الحب في الله والبغض في الله في الروايات
قيد الدراسة2
التولّي والتبرّي في الرّوايات الإسلاميّة: وَردت أحاديثٌ مستفيضةٌ في هذا الصّدد، سواء عن طريق أهلِ السُّنة أو الشّيعة، وطَرحت موضوع التبرّي والتولّي بقوّة، وأكّدت عليه بصورة شديدة، قلّما نَجِدُ لها نظيراً، بالنّسبة إلى المواضيع الاُخرى.
عدد الزوار: 97
التولّي والتبرّي في الرّوايات الإسلاميّة:
وَردت أحاديثٌ مستفيضةٌ في هذا الصّدد، سواء عن طريق أهلِ السُّنة أو الشّيعة، وطَرحت موضوع التبرّي والتولّي بقوّة، وأكّدت عليه بصورة شديدة، قلّما نَجِدُ لها نظيراً، بالنّسبة إلى المواضيع الاُخرى.
ولا شَكَّ أنّ هذه الأهميّة، نابعةٌ من المعطيات الإيجابيّة الكِثيرة، لِمسألة التّولي لأِولياء الله، والبراءة من أَعداءِه تعالى، حيث توثّق عُرى الإيمان وأواصِر المحبّة والصّداقة، مع أولياء الله تعالى، وتُعمّق حالةَ الإبتعاد والنّفور من الظّالمين الفاسقين، وتنعكس هذه النّتائج على إيمان الشّخص وأَخلاقه وتَقواه، من موقع القوّة والصّفاء والإمتداد في واقع الإنسان ومحتواه الداخلي، وتحثّ هذه الأحاديث النّاس، على إختيار القُدوة الصّالحة في عمليّة السّير والسّلوك، في طريق الله سبحانه وتعالى.
ونُشير هنا إلى مجموعة من الأحاديث الشّريفة، في هذا المجال، جمعت من كُتب مُختلفة:
1- قال عليٌّ عليه السلام في خطبته القاصعة، وفي وصفه للرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ مِنْ لَدُنْ أَنْ كانَ فَطِيماً أَعَظَمَ مَلَك مِنْ مَلائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طِرِيقَ الَمكارِمِ وَمَحاسِنَ أَخلاقِ العالَمِ، لَيلَهُ وَنَهارَهُ وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ إِتِّباعَ الفَصِيلِ أَثَرَ اُمِّهِ يَرْفَعُ لي في كُلِّ يِوم مِنْ أَخلاقِهِ عَلَماً وَيَأَمُرُني بِالإِقتِداءِ بِهِ"1.
ويبيّن هذا الحديث، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسهُ كان له من يرشده ويهديه، ولديه القدوة الحسنة على شكل ملك من ملائكة الله العِظام.
وكذلك الإمام علي عليه السلام، جعل من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قدوةً له، فكان يتبعه في كلّ اُموره وحركاته وسكناته، فيتعلم منه كلّ يوم أمراً جديداً، عِلماً مفيداً، وأخلاقاً نبيلةً.
فلّما كان كُلٌّ من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام، يحتاجان إلى القُدوة الحسنة، في بداية المسير إلى الله، فكيف بحال الباقين؟
2- الحديث المعروف:
"بُنِي الإسلام..."، الذي وَرد من طُرق متعدّدة عن المَعصومين، ومنها ما ورد عن زُرارة عن الباقر عليه السلام، أنّه قال: "بُني الإِسلامُ عِلى خَمْسَةِ: عَلَى الصَّلاةِ وَالزَّكاةِ والحَجِّ وَالصَّومِ وَالولايَةِ"، قَالَ زُرارَةُ، فَقُلتُ: وَأَيُّ شَيء مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ؟، فَقالَ: الوَلايَةُ أَفْضَلُ لاَنّها مِفتاحُهُنَّ وَالوالي هُوَ الدَّلِيلُ عَليهِنَّ"2.
