العبادة والدعاء تصقل مرآة القلب
قيد الدراسة2
الخُطوة التّاسعة: العبادة والدّعاء تصقل مرآة القلب: لأجل التّعرف على دور العِبادة والدّعاء في بناء وتهذيب النّفوس، علينا أولاً التّعرف على حقيقة ومفهوم العبادة والدّعاء. الواقع أنّ الحديث عن هذا الموضوع، طويلٌ وعريضٌ، وقد تناوله العلماءُ، العظماءُ، في كتبهم
عدد الزوار: 123لأجل التّعرف على دور العِبادة والدّعاء في بناء وتهذيب النّفوس، علينا أولاً التّعرف على حقيقة ومفهوم العبادة والدّعاء. الواقع أنّ الحديث عن هذا الموضوع، طويلٌ وعريضٌ، وقد تناوله العلماءُ، العظماءُ، في كتبهم الأخلاقيّة والتفسيريّة والفقهيّة، بصورة مُفصّلة ووافية، ولكن يمكن القول وبإختصار شديد: علينا قبل معرفة حقيقة العبادةِ ومفهومها، أوّلاً أن ندرس مفهوم كلمة "عبد"، وهي الأصل والجَذر اللّغوي، لكلمة: "العِبادة".
"العبُد" لُغة تُطلق على الإنسان، الذي لا حول له ولا قوّة، في مقابِل مولاه، فإرادته تابعةٌ لإرادة مَولاه، ولا يملك شيئاً في عرضِ ما يملكه مولاه، ولا حقَّ له في التّقصير في طاعة سيّده.
وعليه فإنّ العبودية، هي آخر وأقصى مراحل الخُضوع والخُشوع، في مقابل السيّد، حيث إنّ كلّ شيء في حياته يراهُ من هبته وإنعامه وإكرامه، ومن هنا يتبيّن لنا بوضوح، أنّه لا أحد يستحقّ هذه الدّرجة من العِبادة، ويكون مَعبوداً سوى الله تعالى، فهو الفَيض اللاّمتناهي الذي لا ينقطع أبداً.
ومن بُعد آخر، أنّ "العُبوديّة": هي قمّة ونهاية التّكامل المعنوي، للرّوح في حركة التّكامل المعنوي للإنسان، وغايةُ ما يطمح إليه الإنسان، من حالة القُرب من الله تعالى، والتّسليم المُطلق لِلذات المُقدسة، فالعبادة لا تنحصر بالرّكوع والسّجود والقيام والقُعود، بل إنّ روح العِبادة هي التّسليم المطلق لله تعالى، ولذاته المُقدسة والمَنزّهة من كلٍّ عيب ونقص.
ومن البديهي أنّ العبادة، هي أفضل وسيلة للرّقي المعنوي، وتحصيل الكَمال المطلق، في حركة الإنسان والحياة، وتقف حائلاً أمام كلّ رذيلة، فإنّ الإنسان يسعى لِلقُرب من معبوده، لِتَتَجلى في نفسه إشعاعاتٌ من نور قُدسه وجَلاله وجَماله، ويكون مظهراً ومرآةً لصفات الجمال والكَمال الإلهيّة، في واقعه النّفسي وسلوكه العملي.
وفي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: "العبُودِيّةُ جَوهَرَةٌ كُنْهُها الرُّبُوبِيَّةُ"1.
وهو إشارة لتلك الإنعكاسة الربّانية، التي تتجلّى في العبد جرّاء العِبادة الخالصةِ، المنفتحة على الله، حيث يصل بواسطتها إلى درجات من الرّقي والكمال، بحيث يمكنه معها السّيطرة على الكَون، ويكون مصحوباً بالولاية التَّكوينيّة، أو هو: كالحديد الأسود، الذي يحمّر جرّاء مجاورته لِلنار، وهذه الحرارة والنّورانية ليست من ذاته، لكنّها من معطيات تلك النار. ومنها نعود لِلقرآن الكريم، لنستوحي ممّا فيه من آيات حول العبادة، وما لها من دور في تنمية الفضائل الأخلاقية:
1 ـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(لبقرة:21).
