يتم التحميل...

حقيقة وموانع ومعطيات الاخلاص

قيد الدراسة2

حقيقة الإخلاص: يقول المرحوم الفيض الكاشاني، في المحجّة البيضاء حول هذا الموضوع: "إعلم أنّ كلّ شيء يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه، وخلص عنه سمّي خالصاً وسُمّي الفعل المصفّى، المخلص إخلاصاً، قال الله تعالى: -وَإِنَّ لَكُمْ في الأَنعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْث وَدَم...-

عدد الزوار: 95


حقيقة الإخلاص

يقول المرحوم الفيض الكاشاني، في المحجّة البيضاء حول هذا الموضوع: "إعلم أنّ كلّ شيء يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه، وخلص عنه سمّي خالصاً وسُمّي الفعل المصفّى، المخلص إخلاصاً، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ في الأَنعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْث وَدَم لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ)(النّحل:66)، فإنّما خلوص اللّبن، أن لا يكون فيه شوب من الدم والفرث، ومن كلّ ما يمكن أن يمتزج به والاخلاص، يضادّه الإشراك، فمن لا يكون مخلصاً فهو مشرك، إلاّ أنّ للشّرك درجات، والإخلاص في التوحيد يضادّه الشرك في الإلهيّة، والشّرك منه خفي ومنه جلّي وكذلك الإخلاص"1.

وكذلك ما ورد من تعبيرات لطيفة في الرّوايات، تبيّن الإخلاص الحقيقي والمخلصين الحقيقيين، منها:

1- الحديث الوارد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، أنّه قال: "إِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً، وَما بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِخلاصِ، حَتّى لا يُحِبَّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى شَيء مِنْ عَمَل للهِ"2.

2- نقل عنه صلى الله عليه وآله: "أَمّا عَلامَةُ الُمخْلِصِ فَأَربَعَةٌ، يُسْلمُ قَلْبَهُ وَتُسلمُ جَوارِحُهُ، وَبَذَلَ خَيْرَهُ وَكَفَّ شَرَّهُ"3.

3- في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه السلام، أنّه قال: "لا يَكُونُ العَبْدُ عابِداً للهِ حَقَّ عِبادَتِهِ حَتّى يَنْقَطِعَ عَنِ الخَلْقِ كُلِّهُ إِلَيهِ، فَحِينَئِذ يَقُولُ هذا خالِصٌ لِي فَيَتَقَبَّلَهُ بِكَرَمِهِ"4.

4- وأخيراً يقول الإمام الصادق عليه السلام: "ما أَنْعَمَ اللهُ عَزَّوَجَلَّ عَلَى عَبْد أَجَلَّ مِنْ أَنْ لا يَكُونَ فِي قَلْبِهِ مَعَ اللهِ غَيْرُهُ"5.

الآن بعدما عرفنا أهميّة الإخلاص، ودوره العميق في سلوك طريق الحّق والقرب من الله، والسّير في حركة الإنسان في خط الإيمان والتوحيد، يبقى هنا سؤال يفرض علينا نفسه، وهو كيف يمكننا تحصيل الأخلاص؟

لا شك أنّ الإخلاص في النيّة، هو وليد الإيمان واليقين العميق بالمعارف الإلهيّة، وكلمّا كان الإنسان متيقناً على مستوى التّوحيد الأفعالي، وأنّ كلّ شيء في عالم الوجود يبدأ من الله تعالى ويعود إليه، وهو المؤثر الأول وعلّة العلل وأنّ الاسباب والعِلل الجليّة والخفيّة خاضعة لأمره وتدبيره، فحينئذ يكون سلوك هذا الإنسان مُنسجماً مع هذه العقيدة، بالمستوى الذي يكون فيه عمله في غاية الخُلوص، لأنّه لا يرى مُؤثّراً في الوجود غير الله، يثير في نفسه الدّوافع المضادّة للإخلاص، والحركة في غير طريق التّوحيد.

وعكست الرّوايات هذه الحقيقة، فقال الإمام علي عليه السلام: "الإخلاصُ ثَمَرَةُ اليَقِينِ"6.
وعنه عليه السلام: "ثَمَرَةُ العِلْمِ إِخلاصُ العَملِ"7.

وأخيراً تناول الإمام علي عليه السلام المسألة بشيء من التفصيل، فقال: "أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَ كَمالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصدِيقُ بهِ، وَكَمالُ التَّصدِيقِ بِهِ، تَوحِيدُهُ، وَكَمالُ تِوحِيدهِ الإِخلاصُ لَهُ"8.

