يتم التحميل...

فلسفة وعلامات وعلاج الرياء

قيد الدراسة2

فلسفة تحريم الرّياء: قد يتعجّب البعض الذين يعيشون السّذاجة الفكريّة، عند نظرهم وللوهلة الاُولى، للروايات التي تتعرض لمسألة الرّياء، ونتائج المرعبة، ويتصورون أنّ عمل الإنسان إذا كان سليماً ومنتجاً في واقعه الخارجي، فأيّاً كانت النيّة والدّافع، فلن يؤثر ذلك في تغيير العمل

عدد الزوار: 92

فلسفة تحريم الرّياء:

قد يتعجّب البعض الذين يعيشون السّذاجة الفكريّة، عند نظرهم وللوهلة الاُولى، للروايات التي تتعرض لمسألة الرّياء، ونتائجه المرعبة، ويتصورون أنّ عمل الإنسان إذا كان سليماً ومنتجاً في واقعه الخارجي، فأيّاً كانت النيّة والدّافع، فلن يؤثر ذلك في تغيير العمل، فالذي يبني مُستَشفاً! أو مسجداً أو يعبّد الطّرق والجسور.. وغيرها من الاُمور التي تصبّ في الصّالح العام للناس، فعمله صحيحٌ وحسنٌ مهما كانت نيّته، فلْندَع النّاس يفعلوا الخير، وما لنا والنيّة!!

ولكن الخطأ الفادح يكمن هنا لأنّه:

أولاً:
إنّ كلّ عمل وفعل يترتب عليه نوعان من ردود الفعل، أحدهما ما ينعكس أثره في نفس الإنسان، والآخر ما يترتب على الفعل في الخارج، فالمُرائي يحطّم نفسه من الدّاخل ويُبعدها عن التّوحيد والدّين الحنيف، ويوقعها في وادي الشّرك، ويعتبر عزّته وإحترامه رهنٌ بيدَ النّاس، وينسى قُدَرة الباري تعالى في دائرة التّصرف في عالم الوجود، وبهذا يكون الرّياء نوعاً من الشّرك بالله تعالى، ويُفضي إلى نتائج وخيمة على مستوى الأخلاق والقِيَم الإنسانية.

وثانياً: بالنّسبة للعمل الخارجي، الذي يقصد به الرّياء والسّمعة، فالمجتمع هو الخاسر الأوّل في هذا المضمار، لأنّ المرائي يسعى لتحسين عمله، على مستوى الظّاهر فحسب دون الإهتمام بالباطن، ممّا يُفضي إلى تحويل العمل، إلى إنحراف وإفساد على المستوى الإجتماعي.

وبعبارة اُخرى: إنّ المجتمع الذي يتّخذ من الرّياءِ مركباً، في ممارسات الأفراد، سيكون كلّ شيء فيه بلا مُحتوى، كـ: الثقافة، الإقتصاد، السياسة، الصحة والنظام والقوى الدفاعية وكلّها ستهتم بالظّاهر فقط، ولا يكون الهدف منها نيل السّعادة الحقيقيّة للأفراد، بل سيركضون وراء كلّ شيء برّاق وجميلِ الظاهر، وأمّا باطنه، فالله العالم.
وهذا النّوع من الإتجاه، يورد صدمات وضربات ومضرّات في حركة الواقع الإجتماعي، لا تخفى على ذهن الفطن الكيّس.

علامات المُرائي:

قد يصاب بعض الأشخاص، لدى مطالعتهم لتلك الأحاديث التي تُشدّد على المرائي بالوسَوسة النّاشئة من الإبهام في تشخيص موضوع الرّياء، ورغم أنّ الجَدير بالإنسان التّشديد في مسألة الرّياء، لأنّ نفوذه خفيٌّ جدّاً، وكم حَدَث للإنسان، أن يعمل عملاً ويبقى لفترة طويلة غير ملتفت لإصابته بالرّياء، كالقصّة المعروفة عن أحد المؤمنين السّابقين، حيث نقل عنه، أنّه قضى صلوات جماعته كلّها، التي صلاّها في سنوات من عمره الطويل، ولمّا سألوه عن السّبب قال: إنّي كنت دائماً اُصلّي الجماعة في الصّف الأول، وفي يوم من الأيّام تأخّرت بعض الشّيء، فلم أجد مكاناً في الصّف المقدّم، فإضطررت للوقوف خلف الجميع، فشعرت في نفسي بالأذى من ذلك، وتنبّهت لهذه المسألة، فأعدت جميع الصّلوات لأنّها كانت رياء؟!

