جرى على الأُمم السالفة لأجل عتوهم وتكذيبهم رسل الله سبحانه، كثيرة في القرآن الكريم تبين سنته السائدة على الأُمم جمعاء.
11- وقال سبحانه: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾(آل عمران:137).
12- وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾(الأنفال:29).
13- وقال سبحانه: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّة بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾(غافر:4-6).
فالآية من أثبت الآيات المبينة لسنته تعالى في الذين كفروا فلا يصلح للمؤمن أن يغره تقلبهم في البلاد وعليه أن ينظر في عاقبة أمرهم كقوم نوح والأحزاب من بعدهم، حتى يقف على أنَّ للباطل جولة وللحق دولة، وأن مردّ الكافرين إلى الهلاك والدمار.
14- وقال سبحانه: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً * اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّءِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾(فاطر:42-43)10.
وما ذكرنا من الآيات نبذة من السنن الإلهية السائدة على الفرد والمجتمع. وفي وسع الباحث أن يتفحص آيات الكتاب العزيز ويقف على سننه تعالى وقوانينه، ثم يرجع إلى تاريخ الأُمم وأحوالها فيصدِّق قوله سبحانه: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾(فاطر:43).
فقد خرجنا بهذه النتائج
1- إنَّ التقدير العينيّ عبارة عن الخصوصيات والمشخّصات الموجودة في وجود الشيء المكتسبة من علله. والقضاء ضرورة وجوده عند وجود علته التامة، والكل مُنْتَه إلى الله سبحانه إنتهاء الأسباب والمسبَّبات إلى مسببها الأوّل.
وإنَّ هذا التقدير والقضاء من شعب الخلقة فمقتضى التوحيد هو القول بأنَّّه لا مقدر ولا قاضي إلا الله سبحانه.
2- إنَّ الاعتقاد بهذا النوع من التقدير والقضاء لا ينتج مسألة الجبر، كما أنّ الاعتقاد بالتوحيد في الخالقية لا ينتجه.
3- إنَّ ما مضى من القضاء والقدر العينيَّين إذا كان راجعاً إلى خصوصيات وجود الشيء وضرورة وجوده الخارجي فَلْيُسَمَّ بالجزئي منهما.وإذا كان تقديره وقضاؤه على الإنسان والمجتمع بصورة تسنين قوانين كلية واسعة لا تتخلف في حق فرد دون فرد أو مجتمع دون مجتمع، فَلْيُسَمَّ بالتقدير والقضاء العينيَّين الكليَّين. وتصويب هذه السنن وإعطاء الاختيار إلى الإنسان المختار، نفس القول بحريته في معترك الحياة.
*الإلهيات، آية الله جعفر السبحاني، مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2، ص183-196
1- البحار، ج 5، ص 87، ح 2.
2- المصدر نفسه، ص 88، ح 7.
3- الميزان ج 13 ص 72 بتلخيص.
4- التَّوحيد، ص 364.
5- المحاسن، ص 243- 244. ورواه المجلسي في البحار، ص 121، الحديث 64.
6- المحاسن، ص 244.ورواه المجلسي في البحار، ص 122، الحديث 69.
7- التوحيد، ص 364، الحديث 1.
8- بحار الأنوار، ج 5، باب القضاء والقَدَر، ذيل الحديث 31، ص 105.
9- التَّوحيد للصدوق، ص 369.
10- وراجع في الوقوف على هذه الآيات المبينة لسننه الكلية في الأُمم السالفة الآيات التالية:يوسف:109، الحج:46، الروم:9 و42، فاطر:44، غافر:120 و82، الأنعام: 11، النَّحل:36، النَّمل:69، العنكبوت:20.