2 ـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾( البقرة:183).
3 ـ ﴿وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾(العنكبوت:45).
4 ـ ﴿إِنَّ الاِْنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ﴾(المعارج:19-24).
5 ـ ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾(التّوبة:103).
6 ـ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(الرعد:28).
7 ـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(البقرة:153).
تفسير وإستنتاج:
تتحرك الآيات الآنفة الذّكر، لتؤكّد لنا حقيقةً واحدةً، ألا وهي، أنّ كلّ إنسان يريد الوصول إلى الكمال المطلقُ ويتحرك على مستوى تهذيب النّفس، عليه أنّ يسلك طريق العبادة، فالسّائر في خطّ الإستقامة والتّربية، ولأجل أن يبني نفسه، ويحصل على ملكة التّقوى، عليه أنّ يَعبُد ويَدعو الله تعالى، من موقع العِشق والشّوق ليوفقه في ذلك، ويطلب منه العَون، لإزالة شوائب نفسه، لِتّتصل النّقطة بالبحر، ولِتَنْدَكّ ذاته بالذّات الأزليّة، ويتحول نحاس وجوده، في بوتقة العِشق، إلى ذهب خالص.
هنا تحرّكت "الآية الأُولى"، لتخاطب جميع الناس بدون إستثناء، أن يسلكوا إلى الله من موقع العِبادة، وأرشدتهم لِطريق التقوى، فقالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
والتّأكيد على مسألة الخلقة للأوّلين، لعلها تقع في دائرة تنبيه العَرب الجاهلين، الذين كانوا يستدلون بعبادتهم للأصنام، بسنّة آباهم، فيقول الباري: إنّنا خلقناكم والجِبلّة الأولين، نعم فهو الخالق والمالك لكلّ شيء ولا يستحق العبادة أحدٌ إلاّ هو، وإذا ما توجه الإنسان، حقيقةً نحو الباري تعالى، فستتفتح في جوانحه عناصر الخير والتّقوى، لأنّ ما يوجد من الشّوائب في النفس، إنّما هو بِسبب التّوجه لغير الله، من موقع العبادة الزّائفة.
فهذه الآية تبيّن معالم الرّابطة والعلاقة الوثيقة، بين العبادة التقوى.
وتطرقت "الآية الثّانية"، للحديث عن عبادة مهمّة، وهي الصّوم وعلاقته بالتّقوى، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
ومن المعلوم أنّ الصّوم يُنوّر القلب ويجلوه، بحيث يحسّ معه الإنسان أنّه يعيش القُرب من الحسنات، والبُعد عن السّيئات والقَبائح، والإحصائيات التي ترد في هذا الشّهر من المصادر المختصّة عن الجرائم، تشير إلى أنّها تصل إلى أدنى مستوى، في شهر رَمضان، وأنِّ الشرّطة في هذا الشّهر المُبارك، يتفرّغون لِلأهتمام باُمور اُخرى، إداريّة عالقة بالأشهر الماضية!!.
وهذا الأمر إنّ دلّ على شيء، فهوَ يدلّ على أنّ الإنسان، كلّما إقترب من الله تعالى، في خطّ العبوديّة والطّاعة، فإنّه يبتعد عن الموبقات والآثام، والقبائح بنفس المقدار.
وأشارت "الآية الثّالثة"، إلى علاقة الصّلاة بالنّهي عن الفَحشاء والمنكر، وخاطبت الرّسول الكريم صلى الله عليه وآله، بإعتباره قدوة وأسوة للآخرين، فقالت: ﴿وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾.