بالطّبع، الإفراط والتّفريط في هذه المسألة، مَثَلُه كَمَثَلِ بقيّةِ المسائل، غير محمود، وخطأٌ محضٌ، والمفروض التَّنبّه للرياء من خلال تتبع مقدماته وعلاماته، ولا نَدع مجالاً للوساوس في إطار إكتشاف هذه الحالة السّلبية، في دائرة السّلوك الخارجي، والواقع النّفسي، ولعلماء الأخلاق الأفاضل أبحاثٌ لطيفةٌ في هذا المضمار، ومنهم العلاّمة المرحوم الفَيض الكاشاني;، فقد طرح سؤالاً في كتابه: "المحجّة البيضاء"، وقال: فبأيّ علامة يُعرف العالم والواعِظ، أنّه صادق مخلصٌ في وعظه، غير مريد رئاء النّاس؟.

قال في جواب هذا السؤال: "فاعلم أنّ لذلك علامات، إحداها أنّه لو ظهر من هو أحسن منه وعظاً وأغزرُ منه علماً، والنّاس له أشدّ قبولاً، فرح به ولم يحسده، نعم لا بأسَ بالغِبطة، وهي: أن يتمنّى لنفسه مثل عمله، والاُخرى أنّ الأكابِر إذا حَضروا مجلسه لم يتغيّر كلامه، بل يبقى كما كان عليه، فينظر إلى الخلق بعين واحدة، والاُخرى: أن لا يحبّ إتّباع النّاس له في الطريق، والمشي خلفه في الأسواق، ولذلك علاماتٌ كثيرةٌ يطول إحصاؤه"1.


وأفضل المعايير لمعرفة المرائي من غيره، هو ما وردنا عن الأئمّة الأطهار، ومن جملة الأحاديث:

1- في حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، قال: "أَمّا عَلامَةُ المُرائي فَأرْبَعَةٌ: يَحْرُصُ في العَمَلِ للهِ إِذا كانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ وَيَكْسَلُ إِذا كانَ وَحْدَهُ وَيَحْرُصُ في كُلِّ أَمْرِهِ عَلَى الَمحمَدَةِ وَيُحْسِنُ سَمْتَهُ بِجُهْدِهِ"2.

2- وَوَرد في نفس هذا المعنى في حديث عن أمير المؤمنين، بألفاظ جميلة، فقال: "لِلمُرائي أرْبَعة عَلامات:

يَكْسَلُ إذا كانَ وَحدَهُ،

وَيَنْشُطُ إِذا كانَ في النّاسِ،

وَيَزِيدُ في العَمَلِ إِذا اُثنِيَ عَلَيهِ،

وَيَنْقُصُ مِنْهُ إِذا لَمْ يُثْنَ عَلَيهِ
"3.
وورد نفس هذا المعنى عن لقمان الحكيم أيضاً4.

وخلاصة القول: إنّ كلّ عمل، كان القصد منه المباهاة للناس، فهو دليلٌ على الرّياء، ومهما كان هذا القصد غامضاً وخفيّاً في دائرة الوعي، فهو دليلٌ على إزدواجيّة شخصيّة الإنسان في التعامل مع نفسه، في الخلأ والملأ.

وهذا الأمر في الحقيقة بالغ في الدقّة والغموض، لدرجة أنّ الإنسان يخدع وجدانه وضميره، بإتيان نفس الأعمال التي يأتي بها في الملأ، وبدرجة عالية من الجودة والحُسن، في خلوته ليقنع نفسه أنّه لا يُرائي، لأنّه يساوي بأعماله في الظّاهر والباطن، ولكنّ الحقيقة هي إزدواجيّة ذلك الشّخص، ففي كلا الحالتين يكون مرائياً.

بالطّبع يجب إجتناب الإفراط والتّفريط في هذه المسائل، لأننا وجدنا اُناساً إمتنعوا من أداء كثير من الواجبات وحُرموا من الثّواب حذراً أو خوفاً من الرّياء، فلم يؤلّفوا كتاباً، ولم يرشدوا أحداً من النّاس، ولم يصعدوا المنابر، لا لِشيء إلاّ لأنّهم كانوا يعيشون الخوف من الوقوع في الرّياء؟!

وقد ورد في الرّوايات، أنّ من يقصد القُربة إلى الله تعالى، إذا أتى بعمل ما علانيةً، وعرف به الناس وفرح هو من ذلك، ما دام قصده هو التّقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فلن يؤثّر ذلك على عمله5.