ومن هذا الحديث يُستفاد، أنّ الإقتِداء بالقُدوة الصّالحة، يعين الإنسان على إحياء سائر البرامج، الدينية والمسائل العباديّة الفردية والإجتماعيّة، وهي إشادةٌ واضحةٌ بدور الولاية، في مسألة تهذيب النّفوس وتحصيل مكارم الأخلاق.
3- عن الإمام الصّادق عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: "أيُّ عُرَى الإِيمانِ أَوثَقُ؟، فَقَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، وَ قَالَ بَعْضُهُم الصَّلاة، وَقَالَ بَعْضُهُم الزَّكاةُ، وَقَالَ بَعْضُهُم الصِّيامُ، وَقَالَ بَعْضُهُم الحجُّ والعُمْرَةُ، وَقَالَ بَعْضُهُم الجِهادُ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَكُلِّ ما قُلْتُم فَضْلٌ وَلَيسَ بِهِ، وَلَكِنْ أَوثَقُ عُرَى الإِيمانِ الحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ وَتَوَلِّي أَولِياءِ اللهِ وَالتَّبَرِّي مِنْ أَعداءِ اللهِ"3.
وقد حرّك الرّسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، أذهان أصحابه بهذا السّؤال. وهكذا كانت سيرة الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، عندما كان يريد أن يطرح موضوعاً مهمّاً، فبعض منهم أبدى جهله، وبعض منهم قال الصّيام و... ولكن في نفس الوقت، الذي أكّد رسول الله على أهميّة تلك الاُمور في الإسلام، قال: "الحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ".
والتّعبير بكلمة: "عُرى" جَمع "عُروة"، هي بمثابة حلقة الوصل لِلقرب من الله تعالى، وإشارةٌ إلى أنّ السّلوك إلى الله، لا يتمّ إلاّ من خلال التمسّك بهذه العروة، والصّعود بواسطتها إلى مراتب سامية من الكمال المعنوي، وليس ذلك إلاّ لأنّ الحبّ في الله والإقتداء بأولياء الله، عاملٌ مهمٌّ في تسهيل الحركة في جميع إتّجاهات الخير والصّلاح.
وبإحياء هذا الأصل، سوف تنتعش بقيّة الاُصول الدّينيّة، ولكن مع إهماله وترك العمل به، فإنّ سائر الاُصول ستَضعف وتَموت.
4- وفي حديث آخر عن الإمام الصّادق عليه السلام، أنّه قال لجابر الجُعفي رحمه الله:
"إِذا أَرَدتَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ فِيكَ خَيراً فَانظُرْ إِلى قَلْبِكَ فَإنْ كانَ يُحِبُّ أَهْلَ طاعَةِ اللهِ وَيُبْغِضُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ، فَفِيكَ خَيرٌ وَاللهُ يُحِبُّكَ، وَإِنْ كانَ يُبْغِضُ أَهْلَ طاعَةِ اللهِ وَيُحِبُّ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ، فَليسَ فَيكَ خَيرٌ، وَاللهُ يُبْغِضُكَ وَالمَرءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ"4.
وَجُملة: "والمَرء معَ من أحبّ"، هي إشارةٌ جميلةً ولطيفةً إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه العِلاقة ستمتد وتستمر إلى يوم القيامة، وهي دليلٌ واضحٌ على أهميّة مسألة "الوِلاية"، في المباحث الأخلاقيّة.
5- في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"وُدُّ المُؤمِنِ لِلمُومِنِ فِي اللهِ مِنْ أَعْظَمِ شُعَبِ الإِيمانِ، أَلا وَمَنْ أَحَبَّ فِي اللهِ وَأَبْغَضَ فِي اللهِ وَأَعطى فِي اللهِ وَمنَعَ فِي اللهِ فَهُوَ مِنْ أَصفِياءِ اللهِ"5.
