يتم التحميل...

الحب في الله والبغض في الله في القرآن

قيد الدراسة2

القُدوات في خطّ الإستقامة: إشارة: كلّ إنسان يسعى للسّير قُدُماً، تبعاً للاُسوة التي يتأسّى بها، ليواكب معها ويعيش في رحابها، وفي آفاقها الواسعةٌ ولتنعكس صفاتها في نفسه وذاته. وبعبارة اُخرى، فإنّه يوجد في قلب كلّ إنسان، مكانٌ فارغٌ لا يشغله إلاّ الأبطال ولقُدوات والمُثل.

عدد الزوار: 91

القُدوات في خطّ الإستقامة


إشارة:

كلّ إنسان يسعى للسّير قُدُماً، تبعاً للاُسوة التي يتأسّى بها، ليواكب معها ويعيش في رحابها، وفي آفاقها الواسعةٌ ولتنعكس صفاتها في نفسه وذاته.

وبعبارة اُخرى، فإنّه يوجد في قلب كلّ إنسان، مكانٌ فارغٌ لا يشغله إلاّ الأبطال والقُدوات والمُثل، ولهذا السّبب فإنّ الاُمم البشريّةً تفتخر بأبطالها الحقيقييّن أو تخترع لنفسها أبطالاً من اُفق خيالها، بحيث تُشكل قسماً من ثقافة الاُمم والشّعوب، وأنساقاً تحتيّةً تبني عليها تأريخها، فتفتخر ببطولاتهم وتشيد بهم في معطياتهم، وتسعى دائماً لِلاقتداء بهم في صفاتهم وبطولاتهم.

علاوةً على أنّ (المحاكاة)، هي أصلٌ مُسَلّم به، من الاُصول النّفسية في واقع الإنسان وحركته في الحياة، وطبقاً لهذا الأصل والأساس، فإنّ الإنسان يسعى ليصبغ نفسه بصِبغة الآخرين، ويحاكيهم على مستوى الممارسة والسّلوك، خُصوصاً الأبطال، وينجذب لأعمالهم وصفاتهم التي تمثل قيماً مطلقة في وعيه وثقافته.

وهذا التّأثير والتّأثر والجذب والإنجذاب، بالنّسبة إلى الأفراد الذين يؤمنون بالقُدوة والرّمز أقوى أَشد.

وبناء على ذلك، نجد في الإسلام أصلين مهمّين، في دائرة المفاهيم الدينيّة، بإسم "التّولّي" "التبرّي".
أو بعبارة اُخرى: "الحبُّ في الله" و"البغض في الله"، وكلٌّ منهما، يحكي لنا عن حقيقة مهمّة في واقع الإنسان، وتَماشياً مع هذا الأصل المهمّ في دائرة المعتقد، فإنّه يتوجب على الإنسان المسلم، أن يُحبّ من يحبّه الله، ويكره من يُبغضه الله تعالى، وأن يتّخذ من الرّسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، والأئمّة المعصومين عليه السلام، اُسوةٌ له في حركته المنفتحة على الله والحقِّ.

وهذا الأمر بدرجة من الأهمية، بحيث ورد في القرآن الكريم، أنّه من علامات الإيمان، وفي الرّوايات الشّريفة عرّف بأنّه: "أَوثَقْ عُرى الإِيمانِ" وأنّ حركة الإنسان في خطّ الإيمان، لا تكون مثمرةً بدون: "التّولّي" و"التّبرّي"، ومعه سوف تقبل منه سائر العبادات والطّاعات.
وهذين الأمرين، يعني التولّي التبرّي، أو الحب في الله والبُغض في الله، هُما من أهمِّ الخُطى المؤثّرة، على مُستوى تهذيب النّفوس والقلوب، والسّير إلى الله تعالى في خطّ الإستقامة.

وعلى هذا الأساس، نرى أنّ كثيراً من علماء الأخلاق، وأرباب السّير والسّلوك، يؤكّدون على ضرورة اتخاذ الاُستاذ والمُرشد في خطّ التّربية والتّهذيب.

والآن نعرج على الآيات القرآنية، لنستوحي منها ما يتعلق بمسألة التولّي والتبّري، ودورهما في صِياغة السّلوك الدّيني للإنسان:
الآيات:

1 ـ ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ(الممتحنة،4).

2 ـ ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ(الممتحنة،6).