موانع الإخلاص:

أشار علماء الأخلاق الأفاضل إلى هذه المسألة إشارات دقيقة وواضحة, فقال البَعض، إنّ موانع الإخلاص وآفاته على نحوين: جليّةٌ، وخفيّةٌ. فبعضها خطر جداً، والبعض الآخر أضعف، والشّيطان والنّفس الأمّارة، يسعيان لتكدير صفاء القلب، وتلويثه بالرّياء، بالمستوى الذي يحوّل الإنسان إلى كيان مهزوز، أمام حالات الخطر، ويشلّ فيه إرادة المُواجهة.

فَبعضٌ من مراحل الرّياء واضحةٌ للعيان، بحيث يمكن لكلّ فرد التّوجه إليها، مثلما يأمر الشّيطان المصلي بالتوءدة بصلاته، كي يراه الناس ويقولوا هذا إنسانٌ مؤمنٌ، فلا يتحرّكون من موقع الغِيبة له والوَقيعة فيه.
فهذه من حيل الشّيطان الجليّة.

ويمكن أن تكون وساوس الشيطان بصورة أخفى، حيث تتلبّس بلباس الطّاعة، فمثلاً، يلقي في نفسك: أنّك إنسانٌ معروفٌ، والنّاس تشير إليك بالبَنان، ويجب أن تكون طاعتك وعبادتك على أتمّ الصّحة، لكي يقتدي بك الناس في أعمالهم، وستكون شريكاً معهم في ثوابهم، فَهنا ستستسلم لأحابيل الرّياء من دون أن تشعر.

أو تكون الخُدع والحيل أشدّ وأقوى وأخفى، فمثلاً يقول للمصلّي إنّ العبادة في السرّ يجب أن تكون مثلها في العلانية، والذي تكون عبادته في السّر، أدنى مستوى من العلانية، يعتبر من المرائين، وبهذه الصّورة يدفعه ليحسن صلاته وينمّق عبادته في الخفاء، ليكون كذلك في صلاته أمام الناس، وهذا نوعٌ من الرّياء الخَفي، ويمكن أن يغفل عنه الكثيرون، وكذلك المراحل الأخفى والأشد9.

نعم فإنّ آفات الإخلاص كثيرةٌ، ولا يستطيع أيّ إنسان العبور منها، إلاّ بتوفيق ربّاني، ولطف إلهي.

ونجد هذا المعنى كذلك في الرّوايات الإسلاميّة، حيث أتحفتنا بما يلزم، للتنبيه على آفات الإخلاص ومنها:

ما ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام، حيث قال: "كَيفَ يَستَطِيعُ الإخلاصُ مَنْ يَغْلِبَهُ الهوى"10.

وفي الواقع فإنّ ما ذُكر في الحديث، آنفاً، هو أهم وأقوى آفات الإخلاص، نعم فإنّ هوى النفس، يكدّر عين الإخلاص ويُظلِمُها.

وعنه عليه السلام، قال: ""قَلِّلِ الآمالَ تَخْلُصُ لَكَ الأعمالُ"11.

والجدير بالذّكر، أنّ الوساوس يمكن أن تأتي بشكل آخر، فتقول للمُصلي لا تذهب لِصلاة الجماعة، لأنّ نيّتك يمكن أن تتلّوث بالرّياء أمام الناس، وعليك بإقامة الصّلاة في بيتك، لكي تعيش أجواء الإخلاص في خطّ العبادة والصلاة، وتتخلص من براثن الرّياء!!.

أو يدعوه لترك المستحبات لنفس السّبب، لِيحرمه من ثوابها.

ولعل هذا هو السّبب في دعوة القرآن الكريم، للإنفاق بالسرّ والعَلانية: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون﴾(البقرة:274). 


ونختم بحثنا بملاحظة مُهمّة، ألا وهيَ، أنّ الإخلاص في السرّ، ليس بتلك الدرجة من الصّعوبة والأهميّة، بل المهم هو أن يعيش الإنسان، حالة الإخلاص في العلانية، وأمام مرأى ومسمع من الناس.

معطيات الإخلاص:

بما أنّ حالة الإخلاص، تُمثّل أغلى جوهرة تُحفظ في خزانة الرّوح، وما يترتّب على هذه الحالة من معطيات إيجابية مهمّة، فقد أوردت الرّوايات تلك المسألة، بصورة بليغة جميلة، ومنها: "ما أَخْلَصَ عَبْدٌ للهِ عَزَّوَعَلَّ أَربَعِينَ صَباحاً إلاّ جَرَتْ يَنابِيعُ الحِكْمَةُ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسانِهِ"12.