"فالفَحشاء والمنكر"، عبارةٌ عَنْ مجموعة الأفعال غير الأخلاقيّة، التي تنبع وتنشأ من الصّفات الأخلاقيّة، والنّزعات الشّريرة الموجودة في مطاوي النّفس البشرية، حيث تؤثّر بدورها في سلوك الإنسان، وتفرز الأخلاق الظاهريّة لَه، و"الصّلاة" تمثّل أَداةَ ردع لتلك الأخلاق المنحرفة، في دائرة السّلوك، لأنّ الأذكار والأدعية، تعمل على تهذيب النّفس، وترويضها وتطويعها في طريقِ الخَير والصّلاح، وحالة القُرب من الباري تعالى، هذه هي التي تتولى إبعاد الإنسان عن منبع الشّر والرّذيلة، الذي هو عبارةٌ عن هوى النّفس وحبّ الدنيا، من خلال الإنفتاح على آفاق المَلكوت، لِتَغرف نفسه من أنوار القُدس، وترتفع به إلى عالم الخلودِ والكَمالِ المُطلق.
فالمصلّي الحقيقي سيبتعد عن الفحشاء والمنكر لا محالة، لأنّ الصّلاة والعِبادة تَصون النّفس من المنكرات، وتحول دون إختراق الرذائل للنّفس الإنسانية، وتعمل على تَفعيل عناصر الخَير، في أعماق الوِجدان.
وتحدّثت "الآية الرابعة" عن حالة الجَزع والبخل، اللّذان هما من السجّايا الوضيعة في واقع الإنسان، وخُصوصاً الجَزع في حالة سيطرة المشكلات والشّرور، والبُخل في حالة إنفتاح أبواب الثّراء أمام الإنسان، وإستثنت الآية المصلّين، وقالت: ﴿إِنَّ الاِْنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ﴾.
فهذه الآيات الكريمة، تبيّن لنا بصورِة جيدة، أنّ التّوجه لله تعالى، والسّير في خطّ العبادة والدُّعاء والمناجات، له دورٌ هامّ في مَحو الرّذائل الأخلاقيّة، من قبيل البُخل والجّزع من واقع النّفس. وتشيرُ "الآية الخامسة"، إلى تطهير النّفس، بواسطة "الزّكاة"، والتي بدورها تُعتبر، من العبادات الإسلامِيَّةِ المُهِمَّةِ، في ديننا الحنيف، فتقول: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾. وجُملة: "تُزكيّهم به"، هي دليلٌ واضحٌ على هذه الحقيقة، وهي أنّ الزّكاة تعمل على تطهير النفس، من البَخل والحِرص وحُبِّ الدنيا، وتزرع في نفسه صفة الكرم، وحبّ الخير لِلناس، وتثير في نفسه الحركة، على مستوى حمِاية الفقراء والمحتاجين.
وما ورد من روايات في هذا الصدد، تبيّن هذه الحقيقة أيضاً، ومنها الحديث النبوي الشريف: "ما تَصَدَّقَ أَحَدُكُم بِصَدَقَة مِنْ طَيِّب "وَلا يَقْبَلُ اللهُ إلاّ الطّيِّبَ"، إلاّ أَخَذَها الرَّحمانُ بِيَمِينِهِ وَإِنْ كانَتْ تَمْرَةً فَتَربُو مِنْ كَفِّ الرَّحمانِ في الجِنان حَتّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الجَبَلِ"2.
هذا الحديث الشّريف يبيّن تلك العلاقة الوثيقة المباشرة، بين هذه العبادة المهمّة وبين توطيد العلاقة مع الله تعالى، وتفعيل الحالات المعنوية في واقع الإنسان ومحتواه الداخلي. وتتحرك "الآية السّادسة"، من موقع الإشارة إلى عبادة مهمّة اُخرى، وهي عبادة: "الذِّكر"، للهِ تعالى، وما لَها من دور في بعث الطّمأنينة، في واقع الرّوح فتقول: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾. فالطّمأنينة تقترنُ دائماً مع التّوكل على الباري تعالى، وعدم الوقوع في أسر الماديّات والاُمور الدنيويّة، من الإنخداع بِبَريق الدُنيا، والطّمع والبُخل والحَسد وما شابهها من الاُمور، فَمع وجود هذه الحالات السّيئة في واقع النفس، فسوف لن يذوق الإنسان معها الرّاحة والطّمأنينة.
