يتم التحميل...

الجبر والاختيار

العدل

إن التوحيد في التأثير الإستقلالي من المعارف القيمة والتي لها تأثير كبير في تربية الناس وبناء شخصيتهم، وقد أكد القرآن الكريم عليه كثيرا ووفر بتعابير وأساليب مختلفة، الأرضية المناسبة لفهمه الصحيح والسليم، ومن جملة هذه التعابير إناطة كل الظواهر بإذن اللهومشيئته وإرادته وقضائه وقدره...

عدد الزوار: 100

المقدمة
إن التوحيد في التأثير الإستقلالي من المعارف القيمة والتي لها تأثير كبير في تربية الناس وبناء شخصيتهم، وقد أكد القرآن الكريم عليه كثيرا ووفر بتعابير وأساليب مختلفة، الأرضية المناسبة لفهمه الصحيح والسليم، ومن جملة هذه التعابير إناطة كل الظواهر بإذن الله ومشيئته وإرادته وقضائه وقدره.

وأولئك الذين حرموا الرشد العقلي اللازم، أو لم يحاولوا الإستفادة والإقتباس من تعاليم الأئمة المعصومين، والمفسرين الحقيقيين للقرآن الكريم، عرضت لهم الكثير من الإنحرافات والشبهات، ففسروا ذلك بحصر كل تأثير وعلية بالله تعالى، وأنهم  خلافا لصراحة الكثير من الآيات القرآنية المحكمة نفوا أي تأثير وعلية للأسباب والوسائط، وإعتقدوا بأن "عادة " الله جرت بأن يوجد الحرارة عقيب وجود النار، أو أنه يوجد الشبع والإرتواء بعد أكل الطعام وشرب الماء، وإلا فليس للنار أو الطعام أو الماء أي تأثير في وجود الحرارة أو الشبع أو الارتواء والنتائج الخطيرة والسيئة لمثل هذا الإنحراف الفكري إنما تتضح فيما لو درسنا آثارها في مجال الأفعال الإختيارية للإنسان ومسؤوليته، فإن نتيجة هذا اللون من التفكير، تتمثل في إسناد افعال الإنسان للّه تعالى بصورة مباشرة، ونفي فاعلية الإنسان وتأثيره في افعاله، نفيا مطلقا، وفي هذه الحالة لا يكون أي أحد مسؤولا عن أفعاله.

وبعبارة أخرى: إن من النتائج الخطيرة والمضلة لهذا الإنحراف الفكري، هو القول بجبرية الإنسان، ونفي المسؤولية عنه، وهو يعني نفي أهم خاصة وميزة للإنسان، وعبثية وعدم فائدة كل الأنظمة التربوية والأخلاقية والقانونية والحقوقية، ومنها النظام التشريعي الإسلامي.

ذلك لاننا لو سلبنا الإختيار عن الإنسان على أي فعل من أفعاله، لما بقي موضوع للمسؤولية والوظيفة والأمر والنهي والتكليف والجزاء والثواب والعقاب، بل لإستلزم عبثية النظام التكويني وعدم غائيته، ذلك أن الهدف من خلق عالم الطبيعة  كما تدل عليه الآيات الكريمة (آل عمران:47) والأحاديث الشريفة والبراهين والأدلة العقلية هو الإعداد وتوفير الأرضية الملائمة لخلق الإنسان، ليتوصل من خلال فعالياته وممارساته وافعاله الاختيارية وعبادته، وعبوديته للّه تعالى، إلى أرفع الكمالات الإمكانية، ومقام القرب الإلهي ليكون مؤهلا لإفاضة الألطاف والإمدادات الإلهية الخاصة عليه، أما لو رفضنا إختيار الإنسان وأنكرنا مسؤوليته، فلا يكون مستحقا للحصول على الثواب والنعم الخالدة والرضوان الإلهي، وبذلك سينتقض الهدف من الخلق وينهار، ليتحول نظام الخلق إلى مسرح كبير يلعب فيه الناس دور الدمى التي تتحرك وتلعب أدوارها بدون إرادة وإختيار، وتحدث فيها بعض الحركات والافعال بدون إرادة منها، ولكن بعد ذلك سوف ينال البعض العقاب والمذمة، وينال البعض الآخر الثواب والثناء!

إن أهم العوامل التي أدت إلى إتساع هذا الاتجاه الخطير والمنحرف، هو المطامع السياسية للحكومات الجائرة المجرمة، لتوجه وتبرر بمثل هذه المعتقدات تصرفاتها ومواقفها المنكرة، ولتفرض على الشعوب غير الواعية الإذعان لسلطانها وتقبل حكوماتها، دون أن تتحرك الجماهير المسحوقة للثورة والإنتفاضة بوجه هذه السلطات المجرمة وحقا يلزم علينا أن نعتبر الجبرية أهم عامل في تخدير الشعوب.