وفي حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام، أنّه قال: "عِنْدَ تَحقق الإخلاص تَسْتَنِيرُ البَصائِرُ"13.

وَوَرد عنه(عليه السلام) أيضاً: "ِفي إخلاصِ النيّاتِ نَجاحُ الاُمورِ"14.

ويتّضح من ملاحظة هذا الحديث، أنّ النيّة كلّما أخلصت، كان الإهتمام بِباطن الأعمال أقوى، أو بتعبير أدق: إنّ الجَودة والدّقة على مستوى السّلوك والعمل، ستكون في ذَروتها، ونجاح العمل سيكون مضموناً، والعَكس صحيحٌ، فإذا كان الهدف يتركز على معالم الظاهر فقط، دون أن يولّي أهميّةً للمحتوى، فسيكون مصير العمل إلى الفَشل والخَيبة.

ولذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام: "لَو خَلُصَتِ النِّيَّاتُ لَزَكتِ الأَعمالُ"15.

الرّياء:

النقطة المقابلة للإخلاص هي: "الرّياء"، وقد ورد ذمّه بكثرة في الآيات والروايات الشريفة، التي نهرت النّاس من هذا العمل المُشين، وإعتبرته من أوضح مصاديق الشّرك الخفي، وعلّة بطلان الأعمال، وعلامة من علامات النّفاق.

ونجد فيها أنّ الرّياء يهدم الفضائل، ويزرع بذور الرّذائل في روح الإنسان، وُ يشغله عن الهدف الأساسي الحقيقي، في خطّ الرّسالة والإستقامة. وهو أداةٌ قويةٌ مؤثرةٌ بيد الشّيطان الرّجيم، لإضلال وصرف النّاس عن الطّريق الصّحيح، وتحويلهم من دائرة الإيمان، إلى دائرة الكفر والإنحراف.

ونعود هنا للآيات القرآنية الكريمة، التي ترينا وجه المرائي القبيح، والنّتائج السلبيّة المترتّبة على الرّياء:

1- ﴿يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالاَْذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْء مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)(البقرة:264).

2- ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)(الكهف:110).

3- ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلا)(النّساء:142).

4- ﴿وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً)(النساء:28).

5- ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(الأنفال:47).

6- ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ )(الماعون:4 إلى 7).

تفسير وإستنتاج:-

"الآية الاُولى": تبيّن أن المنّ بالصدقات وإيذاء الآخرين، يدخل في عداد الرّياء ويمحق أعمال الخير، وتبيّن أنّ المرائي لا يعيش الإيمان بالله ولا باليوم الآخر، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالاَْذَى... ، وبعدها يشبّه هؤلاء الناس بمثل الذي يُنفق أمواله من موقع الرّياء: ﴿كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ... .

وجاء في ذيل الآية: تشبيهٌ جميلٌ جدّاًٌ لأعمالهم العقيمة، التي لا تثمر في نطاق المعنويّات وترتب الثّواب، فأعمالهم كالصّخر الذي يعلوه التراب، فيَشتَبِه الفلاح في أمره، فيبذر فيه البذور بأمل الخصب والزّرع، فيأتي المطر ويزيل كلّ شيء، فقال: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً.

ومن المؤكد أنّ مثل هذا العمل والزرع، لن يثمر أو يورق، فكذلك سبحانه وتعالى، لا يهدي من ينطلق في تعامله مع الله تعالى من موقع الرّياء والكفر، ﴿لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْء مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ.

فعرّفت الآية مثل هؤلاء الأفراد بالمرائين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ومرّة اُخرى عرّفتهم بالكافرين، الذين تتحرك أعمالهم كالسّراب المخادع، الذي لا قيمة له، لأنّهم بذروا أعمالهم في أرض الرّياء السّبخة التي لا تصلح للزراعة، ويوجد إحتمال آخر في تفسير الآية، وهو أنّ المرائي نفسه بمثابة قطعة الصّخر، التي لا يثبت عليها التراب، ولا يفيد معه أيّ بذر من بذور الخير والصّلاح.

نعم! فأرواحهم مريضةٌ وأعمالهم عقيمة، لا تقوم على أساس من الخير، ونيّاتهم مشوبة بدرن الرّياء والشّرك الخَفي.