وعليه، فإنّ ذكر الله تعالى بإمكانه إزالة هذه الصّفات السّلبية عن القلب، وتطهير النّفس منها لِتَتَهيأ الأرضيّة المساعدة، في تَفتّح براعم السّكينة والطّمأنينة في واقع القلب والرّوح. أو بتعبير أدق، إنّ جميع الإضطرابات الرّوحية، وأشكال القلق النّفسي، في واقع الذّات البشريّة، ناشئة من هذه الرّذائل الأخلاقيّة، وستزول وتقلع جذورها بذكر الله، الذي يعمل على تسكين روح الإنسان، وتجفيف مصادر القلق هذه، لِتحل محلّها السّكينة والهدوء النّفسي3.
وأخيراً تناولت "الآية السّابعة"، دور الصّلاة والصّيام في رفع المعنويات، وتقوية عناصر الخير في وجدان الإنسان: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
وقد فسّرت بعض الرّوايات الإسلاميّة الصّبر بالصيام4، من حيث كون الصّوم أحد المَصاديق البارزة لِلصبر، وإلاّ فالصّبر له مفهومٌ وسيعٌ يشمل كلّ أنواع المُقاومة، والتّحدي لِلأهواء النّفسانية والوساوس الشيطانية، في طريق طاعة الله تعالى، وكذلك تَستوعب الآية حالة الصّبر على المصائب والمحن، التي تصيب الإنسان في حركة الواقع.
وقد وَرد في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه كلّما أهمّه شيءٌ إندفع مُسرعاً نحو الصّلاة، وبعدها يتلو هذه الآية ثلاث مرّات: "كانَ عَليٌّ عليه السلام إذا أَحالَهُ أَمْرٌ فَزِعٌ قامَ إِلى الصَّلاةِ ثُمَّ تَلا هذِهِ الآيةَ: ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾"5.
نعم فإنّ العبادة ترسخ في النّفس محاسنها، وتصقلها وتعمل على تفعيل عناصر الخير فيها، من: التّوكّل والشّهامة والصّبر والإستقامة، وتستأصل الرّذائل الأخلاقيّة من قَبيل: الجُبن والشّك والإضطراب والتّوتر النّاشيء من حالات الصّراع، وحبّ الدنيا وتزيحها عن واقع النّفس، وبهذا تحيي العبادة في واقع النّفس، شطراً مُهمّاً من الفضائل الأخلاقية، وكذلك تقوم بإلغاء الكثير من عناصر الشّر، وقوى الإنحراف والرّذيلة من وجود الإنسان.
النّتيجة:
نستنتج ممّا ذُكر آنفاً: أنّ العِبادة لَها دورها الفاعل، والعميق في تَهذيب الأخلاق، ويمكن تَلخيص هذا المعنى في عدّة نقاط:
1- إنّ التوجه لِلمبدأ، والإحساس بحضور الله تعالى، مع الإنسان في كلّ وقت ومكان، يدفع الإنسان نحوَ المزيد من مُراقبة أعماله وحركاته وسكناته، ويُساعده على السّيطرة على ميوله الذّاتية، وأهوائه النفسيّة، لأنّ العالم محضر الله، والمعصية في حال الحضور، تمثّل الإنحراف عن خطّ الحقّ، وبالتّالي فهي عين الوقوع في لُجّة الكُفران للنعمة.
2- إنّ التّوجه لصفات جَلاله وجَماله، التي وردت في العبادات والأدعية، يثير في نفس الإنسان حالةً من لُزوم الإقتباس، من تلك الأنوار القُدسيّة، ويعيشها في واقعه الرّوحي، ليسير في طريق التّكامل الأخلاقي.