6- في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام، أنّه قال:
"إِذا جَمَعَ اللهِ عَزَّوَجَلَّ الأَوَّلِينَ وَالآخَرِينَ، قامَ مُناد فَنادى يُسْمِعُ النّاسَ، فَيَقُولُ: أَينَ المُتَحابُّونَ في اللهِ، قالَ: فَيَقُومُ عُنُقٌ مِنْ النّاسِ، فَيُقالُ لَهُم إِذْهَبُوا إِلَى الجَنَّةِ بِغَيرِ حِساب، قَالَ: فَتَتلَقَّاهُم المَلائِكَةُ فَيَقُولُونَ إِلى أَينَ؟ فَيَقُولُونَ إِلى الجَنَّةِ بِغَيرِ حِساب!، قَالَ: فَيَقُولُونَ فَأَيُّ ضَرْب أَنْتُم مِنْ النّاسِ؟، فَيَقُولُونَ نَحْنُ المُتَحابُونَ فِي اللهِ، قَالَ: فَيَقُولُونَ وَأَيُّ شَيء كانَتْ أَعمالُكُم؟، قَالُوا كُنّا نُحِبُّ في اللهِ وَنُبْغِضُ فِي اللهِ، قَالَ فَيَقُولُونَ، نِعْمَ أَجرُ العامِلِينَ"6.
وتعبير "نِعْمَ أَجرُ العامِلِينَ" يبيّن أنّ المحبّة لأولياء الله والبغض لأعداء الله هو أكبر مصدر للخير في واقع الإنسان والحياة والمانع عن الشر والانحراف في مسيرة التكامل الأخلاقي.
7- وَرد في حديث عن الرّسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم:
"إنَّ حَولَ العَرشِ مَنابِرٌ مِنْ نُور، عَلَيها قَومٌ لِباسُهُم وَوُجُوهُهُم نُورٌ، ليسُوا بِأَنْبِياء يَغْبِطَهُمُ الأَنْبِياءُ وَالشُّهَداءُ، قالُوا يا رَسُولَ اللهِ حَلِّ لَنا، قَالَ: هُم المُتَحابُّونَ في اللهِ وَالمُتَجالِسُونَ فِي اللهِ وَالمُتَزاوِرُونَ في اللهِ"7.
8- وإكمالاً للحديث أعلاه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"لَو أَنَّ عَبدَينِ تَحابا فِي اللهِ أَحَدُهُما بِالمِشْرِقِ وَالآخرُ بِالمَغْرِبِ لَجَمَعَ اللهُ بَينَهُما يَومَ القِيامَةِ وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَفْضَلُ الأَعْمالِ الحِبُّ في اللهِ والبُغْضُ في اللهِ"8.
ويبيّن هذا الحديث، أنّ أوثق العُرى والأواصر في دائرة العلاقات الإجتماعيّة، هي آصرة الدّين التي تُحقّق التّوافق والوئام بين الأفراد، وتدفعهم لِلمحبّة لله وفي الله، وهذه الحالة تؤثّر في النّفوس، من موقع التّزكية والتّهذيب.
9- نقرأ في الحديث القُدسي، قال الله تعالى لموسى عليه السلام:
"هَلْ عَمِلْتَ لي أعَمَالاً؟!، قالَ صَلَّيتُ لَكَ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ لَكَ، قَالَ اللهُ تَبارَكَ وَتعالى، وََأمّا الصّلاة فَلَكَ بُرهانٌ، والصَّومُ جُنَّةٌ والصَّدَقَةُ ظِلُّ، والذِّكْرُ نُورٌ، فَأَيُّ عَمَل عَمِلْتَ لِي؟!، قَالَ مُوسى: دُلَّني عَلى العَمَلِ الِّذى هُوَ لَكَ، قَالَ يا مُوسى هَلْ وَالَيتَ لي وَلِيّاً وَهَلْ عادَيتَ لِي عَدُوّاً قطُّ، فَعَلِمَ مُوسى أنَّ أَفْضَلَ الأَعمالِ، الحُبِّ في اللهِ والبُغْضُ في اللهِ"9.
10- ونختم هذا البحث، بحديث آخر عن الإمام الصّادق عليه السلام، (رغم وجود الكثير من الأحاديث الشّريفة في هذا الموضوع، أنّه قال:
"مَنْ أَحَبَّ للهِ وَأَبْغَضَ للهِ وَأَعْطىْ للهِ وَمَنَعَ للهِ فَهُوَ مِمَّنْ كَمُلَ إِيمانُهُ"10.