واللّطيف: أنّ الآية التي تلتها في سورة البقرة، شبّهت أعمال المخلصين، بجُنينة لا بذور فيها إلاّ بذور الصّلاح، فأصابها وابلٌ فنبتت نَباتاً حسناً، فأثمرت ثمراً مضاعفاً ومُباركاً فيها.

"الآية الثانية": خاطبت الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وأمرته بإيصال التّوحيد الخالص للنّاس، إنسجاماً مع خطّ الرّسالة، وبإعتبار أَنَّ التّوحيدَ أصلٌ أساسي في الإسلام: ﴿قُلْ إِنّما أَنا بَشَرٌ مِثلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ إِنّما إِلَهُكُم إِلهٌ واحِدٌ.

وبذلك يستوحي المؤمن من جو الآية الكريمة، أنّ الأعمال يجب أن تكون خالصةً ومنزّهةً من أدران الشّرك: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.

وعليه فإنّ الشّرك في العبادة، يهدم أساس التّوحيد، والإعتقاد بالمعاد في حركة الإنسان والحياة، أو بتعبير أدق: فإنّ جواز السّفر إلى الجنّة الخالدة، يتمثل بِخُلوص العمل في دائرة السّلوك والنيّة.

وجاء في شأن نزول الآية: قال إبن عباس: أنّها نزلت في جُندب بن زهير العامري، قال: يا رسول الله إنّي أعمل العمل لله تعالى، واُريد به وجه الله تعالى، إلاّ أنّه إذا إطّلع عليه أحد من الناس سرّني; فقال النّبي صلى الله عليه وآله: "إنَّ اللهَ طَيِّبٌ وَلا يَقْبَلُ إِلاّ الطَّيِّبَ وَلا يَقْبَلُ ما شُورِكَ فِيهِ"16.

وجاء في شأن نزول الآية أيضاً، قال طاووس: قال رجل: يا رسول لله! إني اُحبّ الجهاد في سبيل الله تعالى واُحبّ أن يرى مكاني، فنزلت الآية.17 .

وَوَرد مثل هذا المضمون بالنّسبة للإنفاق وصِلة الرّحم18، وتبيّن أنّ الآية الآنفة: نزلت بعد الأسئلة المختلفة، في الأعمال المشوبة بغير الأهداف الإلهيّة، وقد إعتبرت المُرائي على حدّ من يعيش حالة الشّرك بالله والشّخص الذي لا إيمان له بالآخرة.

ونقرأ في حديث آخر، عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "مَنْ صَلّى يُرائي فَقَدْ أَشرَكَ، وَ مَنْ صامَ يُرائِي فَقَدْ أَشرَكَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرائي فَقَدْ أَشرَكَ، ثُمَّ قَرَأ: فَمَنْ كانَ يَرجُوا لِقاءَ رَبِّهِ..."19.

"الآية الثّالثة": بيّنت أنّ الرّياء هو من فعل المنافقين: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلا.

والجدير بالذكر أنّ النّفاق عبارةٌ عن إزدواجية الظّاهر والباطن، وكذلك الرّياء فهو إزدواجية الظاهر والباطن، حيث يتحرك المرائي في أعماله لجلب الأنظار، فمن الطّبيعي أن يكون الرّياء من برامج المنافقين.

"الآية الرابعة": إعتبرت الأعمال التي ينطلق بها الإنسان من موقع الرّياء، مساويةٌ لعدم الإيمان بالله تعالى واليوم الأخر: ﴿وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً﴾.

وعليه فإنّ المرائين هم أصحاب الشيطان، الذين يفتقدون الإيمان الحقيقي بالمبدأ والمعاد.

"الآية الخامسة: تنهى المسلمين من التشبّه بأعمال المشركين الكفّار، الذين لا يفعلون شيئاً إلاّ للرياء والتّفاخر فقط: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًٌ.

فطبقاً للقرائن والشواهد الموجودة، وتصديق المفسّرين، فإنّ هذه تشير إلى خروج المشركين من قريش في يوم بَدر، بحليّهم وزينتهم وقد جلبوا معهم آلات الطّرب واللّعب واللّهو والنبّيذ، وهم يقصدون جلب أنظار أصحابهم من المشركين الوثنيين.

وجاء في بعض التّفاسير، أنّ منطقة بدر، كانت تعتبر من المراكز التّجارية لعرب الجاهليّة في وقتها، وأنّ أبا جهل جاء بوسائل الطرب والجواري، لغرض مُراءاة النّاس، وفَقْأ العيون كما يقول المثل الشّائع.