ولا يخفى على القارىء الكريم، أنّ القصد من هذا الأمر، هو تشجيع النّاس إلى سلوك طريق الخير والصّلاح، وإمضاء أعمالهم المتقرّب بها إلى الله تعالى، في السّر والعلانية، والمهم هو قصد القُربة وإخلاص النيّة فقط.

وجاءت الآيات والرّوايات، مؤكّدةً لهذا المعنى، وحثّت الإنسان على الإنفاق والتّصدق في السرّ والعلانية، وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على إمكانيّة الإتيان بالأعمال علانيةً، وبدوافع إلهيّة بعيداً عن الرّياء.

ويوجد خمسُ آيات شجّعت على الإنفاق سرّاً وعلانيةً، أو سِرّاً وجهراً(البقرة،274، الرّعد، 22، إبراهيم، 31، النّحل، 75، فاطر، 29). مضافاً إلى أنّ قسماً كبيراً من العبادات، يؤدّى في العلانية، فإذا ما لم يتسلط الإنسان على نفسه في خط الإلتزام الديني، ويُمسك بزمامها في دائرة النّوازع الذاتيّة، فَسيخسر هو والمجتمع كثيراً من أشكال الثّواب والخير، وستختل أركان بعض العبادات في خطّ الممارسة والعمل.

علاجُ الرِّياء:

يوجد طريقان لِمُعالجة حالة الرّياء، فالرّياء مَثَلُه كَمَثَلِ سائر الأخلاق السلبيّة والسّلوكيّات الذّميمة، ففي بادىء الأمر، علينا التّركيز على معرفةِ العِلَل، وجذور هذه الحالة السّلبية في الواقع النّفسي، لأجل القضاء عليها، ثم التّحرك نحو دراسة عواقبها المؤلمة، والكشف عنها في عمليّة التّصدي لها، وتوخي جانب الحَذر منها.

بالطّبع لقد أشرنا آنفاً، أنّ الرّياء هو: "الشّرك الأفعالي"، والغفلة عن حقيقة التّوحيد، فإذا ما تأصلت حقيقة التّوحيد الأفعالي في قلوبنا، وإستحكمت في نفوسنا، وإستيقنّا أنّ العزّة لله جميعاً، من موقع المشاهدة الوجدانية، ورأينا أنّ الرّزق والضرّ والنّفع بيده وهو المسخّر للقلوب، فسوف لن نختار سواه بدلاً، ولن نُدنّس أنفسنا وأفعالنا بحالة الرّياء الشّنيعة، التي لا تنسجم مع خطّ التّوحيد في دائرة الأفعال، فالذي يعيش اليقين الرّاسخ بهذه الحقيقة، وهي أنّ مَنْ يكون مع الله تعالى، يكون كلّ شيء معه، وبدونه فهو لا شيء، ويرى بعين البصيرة، مِصداق قوله تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ(آل عمران:160).

وإذا أدركنا هذه الحقيقة القرآنية التي تقرر أنّ العزّة لله تعالى: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِِ جَمِيعاً(النّساء:139).

أجل إذا ترسّخَ الإيمان بهذه الحقائق الإيمانيّة في أعماق الرّوح، فلا يجد الإنسان في نفسه باعثاً على الرّياء والنّفاق، وكسب الجاه والمقام لدى الناس والمُفاخرة والمُباهاة.

وقال بعض علماء الأخلاق، إنّ دعامة الرّياء وأساسِه هو حبّ الجاه والمُقام، وعند تحليلنا لمفهوم الرّياء، نجد أنّه يتكون من ثلاثة أركان:
"حبّ الثّناء والمدح من الناس"، و"الفرار من مذمّتهم"، و"الطّمع لِما في أيديهم".

ثم يضرب لذلك مثلاً وهو المجاهد في سبيل الله، فتارةً يكون قصدُه المُباهاة والمفاخرة، وإظهار شجاعته وبطولاته للناس، واُخرى خوفاً من أن يتّهمه الناس بالجُبن والخوف، وثالثةً يكون دافعه الحصول على الغنائم، والفائز الوحيد، هو الذي يدافع عن الحقّ والدّين لا غير.

هذا من جهة، ومن جهة اُخرى، عندما يتأمل الإنسان في سلبيات الرّياء وأضراره ونتائجه القاتلة، نرى أنّه كالنّار التي تقع على عبادات الإنسان وطاعاته، فتحوّلها إلى رماد تذروه الرّياح، ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل هو ذنبٌ عظيمٌ يسوّد وجه صاحبه في الدّنيا والآخرة...


الرّياء: حشرة الإرضة التي تَنخر دَعامات بيت سعادة الإنسان، لينهار به في واد سحيق من الشّقاء والظلاّم..