3- التّوجه ِللمَعاد والمحكمة الإلهيّة العظيمة في يوم القيامة، يمثّل أداةً فاعلةً لتطهير وتزكيّة النّفس، خوفاً من العقاب والحِساب في غد.
4- العِبادة والدّعاء، تضفي على الإنسان هالات من النّور لا توصف، فلا تستطيع معها ظُلمات الرّذيلة أن تقف أمامها، فيحسّ الإنسان بالقُرب الإلهي، وصفاء الضّمير بعد كلّ عبادة، شريطَة أن تكونَ مقرونةً بحضور القلب.
5- إنّ مضامين العبادات والأدعية، غنيٌّ جدّاً بالتّعاليم والآداب الأخلاقيّة، فهي ترسمُ الطّريق لِلسالك نحو الله تعالى، وهي في الحقيقة دروسٌ قيّمةٌ، توصل الإنسان السّالك لِهدفه السّامي، من أقصر طريق، وبدونِ العبادة والمُناجاة، وخاصّةً في حالات الخَلوة مع الله، تعالى ولا سيّما في وقت السّحر، فسوف لن يصل الإنسان إلى غايته المنشودة.
تأثير العبادة في صقل الرّوح في الرّوايات الإسلاميّة:
لهذه المسألة، صَداً وَاسعاً في الرّوايات الإسلاميّة، نشير إلى بعض منها:
1- أشارت جميع الرّوايات الإسلاميّة، التي تناولت فلسفة الأحكام، إلى دور العبادة في تَهذيب النّفوس وصفاء القلوب، فقال الإمام علي عليه السلام، في قِصار كلماته: "فَرَضَ اللهُ الإِيمانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّركِ، والصَّلاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الكِبْرِ وَالزَّكاةَ تَسبِيباً لِلرِّزْقِ وَالصِّيامَ إِبتِلاءً لاِِخلاصِ الخَلْقِ"6.
وَوَرد نفس هذا المعنى، مع إختلاف بسيط في خُطبة الزّهراء عليها السلام فإنّها تقول: "فَجَعَلَ اللهُ الإِيمانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّركِ، والصَّلاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الكِبْرِ وَالزَّكاةَ تَزكِيَّةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْقِ وَالصِّيامَ تَثبيتاً لِلإِخلاصِ"7.
2- ويشبّه الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله الصّلاة بنهر جاري، يتولى تطهير البدن كلّ يوم خمس مرّات، حيث يقول: "إِنّما مَثلُ الصَّلاةِ فِيكُم كَمَثلَ السّري وهو النهر عَلى بابِ أَحَدِكُم يَخرُجُ إِلَيهِ في اليَومِ وَاللَّيلَةُ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ خَمسُ مرّات، فَلا يَبْقى الدَّرنُ عَلَى الغَسلِ خَمْسُ مرّات، وَلَم تَبْقَ الذُّنُوبُ عَلى الصَّلاةِ خَمسُ مِّرات"8. وعليه فقد ذكرت هذه الرّوايات، لكلّ عبادة: دوراً خاصّاً في عمليّة تهذيب النّفوس الإنسانيّة.
3- وَوَرد في حديث آخر عن الإمام الرضا عليه السلام، يشرح فيه السّبب، الذي شرّع الله تعالى بِسَببِه العبادة، فيقول:
"فَإنْ قالَ فَلِمَ تَعبَّدَهُم؟ قِيلَ لِئَلا يَكُونُوا ناسِينَ لِذِكْرِهِ وَِلا تارِكِينَ لاَِدَبِهِ وَلا لاهِينَ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيهِ إِذا كانَ فِيهِ صَلاحُهُم وَقِوامُهُم، فَلَو تُرِكُوا بِغَيرِ تَعَبُّد لَطالَ عَلَيهِم الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُم"9.
فيتّضح من ذلك أنّ العبادة، تجلو القلب وتُبلوِر الرّوح وتَحثّ على ذكر الله تعالى، الذي هو مدعاة لإصلاح الظاهر والباطن.
