يتم التحميل...

تفسير التقدير والقضاء

قيد الدراسة2

تفسير التقدير والقضاء: قد عرفت من البحوث السابقة أنَّ القضاء والقدر من الأُصول المُسَلَّمة في الكتاب والسنَّة وليس لمسلم واع أن يُنْكِر واحداً منهما.إلاَّ أنَّ المشكلة في توضيح ما يراد منهما، فإنه المزلقة الكبرى في هذا المقام.ولأجل ذلك نأتي في هذا الباب بالمعنى الصحيح.

عدد الزوار: 104

 تفسير التقدير والقضاء

قد عرفت من البحوث السابقة أنَّ القضاء والقدر من الأُصول المُسَلَّمة في الكتاب والسنَّة وليس لمسلم واع أن يُنْكِر واحداً منهما.إلاَّ أنَّ المشكلة في توضيح ما يراد منهما، فإنه المزلقة الكبرى في هذا المقام.ولأجل ذلك نأتي في هذا الباب بالمعنى الصحيح لهذين اللَّفظَيْن الّذي يدعمه الكتاب، وأحاديث العترة، وبراهين العقل السليم. أما القدر، فالظاهر من موارد استعماله أنَّه بمعنى الحَدّ والمقدار وإليه تشير الآيات التالية: يقول سبحانه: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا(الرعد:17). ويقول سبحانه: ﴿قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَىْء قَدْراً(الطلاق:3). ويقول سبحانه: ﴿وَاللهُ يُقَدِّرُاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ(المُزَّمِل:20). ويقول تعالى: ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَر مَعْلُوم(الحِجْر:21).

قال ابن فارس: "القَدْر بفتح الدال وسكونه حَدُّ كل شيء ومقداره وقيمتُه وثمنه، ومنه قوله تعالى: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) أي قدر بمقدار قليل"1. قال الراغب: "القَدَر والتقدير تبيينكمية الشيء يقال قَدَرْتُهُ وَقَدّرْتُهُ وقَدّرَه بالتشديد: أعطاه القُدْرَة فتقدير الأشياء على وجهين: أحدهما بإعطاء القدرة (وهذا خارج عن موضوع البحث)، والثاني بأن يجعلها على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسب ما اقتضت الحكمة"ثم قال: "إنّ فعل الله تعالى ضربان: ضرب أوجده بالفعل، ومعنى إيجاده بالفعل أنَّه أبدعه كاملاً دفعة واحدة لا تعتريه الزيادة والنقصان إلى أن يشاء أن يفنيه أو يبدله كالسَّماوات وما فيها(الصحيح أنْ يمثل بالمُجَرّدات عن المادة فإنَّ تقديرها هو اتصافها بالإمكان من دون أن يطرأ عليه التغيير والتبدّل وأما السَّماوات فتغيّرها أمر بديهي).

ومنها ما جعل أُصوله موجودةبالفعل وأجزاءه بالقوة وقدّره على وجه لا يتأتى منه غير ما قدّره فيه كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون التفاح والزيتون، وتقدير مِنيّ الإنسان أن يكون منه الإنسان دون سائر الحيوانات وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْء قَدْراً(الطلاق:3)وقوله: ﴿إِنَا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَر(القمر:49). وقوله: ﴿مِنْ نُطْفَة خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ( عبس:19)"2. إلى هنا وقفت على معنى القَدَر حسب اللّغة. وأما القضاء، فقد ذكروا له معاني كثيرة، حتّى أنَّ الشيخ المفيد قال باستعمالها في معاني الخلق، والأمر والإعلام، والقضاء بالحكم، واستشهد لكلامه بآيات قرآنية"3.وقال العلامة الحلّي باستعماله في معاني عشر، واستدل لكل معنى بآية4.  والظاهر أنّه ليس له إلا معنى واحد، وما ذكر من المعاني كلها مصاديق معنى واحد وأول من تنبه لهذه الحقيقة هو اللغوي المعروف أحمد بن فارس بن زكريا يقول: "القضاء أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته قال الله تعالى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَموَات فِي يَوْمَيْنِ)أي أحْكَم َخلقهن...إلى أنْ قال: والقضاء الحكم قال الله سبحانه في ذكر من قال: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض) أي إصنع وأحْكِم ولذلك سمي القاضي قاضياً لأنّه يُحكم الأحكام ويُنفذها وسميت المنية قضاءً لأنَّها أمر ينفذ في ابن آدم وغيره من الخلق". وقال الراغب الاصفهاني: "القضاء فصل الأمر قولاً كان ذلك أو فعلاً، وكل واحد منهما على وجهين: إلهي وبشري، فمن القول الإلهي: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ الاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ(الإسراء:23) للبشري: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ(البقرة:200)"5.

ولا يخفى إنّ ما ذكره ابن فارس أدّق ومجموع النصين من العلمين يرجع إلى أنَّ أي قَول أو عَمَل إذا كان متقناً محكماً، وجاداً قاطعاً، وفاصلاً صارماً لا يتغير ولا يتبدل، فذلك هو القضاء. هذا ما ذكره أئمة اللغة، وقد سبقهما أئمة أهل البيت ففسروا القدر والقضاء على النحو التالي: روى الكليني بسنده إلى يونس بن عبد الرحمن عن أبي الحسن الرضا عليه السلام وقد سأله يونس عن معنى القدر والقضاء؟ فقال: "هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، والقضاء هو الإبرام وإقامة العين"6. روى البرقي في محاسنه عن أبيه عن يونس عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: "قال: قلت: ما معنى "قدر"؟ قال: تقدير الشيء من طوله وعرضه، قلت: فما معنى "قضى"؟ قال: إذا قضى أمضاه فذلك الّذي لا مَرَدَّ له"7.

روى البرقي في محاسنه أيضاً بإسناده عن محمد بن إسحاق قال: قال أبو الحسن الرضا عليه السلام ليونس مولى علي بن يقطين: "وَتَدري ما "قدر"قال: لا.قال: هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء.ثم قال: إنَّ الله إذا شاء شيئاً أراده، وإذا أراده قدَّره، وإذا قدّره قضاه، وإذا قضاه أمضاه"8. وأنت إذا أمعنت النظر في مفاد هذه الروايات تقدر على تمييز ما يرجع فيها إلى التقدير والقضاء الكليين عمّا يرجع إلى العينيين منهما ولأجل ذلك تركنا التصنيف فيها. فإذا اتّضح ما ذكرناه، فلنرجع إلى تفسير ما تهدف إليه الآيات والروايات، وقد عرفت أنَّ كلاًّ من التقدير والقضاء على قسمين: علمي وعيني. فلنقدم البحث في العيني منهما ثم نبحث عن العلمي منهما لأنَّ استنتاج الجبر ربما يترتب عند القائل به على العلمي.



1- المقاييس، ج 5، ص 63.
2- مفردات الراغب، مادة "قدر"، ص 409، تحقيق نديم مرعشلي، ط دار الكتاب العربي.
3- شرح تصحيح الاعتقاد، ص 19.
4- كشف المراد، ص 195، طبعة صيدا.
5- مفردات الرغب، مادة قضى، ص 421.
6- الكافي ج 1، ص 158.ورواه الصدوق في توحيده بتغيير يسير.
7- المحاسن، ص 244.ونقله المجلسي في البحار، ج 5، ص 122، الحديث 68.
8- المصدر نفسه، ص 244.ورواه المجلسي في بحاره، ج 5، ص 122، الحديث 69.
2009-07-30