3 ـ ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً(الأحزاب،21).

4 ـ ﴿لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الاِْيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(المجادلة،22).

5 ـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ(لممتحنة،12).

6 ـ ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(التوبة،71)

7 ـ ﴿اللهُ وَلِىُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(البقرة،257).

8 ـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(التوبة،119).


تفسير وإستنتاج:

يتّضح من آيات سورة المُمتحنة، أنّ بعض المؤمنين السّذج، وخلافاً لأوامر الشّريعة وتعليمات الإسلام، كانوا على علاقة سريّة بالأعداء.

وقد جاء في شأن النّزول للآيات الاُولى من هذه السّورة الشّريفة، وقبل فتحِ مكّة المشرّفة أنّه كتب أحد الأشخاص، إسمه "حاطِب بن أبي بلتعة"، لكفّار قريش رسالةً سلّمها بيد إمرأة، إسمها "سارة"، حذّرهم فيها، من أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعدّ العدّة لفتح مكّة، فعليهم أنّ يستعدّوا لِلقتال، فإنّ الرّسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، قادم.

حدثِ هذا الأمر، والرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، يتهيأ ويعدّ العدّة، وهو يسعى حثيثاً لِئَلاّ يصل هذا الخبر إلى المشركين، حرصاً منه على أن لا تُراق في ذلك دماءٌ كثيرةُ، وأن يتمّ الفتح بدون مقاومة، فأخذت هذه المرأة الرّسالة، وأخفتها في جَدائلها، وتحرّكت مسرعةً نحو مكّة.

فأخبر الأمين جبرائيل عليه السلام، الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالخبر، فأرسل على أثرها الإمام علي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال لها: أخرجي ما عندك، فأنكرت في البداية، ولكنّها إستسلمت أخيراً تحت واقع التّهديد بالقتل، وسلّمت الرّسالة لِعلي عليه السلام، وهو بدوره سلّمها لِلرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.

فأمر صلى الله عليه وآله وسلم بإحضار حاطِب ووبّخه كثيراً، فإعتذر حاطب عن فعلته بأعذار واهية، لكنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبلها صوريّاً، فما ورد في الآيات الاُولى، من السّورة هو تحذيرٌ للمسلمين، لإجتناب مثل هذه الأعمال، وبيان واحد من الاُصول والمباديء الإسلاميّة المهمّة، على مستوى التّبري من الأعداء وموالاة الأولياء، أو كما قِيل: "الحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ".

وفي بداية السّورة، تحرّكت الآية الكريمة لتخاطب جميع المؤمنين، من موقع التّحذير، من إقامة العلاقة الودّية والعاطفيّة مع الأعداء، وقالت:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ.

ونعلم أنّه عندما تتقاطع أواصر "المحبّة والصّداقة" مع أواصر ""العَقائد والقِيم"، فالنّصر سيكون حليف أواصر المحبّة والصّداقة، على حساب إهتزاز العقيدة، وبذلك ينحدر الإنسان في خطّ البّاطل، فما نراه من التّأكيد على: "الحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ في اللهِ"، أو تولّي الأولياء والتّبري من الأعداء، نابعٌ من هذا الأساس.

ثمّ تستمر الآيات، "وبالذّات في الآية الرابعة"، على حثّ المسلمين على الإقتداء بإبراهيم النبي عليه السلام، وأصحابه المخلصين، وأنّهم اُسوةٌ حسنةٌ للمؤمنين، الذين يتحرّكون من موقع الرسالة: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ.

الاُسوة "على وزن لُقمة"، تحمل مَعْنىمصدرياً، بمعنى التّأسي والإتّباع للآخرين، وبمعنى آخر هو الإقتداء بالآخرين.

ومن البديهي أنّ هذا الأمر، يمكن أن يكون على مُستوى الفضيلة أو الرّذيلة، ولذلك فإنّ الآية الشّريفة، عبّرت عن إبراهيم عليه السلام بأنّه قدوةٌ حسنةٌ، لأنّه قطع كلّ أواصر المحبة ووشائج الموّدة، التي كانت بينه وبين قومه، في سبيل عقيدته وتوحيده لله تعالى.

يقول "الرّاغب" في "مفرداته"، إنّ كلمة "الأسى" على وَزن (عَصا)، وهي بمعنى الغمّ والألم، فكلمة اُسوةٌ أخذت من هذه المادة، ويقال لِلمصاب بمصيبة: "لكَ بِفلان اُسوةٌ".