والرّياء بدوره نوعٌ من أنواع الكفر والنّفاق والشّرك...

والرّياء يسحق الشّخصيّة والحريّة والكرامة، وأشدّ النّاس بؤساً يوم القيامة، المراؤون.

فهذه حقائقٌ تردع الإنسان، وتبعده عن ذلك الأمر الشّينع.

ولا ننسى أنّ المرائي سيفتَضِح، إن عاجلاً أو آجلاً في هذه الدّنيا، وستظهر حقيقته الزّائفة على فلتات لسانه وشَطحات كلماته، وهذا العامل له قسطٌ من التأثير في عمليّة الرّدع النّفسي، لحالة الرّياء في واقع الإنسان، مضافاً إلى أنّ لذّة العمل الصالح، والنيّة الطيّبة التي تطرأ على الإنسان، لا تقاس بشيء، وهو أمرٌ يكفي لإخلاص النيّة.

ويعتقد البعض، أنّ إحدى طرق المعالجة، هي السّعي إلى إخفاء العبادات والحسنات، ولا يُمارسها في العلن، ليتخلّص تدريجيّاً من هذه العقدة المستعصيّة في الذّات المرائيّة.

ولكن هذا لا يعني، عدم الحضور في صلاة الجَماعة والجُمعة والحج، لأنّها تعدّ أيضاً خسارةً كُبرى لا تُعوّض.

هل النّشاط في العبادة يُنافي الإخلاص؟

يُراود هذا السّؤال أذهان الكثيرين، وهو أنّهم يشعرون بنشاط روحي، بعد الإتيان بالعبادة بالمستوى المطلوب، فهل أنّ هذا الشّعور بالنّشاط، يتقاطع مع الإخلاص، أو أنّه علامةٌ على الرياء؟.

والجواب: أنّ النّشاط إذا إستمدّ اُصوله، من التّوفيق الإلهي والنّور المعنوي المستقى من العبادة، ومعطياتها على روح الإنسان، فلا تَثريب ولا ضير، ولا يُنافي الإخلاص في النيّة، أمّا لو كان النّشاط ينشأ من مشاهدة الناس له، فإنّه يُنافي الإخلاص، رغم أنّه لا يكون سبَباً في بُطلان الأعمال، شريطةَ أن لا يتغيّر مقدار وكيفيّة العمل بسبب مشاهدة الناس له.


وَوَرد هذا المعنى في الرّوايات الإسلاميّة:

منها ما وَرد عن أحد أصحاب الإمام الباقر عليه السلام، أنّه قال: سألتُ الإمام عليه السلام، عن الرّجل يعمل الشّيء من الخير، فيراه إنسانٌ فيسّره ذلك.
قال عليه السلام: "لا بَأْسَ، ما مِنْ أَحَد إِلا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ في النّاسِ الخَيرُ، إذا لَمْ يَكُنْ صَنَعَ ذَلِكَ لذَلِكَ"6.

وفي حديث آخر عن أبي ذر رحمه الله، عندما سأل الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله، قال: قلت يا رسول الله: الرّجل يعملُ العمل لنفسه ويحبّه الناس.

قال صلى الله عليه وآله: "تِلكَ عاجِلُ بُشرى المُؤمِنِ"7.

ما الفرق بين الرّياء والسّمعة:

هذا سؤال يفرض نفسه أيضاً، فهل يوجد فرق بين الرّياء والسّمعة؟، وهل أنّهما يتنافيان مع إخلاص النيّة، ويوجبان بطلان العمل؟.


الجواب: الرّياء: هو فعل الخير أمام مرآى ومسمع من النّاس، لكسب الوجاهة لديهم، وليشار إليه بالبنان من موقع المدح والثّناء.

وأمّا السّمعة، فهي أداء أفعال الخير بعيداً عن أنظار النّاس، ولكن لِيُفهمَهم لاحقاً أنّه هو الذي فعل هذه الاُمور، ليكتسب بذلك وجاهةً لديهم، والحقيقة أن الدّافع لِكِلا الإثنين غير إلهي، فالأوّل يؤدّي عمل الخير أمام مرآى الناس، والثّاني بصورة غير مُباشرة وعن طريق السّماع، ولا فرق بينهما في دائرة فساد النيّة، وبطلان العمل وفقدان قصد القربة.

ولكن إذا فسّرنا السمعة بأنّها أداء الفعل بقصد القُربّة، ولكن إذا علم النّاس في الآجل ومدحوه  وأثنوا عليه، فإنّه يفرح بذلك، فلا شكَّ بأنّ هذه الحالة لا توجب بُطلان العمل.