ونَستوحي من الأحاديث العشرة الآنفة الذّكر، أنّ الإسلام قد أعطى الأهميّة القُصوى، لمسألة الحُبّ في الله والبغض في الله، وإعتبرها أفضل الأعمال، وعلامة كمال الدّين، وأسمى من: الصّلاة والزّكاة والصّيام والحج والإنفاق في سبيل الله تعالى، ومن يَتَحلّى بهذه الصّفة، يكون مع الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الجنّة، بحيث يغبطه فيها الأنبياء والشّهداء والصّديقين.
فهذه التّعبيرات وغيرها، تبيّن لنا دور وفعّاليّة مسألة التبرّي والتّولّي، في جميع البرامج الدّينية والإلهيّة، ودليل هذا الأمر واضحٌ جدّاً، لأنّ الإنسان المؤمن، عندما يُحِبّ القُدوة الإلهيّةُ والإنسان الكامل، لتقواه وإيمانه وفضائله الأخلاقية، فإنّ ذلك من شأنه، أن ينعكس على روحه وسُلوكه صفاتِ وسلوك هذه القدوة، ويدفعه لِلتأسّي بها في أعماله وحركاته وسَكناته!
وهذا هو بالفعل، ما يَصبو وَيدعو إليه علماء الأخلاق، بإعتباره أصلاً أساسياً في تهذيب وتربية النّفوس، وأنّ الإقتداء بالقُدوة الصّالحة، من شأنه أن يكون شرطاً أساسياً، لأن يسلك بالإنسان طريق الهداية والصّلاح، في خطّ الإيمان والإنفتاح على الله تعالى.
ومن الأدلّة المهمّة، التي أوردها القرآن الكريم، وأكّد عليها رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، هو التّذكير بأَنبياء الله تعالى وأفعالهم وتأريخهم وحياتهم، والغَرض من ذلك كُلّه، الإقتداء بهم وإتّباع سيرتهم.
جديرٌ بالذّكر، أنّ كلّ إنسان يحبُّ البطولات والأبطال، ويحبُّ أن يَقتدي بأحد الأبطال، ليجعله اُسوةً وقدوةً في حياته في جميع أبعاده المختلفة.
عمليّة إنتخاب مثل هؤلاء الأبطال، يؤثر على حياة الإنسان، من موقع صياغة الشّخصية وكيفيّة السّلوك، وعلى فرض حدوثِ تغيّر في نظرة الإنسان نحو القُدوة، فَستتغير حياتُه بالكامل، تَبعاً لها.
والكثير من الأفراد أو الشعوب، لمّا لم يُسعفهم الحظّ في إتخاذ القُدوة الصّالحة، تَوسّلوا بأبطال مزيّفين، كَي يُعوّضوا النّقص الحاصل لديهم في هذا المجال، وأدخلوهم في ثقافتهم وتأريخهم، وألّفوا في سيرتهم الأساطير والحكايات، والبطولات الخياليّة.
والبيئة والدّعاية السّليمة أو المغرضة، لَها دورها في إختيار اُولئك الأبطال، فيُمكن أن يكونوا من رجال الدّين، والسّياسة، أو وجوهٌ رياضيّةٌ أو تمثيليّةٌ.
وهذا الميل البَشري لِلأبطال، والقُدوات الإنسانية، يمكن أن يوجّه بالصّورة الصّحيحة، ويفعّل دوره في تربية الفضائل الأخلاقيّة والسّلوكيات الحسنة، في الحياة الفرديّة والإجتماعيّة.
وبناءً على ذلك، فإنّ الآيات والرّوايات أكّدت على هذه الضّرورة، وهي مسألة التولّي والتّبرّي، وإتّخاذ أولياء الله قدوةً واُسوةً حسنةً، وبدونها ستبقى برامج التّربية والتّهذيب، ناقصة المحتوى والمضمون.