ولكنّ بعض أرباب اللّغة، مثل: إبن فارس في "المقاييس"، فصّل بين المعنيين، فقال: "أنّ الأوّل ناقصٌ (واوي)، والثّاني ناقصٌ (يائي)"، وعلى كلّ حال فإنّ القرآن المجيد، حثّ المسلمين على مسألة: "الحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ"، وجعل لهم إبراهيم عليه السلام قدوةً، لأنّ إختيار القدوة الصّالحة لحركة الإنسان، في خطّ التّقوى والإيمان، له دورٌ عميقٌ في طهارة روح الإنسان، وأفكاره وسلوكياته.
وهذا هو ما يؤكّد عليه علماء الأخلاق، في عمليّة السّير والسّلوك إلى الله، فإنّ إختيار القدوة يُعدّ أهمَّ خطوة لحركة الإنسان في طريق الرّقي.

"الآية الثانية": إستمراراً لبحثنا الآنف الذّكر، تتحدث عن إبراهيم عليه السلام وصحبه، فتقول: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ.

وفرق هذه الآية عن الّتي قبلها، في أمرين:

الأوّل: إنّ هذه الآية أكّدت على مسألة: "الحُبُّ في اللهِ وَالبُغْضُ في اللهِ"، بأنّها من علامات الإيمان بالله والمعاد.

الثاني: إنّ التّأكيد على هذا الأمر، لا ينبع من حاجة الباري إليه، بل هو من حاجة الإنسان إليه، في مساره التّكاملي والمعنوي إلى الله تعالى، ولحِفظ سَلامة المجتمع البشري في حركة الواقع والحياة.

"الآية الثّالثة": ناظرةٌ إلى غَزوة الأحزاب، وهي في الحقيقةِ تشيرُ إلى مُلاحظة مُهمّة جِدّاً، ألا وهي: أنّ الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وبالرّغم من الأزمات النّفسية والتّحديات الصّعبة في تلك الظّروف، وسوء ظنّ بعض المسلمين الجدد، بالوعد الإلهي بالنّصر في ميادين الوَغى، فإنّه بَقي صامِداً ينظّر لِلحرب، ويستخدم أفضل التّكتيكات العسكريّة، إنتظاراً لِلّحظة الحاسمة، وكان ينتظر الفُرصة للإنقضاض على عدوّه، فكان يَمزح مع أصحابه ليقوّي من معنوياتهم، وأخذ المِعوَل بنفسه لِيحفُر الخَندق بيده، ويُشجع أصحابه ويذكّرهم بالله تعالى وثوابه، ويبشّرهم بالفتوحات المُقبلة العَظيمة.

وهذا الأمر تَسبّب في تماسك المسلمين، ومقاومتهم أمامَ عدوّهم، وجيشه الجرّار المتفوق عليهم بالعدّة والعَدَد، بالتّالي الإنتصار عليهم، فقال تعالى:

﴿
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً
.

فالرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، لا يُتأَسّى به فقط في ميادين الجِهاد الأصغر، بل وكذلك في ميادين الجِهاد الأكبر، ألا وهو جهاد النّفس والتّصدي لِلأهواء المُضلّة، من موقع المحاربة، فَمن يتّخذِه اُسوةً حسنةً في هذا المضمار، فإنّه سيصل من أقرب الطّرق وأسرعها، إلى غايته وهدفِه المَنشود.

والجدير بالذّكر، أنّ هذه الآية، علاوةً على ذكرها لِمسألة الإيمان بالله واليوم الآخر: ﴿لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ...، أكّدت على ذِكر الله تعالى بجملة: ﴿وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً. فهم يقتدون بقائدهم الربّاني ويستلهمون منه الإيمان، وذِكر الله كثيراً حيث يحرك فيهم الذّكرُ الكثيرِ، عنصر الإهتمام للمسؤوليات التي اُلقيت على عاتقهم، وَمَنْ أَفضل من الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، لِيكون لهم اُسوةً وقدوةً، في خطّ الإلتزام الدّيني والأخلاقي والإنفتاح على الله؟

"الآية الرابعة": نوهت إلى النّقطة المقابلة، ألا وَهَي: البُغض في الله تعالى في خطّ الحقّ، فتقول: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمْ الاِْيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ.