ويمكن أن يتحرك الإنسان في سلوكيّاته  وأعماله، بقصد القُربة المطلقة، ولكنّه يرويها للناس بعد ذلك ليحتل مكانةً بينهم، "وهذا العمل يُسمى بالرّياء اللاّحق"، فهذا السّلوك أيضاً لا يُبطل العمل، لكنّه يُقِّلل من قيمته إلى أدنى حدّ، وخصوصاً من النّاحية الأخلاقيّة. وقد تحدّث بعض من كبار الفُقهاء، عن كيفيّة نفوذ وتوغّل الرّياء في أعمال الإنسان، وقالوا أنّها على عَشرِ صُوَر:


الصّورة الاُولى: أن يكون قصده من الفعل: مشاهدة النّاس له، ولا شكّ ببطلانها.

الصورة الثّانية: أن يكون الهدف فيها الباري تعالى، والرّياء مَعاً، وهذه الحالة أيضاً موجِبةُ: للبطلان والإحباط.


الثّالثة: أن يُرائي في جزء من الأعمال الواجبة، كما لو مارس الرّياء في الرّكوع، أو السّجود وحده في الصّلاة الواجبة، ولا شك في كونه يستوجب البُطلان، حتى لو كان هناك مجالاً للإستدراك، وحاله حالَ ما لو فقد وضوءه وهو في أثناء الصّلاة، وإن كان الأحوط أن يأتي بالجزء الذي وقع فيه الرّياء، ثم إعادة الصّلاة بعد الإنتهاء.


الصّورة الرّابعة: الرّياء في الجزء المستحب، كما في القُنوت، فهو أيضاً من دواعي البُطلان.


الخامسة: أصلُ العمل والقَصد، يكون لله تعالى، ولكنّه يؤدّيه في مكان عام: (كالمسجد)، من دون قصد ربّاني فيه، وهو باطلٌ أيضاً.


السّادسة: أن يُرائي في وقت العمل، فأصل الصّلاة لله تعالى، ولكنّه يُرائي في أدائها في أوّل وقتها، فعمله باطلٌ أيضاً.


السّابعة: أن يُرائي في بعض خُصوصيات وأوصاف العمل، كما لو صلّى الجماعة، وهو في حالة من الخشوع والخضوع المُفتعلة، وهو باطلٌ أيضاً، فالموصوف يتبع الأوصاف في هذه الحالة.


الثّامنة: أن يأتي بالعمل قربةً إلى الله، ولكنّه يرائي في مقدّمات العمل، فيذهب إلى المسجد بقصد الصّلاة والثّواب، ولكنّ حركته نحو المسجد بقصد الرّياء. فالكثير من الفُقهاء لا يرون بُطلان العمل لمثل هذا النوع من الرّياء، لأنّ مقدّمات الرّياء حدثت بعيداً عن العمل، وهو ما تقتضيه القاعدة الفِقهيّة.


التّاسعة: أن يُؤدّي بعض الأوصاف الخارجيّة بنيّة الرّياء، كما لو صلّى للهِ تعالى، ولكنّه يحنّك نفسه رياءً، فالبِّرغم من قبح هذا العمل، ولكنّه لا يُبطل الصلاة.8


عاشراً وأخيراً: أن يتحرّك في إتيانه بالعمل، من موقع القربة المطلقة لله تعالى، ولكن إذا شاهده الناس، فإنّه يشعر في قرارة نفسه بالفرح، من دون أن يؤثّر ذلك على كيفيّة العمل، فهذا القسم لا يوجب البُطلان أيضاً، لأنّه لا يعدّ من الرّياء.

* الأخلاق في القرآن (الجزء الأول)، أصول المسائل الأخلاقية، آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي, المؤسسة الإسلامية, الطبعة الثانية/1426ه, قم.



1- المحجّة البيضاء، ج6، ص200.
2- تُحف العقول، ص 17.
3- شرح نهج البلاغة، إبن أبي الحديد، ج2، ص180.
4- الخصال: (طبقاً لنقل ميزان الحكمة، ج2، ص1020)، الطّبعة الجديدة.
5- راجع وسائل الشّيعة، ج1، الباب 15، من أبواب مقدمة العبادات، ص55.
6- وسائل الشيعة، ج1، ص55.
7- وسائل الشيعة، ج 1، ص 55.
8- نَسترعي الانتباه: إلى أنّ التّحنيك في الصّلاة لم يثبت استحبابه، وما ورد في الرّوايات فهو يشمل كلّ الحالات والأوقات، وفي وقتنا الحاضر يحتمل أن يكون من لِباس الشّهرة.
2009-07-30