قصّة موسى والخضر:
إتّخاذُ المعلّم والدّليل، في طريق السّير والسّلوك إلى الله تعالى، من الأهميّة بمكان، بحيث أُمِرَ بَعض الأنبياء، في بُرهة من الزّمن، للحُضورَ عند الاُستاذ أو المُرشد.
ومن ذلك قصّة موسى عليهما السلام والخضر، المليئة بالمفاهيم والمضامين العميقة، والتي وَردت في سَورة الكهف، من القرآن المجيد.
فقد اُمِرَ موسى عليه السلام، لأجل إسترفاد بعض العلوم، التي تحمل الجانب العملي والأخلاقي أكثر من الجانب النّظري، أُمِرَ بالذّهاب إلى عالم زمانه، لِيَستقي منه العِلم، وقد عرّفه القرآن الكريم، بأنّه: ﴿عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾(الكهف:65).
فشدّ موسى عليه السلام، الرّحال فعلاً مع أحد أصحابه، متّجهاً نحو المكان الذي يتواجد فيه الخِضر عليه السلام، ومع غَضّ النّظر عَمّا صادفاه في الطّريق إليه، وَصل مُوسى عليه السلام إلى المكان الموعود، فقال له الخِضر عليه السلام: ﴿إِنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعي صَبراً﴾(الكهف:67). ولكنّ موسى عليه السلام وعده بالصّبر.
توالت الأحداث الثّلاثة، واحدة بعد الاُخرى، المعروفة والواردة في القرآن الكريم: أولها خَرق السّفينة الّتي كانوا عليها، فاعترض موسى عليه السلام، وذكّره بخَطر الغَرق لِلسفينة بِمن فيها، فقال له الخِضر: ﴿ألم أَقُل لَكَ إِنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعي صَبراً﴾(الكهف:75), فندم واختار عليه السلام السّكوت، حتى يوضّح له ملابسات الأمر.
ولَم يَمض قليلاً، حتى صادفوا صَبيّاً فقتله، الخِضر عليه السلام مباشرةً من دونِ توضيح ودليل، فهذا الأمرُ المُريع أثارَ موسى عليه السلام مرّةً اُخرى، ونسِيَ ما تَعهّد به، واعترض على اُستاذه بأشدّ من الّتي قَبلها، فقال: ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا﴾(الكهف:74).
ولِلمرّة الثّانية، ذكّر الخِضر موسى عليه السلام بالعهد الذي قطعه على نفسه، وقال له: إذا تكرّر منك هذا العمل لِلمرّة الثّالثة، فسوف تَنقطع العلاقة بيني وبينك، وننفصل في هذا السّفر، فعلم موسى عليه السلام، أنّ في قَتل الغلام سِرّاً مُهمّاً، فآثر السّكوت، ليتّضح له السرّ فيما بعد.
وتَلَتها الحادثة الثّالثة، وقد وردوا في قَرية، فلم يُضيفوهما ولم يعبؤوا بِهما، فَوجد الخِضر عليه السلام جداراً يُريد أن يَنقضّ، فَأقامَه عليه السلام، وطلب العَون من موسى عليه السلام في هذا الأمر، فَرمَّم الجِدار، فضاق موسى ذَرعاً بالأمر، فَصاح: ﴿لَو شِئتَ لَتَّخَذْتَ عَلِيهِ أَجراً﴾(الكهف:77).
فأين يكون موضع التّعامل مع هؤلاء من موقع الرّحمة، مع كلّ تلك القساوة التي واجهوها من أهل تلك القرية؟.
وهنا أعلن الخِضر عليه السلام إنفصاله عن موسى عليه السلام، لأنّه نقض العَهد ثلاثَ مرّات، ولكنّه وقبل الفِراق، أعلمه بالأسرار لتلك الحوادث الثّلاثة، فقال له: إنّ السّفينة كانت لِمساكين، وكان عندهم ملكٌ يأخذ كلّ سفينة سَليمة غَصباً، فَأعَبْتُها كَيْ لا يأخذها منهم، والشّاب المقتول، كان يستحق الإعدام، لأنّه كافرٌ ومرّتدٌ، وكان الخوف على أبويه من موقع التّأثير عليهما، ولئّلا يحملهما على الكفر.