فهذه الآية الشريفة، صرّحت وأرشدت، إلى الطريق التي يجب على المؤمن سلوكها، عند تقاطع الطّرق، وتضارب "العلاقة الإلهيّة" مع "العلاقات الاُسريّة"، فلو أنّ الآباء والإخوة والأقرباء، تحرّكوا في خطّ الباطل والإنحراف والكُفر، فإنّ طريق الله هي الجادّة الحقيقيّة، لِلإلتحاق بالرّكب الإلهي المقدس.

وما ورد في هذه الآية، من قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمْ الاِْيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ.

ليس إلاّ تأكيداً على المعنى المتقدم، وتشجيعاً لذلك الأمرالمهم الحياتي، أي أنّ "الحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ"، نابعٌ من الإيمان، وطريق التّكامل الحقيقي في خطّ الإيمان، السّلوك المعنوي، وبعبارة اُخرى: إنّ هذين الأمرين، يؤثّر أحدهما في الآخر بصورة مُتقابلة، مع فارق واحد، وهو أنّه يجب الإبتداء في عمليّة السّلوك المعنوي، بالإيمان بالمبدأ والمعاد، والتّكامل المعنوي يكون، من حصّة: "الحُبُّ في اللهِ وَالبُغْضُ في اللهِ".

"الآية السّادسة": تطرّقت لأواصر المحبّة المعنويّة بين المؤمنين، وقالت: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

فهذا الرّباط المعنوي، يتّخذ من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وإقام الصّلاة وإِيتاء الزّكاة، وطاعة الله ورسوله، أساساً ودَعامةً في صياغة السّلوك، حيث يعين الفرد، على إستلهام الأخلاق الحَسنة والأعمال النّافعة، من الآخرين، فيكون كلّ واحد منهم اُسوةً للآخر، ومن أراد الإلتحاق بهذه الجماعة، عليه أن يكون مُشابهاً لها في دائرة الفكر والسّلوك، دون الجماعات المنحرفة الضّالة المضلّة، التي يجب عليه البَراءة منها والإبتعاد عنها.

وفي الحقيقة، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يُعدّ عاملاً مُساعداً وفَعّالاً، في عمليّة تهذيب وتربية النّفوس، يدعوهم إلى الإلتزام بالإنضباط الدّيني والأخلاقي، من موقع النّصيحة والتّواصي بالحقّ.

"الآية السّابعة": فرّقت بين المؤمنين والكافرين، على مستوى السّلوك في واقع الحياة، فالمؤمنون يتّخذون من صفات جَماله وجَلاله، اُسوةً لهم في مسيرتهم المعنويّة والأخلاقيّة، والكافرون اُسوتهم الطّاغوت، حيث تكون أعمالهم وصفاتهم إنعكاس لأِعمال وَصفات الطّاغوت، فقالت: ﴿اللهُ وَلِىُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.

فالخروج من الظّلمات إلى النّور، يعتبر نتيجةً وثمرةً لِلإيمان بالله تعالى وولايته، والخروج من النّور إلى الظّلمات، هو من معطيات الطّاغوت وولايته.

لنّور والظّلمة هنا، لهما مفهومٌ واسعٌ جِدّاً، بحيث يستوعبان، جميع الفضائل والقبائح والحسنات والسّيئات.

نَعم، فإنّ الشّخص الذي يعيش في أجواء المَلكوت، وفي ظلّ ولاية "الله"، فإنّه سيبدأ رِحلته وهِجرته، من الرّذائل إلى الفضائل ومن القبائح إلى الجَمال الرّوحي، ومن السّيئات إلى الحسنات، لأنّ صِفات جَماله وجَلاله، هي اُسوته الحقّة في رحلته المعنويّة.

فذاته المُقدّسة، منزّهةٌ عن كلِّ عيب ونقص، وهو الرّؤوف الرّحيم، الجَواد الكَريم، وهكذا يتحرّك نحو التّحلي بالفضائل الأخلاقية الاُخرى، لأنّ هدفه هو وِصال الَمحبوب والمَعبود.
والعَكس صحيحٌ، فإنّ الحركة من الفَضائل إلى الرّذائل هي من شأن عَبدَةِ الطّاغوت والأَوثان، التي لا تنفع في شيء أبداً.