وهناك من تنبه لنقاط الضعف في هذا الإتجاه، ولكن بما أنهم لا يملكون الرشد العقلي والقدرة الفكرية على التوفيق بين التوحيد الكامل ونفي الجبرية، ولم يحاولوا الإقتباس من تعاليم أهل بيت العصمة والطهارة سلام الله عليهم أجمعين، فقد إتجهوا إلى الإعتقاد بالتفويض، وقالوا بخروج الأفعال الإختيارية للإنسان عن نطاق الفاعلية الإلهية، وإبتلوا هم أنفسهم بنوع آخر من الأمراض والإنحرافات الفكرية، وحرموا من المبادى والتعاليم الإسلامية، ومعطياتها السامية.

ولكن أولئك الذين كانوا يملكون الإستعداد والرشد الفكري الكافي الذي يؤهلهملإدراك هذه المعارف، وفهمها، وتعرفوا على المعلمين والمفسرين الحقيقيين للقرآن الكريم، وانتهلوا منهم، فإنهم حفظوا من الإصابة بمثل هذه الأمراض والإنحرافات فمن جهة: اعتقدوا بأن فاعليتهم الاختيارية مستمدة من القدرة التي منحها الله تعالى لهم، وبترتب المسؤولية عليها، ومن جهة أخرى: أدركوا التأثير الإستقلالي الإلهي في مرتبة أعلى وأسمى فتوصلوا من خلال ذلك إلى معطيات هذه المعرفة المثمرة.

ونجد في الأحاديث التي وصلتنا من أهل بيت النبي صلى الله عليه و سلم أحاديث قيمة ومثمرة في هذا المجال، وقد ذكرت في كتب الحديث في الأبواب المعنونة بعنوان الإستطاعة ونفي الجبر والتفويض، وكذلك في أبواب الإذن والمشيئة والإرادة والقضاء والقدر الإلهي وهناك بعض الأحاديث نهي فيها بعض الأفراد غير المؤهلين عن الخوض في مثل هذه المسائل الدقيقة، والبحوث الصعبة، حتى لا يصيبهم الإنحراف والإشتباه.

توضيح الإختيار
إن القدرة على اتخاذ القرار والإختيار والإنتخاب من الأمور التي يدركها الإنسان ويجزم بها، ولعلها أكثر الأمور والمعارف يقينا للإنسان، فإن كل واحد منا يدركها في ذاته وداخله بعلمه الحضوري الذي لا يخطئ ولا يشتبه كما يدرك بمثل هذا العلم سائر حالاته النفسية، وحتى لو شك في شي‏ء فإنه لا يشك في شكه هذا، فإنه يدرك "شكه" هذا بالعلم الحضوري، ولا يمكن أن يتردد في هذا الإدراك.

وكذلك كل أحد يدرك بأدنى تأمل في داخله وأعماق ذاته بأنه قادر على التكلم بكلام، وعدم التكلم، أو أنه قادر على تحريك يده وعدم تحريكها، أو قادر على تناول الطعام وعدم تناوله.

إن التصميم على القيام بعمل، تارة يتم لأجل إشباع الدوافع الغريزية والحيوانية، أمثال الجوع الذي يدفع الإنسان إلى إرادة أكل الطعام أو الظامئ الذي يدفعه العطش إلى العزم على شرب الماء، وتارة أخرى يتم لأجل إرضاء الدوافع والاحتياجات العقلية، وتحقيق الطموحات الإنسانية الرفيعة كالمريض الذي يستعمل الدواء المر، لأجل الحصول على السلامة والشفاء، ويمتنع لأجل ذلك عن تناول الأغذية الشهية، أو طالب العلم الذي يعرض، في سبيل تحصيل العلم وإكتساب الحقائق، عن الملذات المادية، ويتحمل ألوان المتاعب والمصاعب، والجندي الباسل الذي يضحي حتى بروحه في سبيل الوصول إلى تطلعاته السامية.

وفي الواقع إنما تظهر قيمة الإنسان حينما تتعارض وتتزاحم الرغبات المختلفة، والإنسان من أجل الوصول إلى الفضائل الأخلاقية والكمالات الروحية والأبدية والقرب والرضوان الإلهي، يعرض عن الرغبات الحيوانية المنحطة الوضيعة، وكل عمل يمارسه الإنسان وفق إختيار ووعي أكثر، هو أكثر تأثيرا في تكامله الروحي والمعنوي، أو هبوطه وإنحطاطه وأكثر إستحقاقا للثواب والعقاب ومن الواضح أن القدرة على مواجهة الرغبات النفسية، ليست بدرجة واحدة في جميع الأفراد وبالنسبة لكل شي‏ء ولكن كل إنسان يملك هذه الموهبة الإلهية (الإرادة الحرة)، قليلا أم كثيرا، ويمكن له  بالتدريب والتمرين  تقويتها وتنميتها أكثر فأكثر.