4- وَوَرد في حديث آخر، عن الإمام الرّضا عليه السلام، وفي مَعرض حديثه لإحصاء فوائد الصّلاة، أنّه قال: "مَعَ ما فِيهِ مِنَ الإِيجابِ وَالمُداوَمَةِ عَلى ذِكْرِ اللهِ عَزّ َوَجَلَّ بِاللَّيلِ وَالنَّهارِ لِئَلا يَنْسَى العَبْدُ سَيِّدَهُ وَمُدَبِّرَهُ وَخَالِقَهُ، فَيَبْطُرَ وَيَطْغى وَيَكُونَ فِي ذِكْرِهِ لِرَبِّهِ وَقِيامِهِ بَينَ يَدَيهِ زاجِراً لَهُ عَنِ المَعاصِي وَمانِعاً لَهُ عَنْ أَنْواعِ الفَسادِ"10.
5- وَوَرد عن الإمام الصادق عليه السلام، في دور الصّلاة وميزان قبولها، أنّه قال: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ قُبِلَتْ صَلاتُهُ أَمْ لَم تُقْبَلْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ مَنَعَتْ صَلاتُهُ عِنَ الفَحشاءِ وَالمُنْكَرِ، فَبِقَدَرِ ما مَنَعَتْهُ قُبِلَتْ"18.
فهذا الحديث يُبيّن بوضوح، أنّ صحّة الصّلاة وقبولها، لها علاقةٌ طرديّةٌ بالأخلاق والدّعوة إلى الخير وترك الشّر، ومن لم تؤثّر صلاته، في تفعيل عناصر الخير والصّلاح في وجدانه، فعليه أن يعيد النّظر فيها حتماً، لأنّها وإن كانت مسقطة للتكليف، إلاّ أنّها غير مقبولة لدى الباري تعالى.
6- وفي فلسفة الصّيام، قال الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله:
"إِنَّ الصَّومَ يُمِيتُ مُرادَ النَّفْسِ وَشَهْوَةَ الطَّبْعِ الحَيوانِي، وَفِيهِ صَفاءُ القَلْبِ وَطَهارَةِ الجَواِرحِ وَ عَمارَةُ الظَّاهِر وَالباطِنِ، وَالشُّكْرُ عَلَى النِّعَمِ، وَالإِحْسانِ إِلى الفُقَراءِ، وَزِيادَةُ التَّضَرُّعِ وَالخُشُوعِ، وَالبُكَاءِ وَجَعَلَ الإِلتِجاءِ إِلى اللهِ، وَسَبَبُ إِنْكِسارِ الهِمَّةِ، وَتَخْفِيفِ السَّيِّئاتِ، وَتَضعِيفِ الحَسَناِتِ وَفِيهِ مِنَ الفَوائِدِ ما لا يُحْصى"11.
فقد ذكر هذا الحديث الشّريف، أربعة عشر صفةً إيجابيةً للصّوم في واقع النّفس، وهي مجموعةٌ من الفضائل والأفعال الأخلاقيّة، تصعد بالإنسان في مدارج الكمال المعنوي والإلهي.
7- ونختم هذا البحث الواسع، بحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال: "دَوامُ العِبادَةِ بُرهانُ الظَّفَرِ بِالسَّعادَةِ"20. ومن أراد التّفصيل أكثر فليراجع: "وسائل الشّيعة"، الأبواب الاُولى من العِبادات، وكذلك ما ورد في: "بحار الأنوار". نعم فإنّ كلّ من يطلب السّعادة، عليه أن يتحرك بإتّجاه توثيق العلاقة مع الله تعالى، من موقع الدّعاء والعبادة.