"الآية الثّامنة": خاطبت المؤمنين من موقع النّصيحة، بإلتزام طريق التّقوى وصحبة المؤمنين، وقالت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينٌَ.

في الحقيقة أنّ الجملة الثّانية، في الآية الشّريفة: ﴿كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينٌَ، هي إكمال لِلجملة الاُولى: ﴿اتَّقُوا اللهَ...

نعم، فإنّه يتوجب على السّالك لِطريق التّقوى والزّهد والطهّارة، أن يكون مع الصّادقين وتحت ظلّهم، وقد وَرد في الرّوايات من الطّرفين: السنّة والشّيعة، وفي الكُتب المُعتبرة، أنّ المِصداق الأكمل لهذه الآية، هو الإمام علي عليه السلام، أو أهلَ بيته عليهم السلام.
وهذه الرّوايات، موجودةٌ في كتب، مثل: "الدّر المَنثور لِلسَيوطي" و"المَناقب لِلخَوارِزمي" و"دُرَر السّمطين لِلزرندي" و"شَواهد التّنزيل للحَسَكاني"، وغيرها من الكُتب الاُخرى1.

وكِذلك أوردها: "الحافظ سُليمان القُندوزي" في "يَنابيع المَودّة"، و"العلاّمة الحمويني" في "فَرائد السّمطين"، و"الشّيخ ابو الحَسن الكازروني" في "شَرف النّبي"2.

وقد وَرد في بعض الأحاديث، وبعد نزول الآية الآنفة الذّكر، أنّ سلمان الفارسي رحمه الله، سأل الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وقال له: هل أنّ هذه الآية عامّةٌ أو خاصّةٌ؟، فأجاب النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أَمّا المَأمُورُونَ فَعامَّةُ المُؤمِنِينَ وَأَمَّا الصَّادِقُونَ فَخَاصَّةُ أَخِي عَلِيٌّ وَأَوصِيائُهُ مِنْ بَعْدِهِ إِلى يَومِ القِيامَةِ"3.

ومن الطّبيعي فإنّ إتّباع الإمام علي عليه السلام وأوصياءه، جاريةٌ ومستمرةٌ إلى يومِ القيامة، للإهتداء بِهَديِهِم، والإقتداء بفعالهم وأخلاقهم في حركة الحياة.

النّتيجة:

يُستفاد ممّا ذكر آنفاً، من الآيات التي إستعرضت مسألة "التّولّي والتّبرّي"، أنّ مسألة الوُصول إلى مرتبة القُرب من الذّات المقدّسة، وتولّي أولياءه من عباده الصّالحين، والتّبرّي من الظّالمين والغاوين، وفي كلمة واحدة: "الحُبُّ في اللهِ وَالبُغْضُ في اللهِ"، تعدّ من أهمِّ المسائل والمفاهيم، في دائرة التّعليمات القُرآنية، ولها دورها الكبير وأثرها العميق، في مُجمل المسائل الأخلاقيّة، في حركة الإنسان المعنويّة.

وهذا الأساس القرآني والمفهوم الإسلامي، له دورُه المُباشر في جميع المَسائل الحياتيّة، إن على المستوى الفَردي أو الاجتماعي، الدنيوي أو الاُخروي، لا سِيّما في المسائل الأخلاقيّة والسّلوك الأخلاقي لِلأفراد، في تعاملهم وتَفاعلهم مع الآخرين، في حركة الحَياة والُمجتمع.

فهذه المفردة العقائديّة، في دائرة المفاهيم الإسلاميّة، بإمكانها أن تبني نفوس المؤمنين على إتّباع الصّالحين والطّاهرين، وإتخاذهم اُسوة حسنة، خُصوصاً الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، في كلّ خطوة يخطوها الإنسان المُؤمن في خطّ الإيمان، وبذلك تكون من العوامل المهمّة، للوصول إلى الهدف الحقيقي من وراء خلقة الإنسان، ألا وَهِيَ تهذيب النّفوس وتربية الفَضائل الأخلاقية في واقع النّفس البشريّة.

* الأخلاق في القرآن (الجزء الأول)، أصول المسائل الأخلاقية، آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي, المؤسسة الإسلامية, الطبعة الثانية/1426ه, قم.



1- لِلتفصيل يرجى الرجوع إلى كتب: "نفحات القرآن"، ج 9.
2- المصدر السابق.
3- ينابيع المودة، ص115.
2009-07-30