والجِدار كان ليتيمين في المدينة، وكان تَحته كنزٌ لَهُما، وكان أبوهما صالحاً، فأراد ربّك أن يستخرجا كنزهماِ فيما بَعد، ليعيشا بذلك المال، ثم أكدّ عليه أن كلّ ذلك كان بأمر الله تعالى، وليس تصرّفاً من وَحي أفكاري(الكهف:6-80).
رجع بعدها موسى عليه السلام، محّملاً بمعارف وعلوم في غاية الأهميّة.
ونحن بدورنا نستلهم من تلك القصّة، عدّة دروس، منها:
1- العثور على معلّم مطّلع حكيم للتعلّم عنده، والإستنارة من نور علمه، أمرٌ من الأهميّة بمكان، بحيث اُمِرَ رسول من رُسل اُولى العزم بذلك، وقد قطع المسافات الطويلة كي يَدرس عنده، ويقتبس من فَيض علمه.
2- عَدم تعجّل الاُمور، وإنتظار الفرصة المُناسبة، أو كما يُقال: "إنّ الاُمور مرَهونةٌ بِأَوقاتها".
3- الحوادث الجارية حولنا، ربّما تحمل ظاهِراً وباطناً، وعلينا عدم النّظر إلى الظّاهر فقط، لِئلاّ نخطأ في الحكم على الاُمور، من موقع العجلة وعدم التّأنّي، وعلينا الأخذ بنظر الإعتبار بَواطِنها.
4- عدم الإنضباط والإلتزام بالعهود، ربّما يَحرم الإنسان من بعض البركات المَعنويّة إلى الأبد.
5- الدّفاع عن الأيتام والمستضعفين، والوقوف في وجه الظّالمين والكفار، يُعتبر واجباً على المؤمنين، الذين يتحرّكون في خطّ الرّسالة والمسؤوليّة، وقد تُدفع في سبيل ذلك الأثمان الباهظة.
6- أينما وصل الإنسان في مراحل العِلم والرّقي، عليه أن لا يغترّ بعلمه، ولا يتصور أنّه وصل إلى حدّ الكمال، لأنّه قد يتسبب هذا التّصور، في تجميد حركة الإنسان الصّاعدة، والقناعة بما عِنده من العلم.
7- إنّ للهِ تعالى جُنوداً وألطافاً خفيّةً تنصرُ المظلوم، بِطرقه المختلفة، وكلّ إنسان مؤمن، عليه أن يتوقّعها في كلّ لحظة.
وهناك نقاطٌ مفيدةٌ اُخرى أيضاً.
وهذه القصّة سواء كانت تحمل أهدافاً حقيقةً لتعليم موسى عليه السلام، أم أنّها تحمل نِداءات للناس; لكي يتعلموا ويقتدوا بالأعاظم من البشر، لا تختلف عما نحن بصدده.
والخُلاصة: أنّ القدوة والدّليل والاُسوة، هو أمرٌ لابدّ منه للاستزادة من العلوم، وتهذيب النّفوس في خطّ التّكامل المعنوي وبناء الذّات.
* الأخلاق في القرآن (الجزء الأول)، أصول المسائل الأخلاقية، آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي, المؤسسة الإسلامية, الطبعة الثانية/1426ه, قم.
1- نهج البلاغة، الخطبة 192.
2- أصول الكافي، ج2، ص18.
3- أصول الكافي، ج2، ص125، ح6.
4- اُصول الكافى، ج2، ص126.
5- بحار الأنوار، ج66، ص240، ح14.
6- بحارالأنوار، ج 66، ص 245، ح 19، اُصول الكافي، ج 2، ص 126.
7- بحار الأنوار، ج66، ص352، ح32.
8- بحارالأنوار، ج 66، ص 352، ح 32.
9- بحارالأنوار، ج 66، ص 352، ح 32.
10- المصدر السّابق، ص8، ح10.23.