النّتيجة:
نستنتج من هذه الرّوايات الشّريفة التي أوردناها، والاُخرى التي أَعْرضنا عنها لِلإختصار، أنّ علاقة العبادة بصفاء الرّوح، وتهذيب النّفوس، وتفعيل القيم الأخلاقيّة في واقع الإنسان، علاقةٌ طرديّةٌ، وكلّما تحرّك الإنسان في عبادته، من موقع الإخلاص لله تعالى، كان أثرها في نفسه أقوى وأشدّ.
وهذا الأمر محسوس جدّاً، فالمخلص الذي يؤدي عبادته بحضور قلب، فإنّه يحسُ بالنّور والصفاء في قلبه، والميل إلى الخير والنّزوع عن الشّر، ويجد في روحه العبوديّة والخشوع والخضوع الحقيقي، بإتجاه خالقه وبارئه.
وهذا الأخير في الحقيقة هو العامل المشترك بين جميع العبادات، وإن كان لكلّ منها تأثير خاص على النفس، فالصّلاة تنهى عن الفَحشاء والمنكر، والصّيام يقوّي الإرادة وينشط العقل، لِيْسيطر على جميع نوازع النّفس، والحج يمنح الإنسان بُعداً معنوياً، يجعله بعيداً عن زخارف الدّنيا وزبرجها، والزّكاة تقمع البخل في واقع النّفس، وتقضي على أشكال الطّمع والحرص على الدنيا.
وذِكر الله يَهدىء الرّوح، ويمنحها الطّمأنينة والرّاحة، وكلّ ذكر من الأذكار، تتجلّى فيه صفةٌ من صفاتِ جَلاله وجَماله سبحانه وتعالى، التي تتولّى ترغيب الإنسان في السّلوك إلى الله، والإنسجام مع خطّ الرّسالة.
وعليه فإنّ الشّخص الذي يؤدّي العبادة على أتمّ وجه، سينتفع من فوائدها في دائرة المعطيات العامة، وكذلك تمنحه العبادات آثارها الإيجابيّة الخاصّة، بما يحقّق له بلورة فضائله الأخلاقيّة، وملكاته النفسانيّة في واقع وجوده، فالعِبادة تشكّل الخطوة والحجر الأساس، لبناء النّفس، في خطّ التّقوى والإيمان، والإنفتاح على الله، شَريطة الاُنس بمثل هذه المعاني الروحيّة، والتّعرف على فلسفة العبادة، فلا ينبغي أن نقنع بالمحافظة على قوى الجسم وحده.
* الأخلاق في القرآن (الجزء الأول)، أصول المسائل الأخلاقية، آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي, المؤسسة الإسلامية, الطبعة الثانية/1426ه, قم.
1- مصباح الشّريعة، ص536، نقلاً عن ميزان الحكمة، مادة "عبد".
2- صحيح مسلم، ج2، ص702، طبع بيروت.17. وسائل الشيعة، ج3، ص4.
3- للتفصيل يرجى مراجعة التفسير الأمثل، ذيل الآية الآية الشريفة المبحوثة.
4- مجمع البيان، ج1، ذيل الآية 45 من سورة البقرة، التي تشابه الآية التي نحن في صددها، وتفسير البرهان، ج1، ص166، ذيل 153، سورة البقرة، ففي حديث عن الصّادق(عليه السلام)، قال في الآية "الصّبرُ هُو الصّوم": بحار الأنوار، ج93، ص294.
5- اُصول الكافي، (طبقاً لنقل الميزان، ج1، ص154).
6- نهج البلاغة، قِصار الكلمات، الكلمة 252.
7- يرجى الرجوع إلى كتاب: حياة السيدة الزهراء عليها السلام.
8- المحجّة البيضاء، ج، ص339، كتاب أسرار الصّلاة.
9- عيون أخبار الرضا عليه السلام، طِبقاً لنقل نور الثقلين، ج1، ص39، ح39.
10- مجمع البيان، ج8، ص285، ذيل الآية 45 من سورة العنكبوت.
11- بحار الأنوار، ج93، ص254.
20- غُرر الحِكم، الرقم 4147.