إذن فلا نتردد أبدا في وجود الإرادة والإختيار، ويلزم أن لا تؤدي الشبهات المختلفة إلى تردد الأذهان في مثل هذا الأمر الوجداني والبديهي، فإن وجود الإختيار كأصل بديهي تتقبله وتؤمن به كل الأنظمة التربوية والأخلاقية والأديان والشرائع السماوية أما لو لم نعتقد بوجوده، فلا يبقى مجال ومبرر للوظيفة والتكليف والذم والمدح والعقاب والثواب. والذي أدى إلى الشك والترديد في هذه الحقيقة البّينة والبديهية، والاتجاه إلى الجبرية، هو وجود بعض الشبهات التي يتحتم الجواب عنها حتى لا يخطر مثل هذا الترديد في الأذهان، ومن هنا نتعرض وبإيجاز لمناقشة أهم هذه الشبهات.

مناقشة شبهات الجبريين
إن أهم شبهات الجبريين ما يلي

1- إن إرادة الإنسان إنما تتكون وتتشكل بفعل إثارة الميول لا أن وجود هذه الميول خاضع لإختيار الإنسان، ولأن إثارتها بفعل العوامل الخارجية، إذن فلا يبقى مكان ومجال للإرادة والإختيار.

والجواب: إن الميول معدة للإرادة لا أن التصميم والإرادة على القيام بعمل، نتيجة جبرية وحتمية لإثارة الميول، بحيث تسلب منه القدرة على المخالفة والمقاومة، والشاهد عليه، أنه تحدث في الكثير من المجالات حالة الترديد والشك في الإنسان، بحيث يحتاج في إتخاذ القرار إلى التأمل وموازنة النفع والضرر في العمل، وأحيانا لا يتم إتخاذ القرار إلا بصعوبة.

2- لقد ثبت في مختلف العلوم أن هناك عوامل عديدة لها تأثيرها في تشكل إرادة الإنسان أمثال الوراثة، وإفرازات الغدد (ألتي تحدث نتيجة لتأثير المواد الغذائية أو الأدوية الخاصة)، وكذلك العوامل المحيطية والإجتماعية وان إختلاف الناس في مواقفهم وسلوكهم، خاضع لإختلاف هذه العوامل . والملاحظ أيضا أن النصوص الدينية تدعم من قريب أو بعيد أمثال هذه الآراء إذن فلا يمكن القول بأن أفعال الإنسان منبثقة من الإرادة الحرة. والجواب: أن الإعتقاد بالإختيار والإرادة الحرة، لا يعني رفض هذه العوامل وتأثير، بل إنما يعني أنه بالرغم من وجود كل هذه العوامل، فإن للإنسان الخيار والقدرة على المقاومة والمخالفة وحين تتعارض وتتزاحم الدوافع المختلفة، نجد أن له القدرة على إختيار بعضها.

وبطبيعة الحال، هناك بعض العوامل القوية التي يصعب مقاومتها، حيث يكون إختيار عمل يخالف متطلباتها، صعبا جدا ولكن مثل هذه المقاومة والإختيار الصعب أكثر تأثيرا في تكامل الإنسان، وفي إستحقاقة للثواب ومضاعفته، كما أنه أحيانا تكون بعض حالات الهيجان والإنفعالات الحادة، أو بعض الظروف الصعبة سببا في تخفيف العقاب، أو تضاؤل درجة الجريمة.

3- ومن شبهات الجبريين، أن الله تعالى عالم بكل ظواهر العالم والكون، ومنها أفعال الإنسان قبل وقوعها، والعلم الإلهي لا يقبل الخطأ والتخلف، إذن فلابد أن تتحقق كل الظواهر وفق العلم الإلهي الأزلي، ولا يمكن تخلفها عنه، إذن فلا يبقى مجال لإختيار الإنسان.

والجواب: أن العلم الإلهي متعلق بكل ظاهرة بما هي عليه في الواقع، والأفعال الإختيارية معلومة للّه تعالى بما هي عليه في الواقع، وبوصف إختياريتها وإراديتها فإذا حدثت هذه الأفعال على صفة الجبرية، تكون قد تحققت على خلاف العلم الإلهي وتخلفت عنه.

فمثلاً: ان الله تعالى يعلم بأن الشخص الفلاني وفي ظروف معينة سيصمم على القيام بعمل ما، وانه سيحقق ذلك العمل. والعلم الإلهي لم يتعلق هنا بمجرد وقوع العمل وبغض النظر عن صدوره بإرادة الفاعل وإختياره، بل تعلق بالفعل بما أنه يصدر عن إختيار الإنسان إذن فالعلم الإلهي الأزلي لا ينافي إختيار الإنسان وإرادته الحرة.

*دروس في العقيدة الاسلامية ، إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية. ط1، ص72-78

2009-07-31