وعلى كلّ حال، فإنّ القرآن الكريم قد نهى المؤمنين من أمثال هذه الأعمال الشائنة، ودعاهم إلى ترويض النّفس بالإخلاص والتّقوى، للتغلب على تلك الحالات النفّسية الخطرة، وأن لا ينسوا مصير المُرائين وأتباع الشّيطان في معركة بدر.

"والآية الأخيرة": من الآيات مورد البحث، نجدها تذّم الرّياء ولكن بصورة اُخرى فتقول: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونًَ.

فقد جاءت كلمة "الويل، في (27) مورداً من القرآن، وإختصّت في الأغلب بالذّنوب الكبيرة الخطرة جدّاً، وهنا تحكي عن شدّة قُبح ذلك العمل في واقع الإنسان وروحه.

إنّ ما ورد في الآيات الآنفة الذكر، يوضح إلى درجة كبيرة، قُبحَ هذه الخطيئة، وأخطارها وآثارها السلبيّة على سعادة الإنسان في حركة الحياة، ومن الواضح فإنّ الرّياء يقف حَجرَ عثرة في طريق تهذيب النّفس، وطهارة القلب والرّوح للإنسان المؤمن.

الرّياء في الرّوايات الإسلاميّة:

تطرقت الرّوايات لهذا الأمر بقوّة وأهميّة بالغة، وعرّفت الرّياء بأنّه من أخطر الذّنوب، ومنها:

1- ما وَرد عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله، أنّه قال: "أَخْوَفَ ما أَخافُ عَلَيكُمْ الرّياء والشَّهوةُ الخَفِيّةُ"20. ويمكن أن يكون المراد من الشّهوة الخفيّة، هو المقاصد الخفيّة للرياء.

2- وأيضاً ما نقل عنه صلى الله عليه وآله: "أَدنى الرِّياءِ شِرك21.

3- وأيضاً عنه صلى الله عليه وآله: "لا يَقْبَلُ اللهُ عَملاً فِيهِ مِقدارُ ذَرَّة مِنْ رِياء"22.

4- وعنه صلى الله عليه وآله: "إِنَّ المُرائِي يُنادى يَومَ القِيامَةِ يا فاجِرُ يا غادِرُ يا مُرائي ضَلَّ عَمَلُكَ وَ حَبَطَ أَجْرُكَ إِذْهَبْ فَخُذْ أَجْرَكَ مِمَّن كُنْتَ تَعْمَلُ لَه23.

5- وقال أحد أصحاب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله في يوم ما باكياً، فقلت: ما يُبكيك يا رسول الله؟ فقال: "إنّي تَخَوَّفْتَ عَلى أُمَّتِي الشَّركَ، أَمّا إِنّهُمْ لا يَعَبُدُونَ صَنَماً وَلا شَمْساً وَ لا قَمَراً وَلا حَجرَاً، وَلَكِنَّهُم يُراؤُونَ بِأَعْمالِهِم"24.

6- وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وآله قال: "إِنَّ المَلَكَ لَيَصْعَدُ بِعَمَلِ العَبْدِ مُبْتَهِجاً بِهِ فَإِذا صَعَدَ بِحَسَناتِهِ يَقُولُ اللهُ عَزَّوَجَلَّ إِجْعَلُوها فِي سِجِّين إِنَّهُ لَيسَ إِيَّايَ أَرادَ بِها"25.

7- وأيضاً عنه صلى الله عليه وآله: "يَقُولُ اللهُ سُبْحانَهُ إِنِّي أَغْنَى الشُّرَكاءِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلاً ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهِ غَيرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ لِلَّذِي أَشرَكَ بِهِ دُونِي"26.

هذه الأحاديث السّبعة عن رسول الله صلى الله عليه وآله، بيّنت أنّ إثم الرّياء بدرجة من الشدّة، بحيث لا يضاهيه شيءٌ من الذّنوب والخطايا، وما ذلك إلاّ للنتائج السّيئة للرّياء في نفس وروح الإنسان، وكذلك على مستوى الفرد والمجتمع.

أمّا ما ورد عن الأئمّة عليهم السلام:
8- ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام، ينقل عن جدّه عليه السلام: "سَيأَتِي عَلَى النَّاسِ زَمانٌ تَخْبَثُ فِيهِ سَرائِرِهُمْ وَتَحْسُنُ فِيهِ عَلانِيَّتِهِم، طَمَعاً في الدُّنيا لا يُريدُونَ بِهِ ما عِنْدَ رَبِّهِم يَكُونَ دِينُهُمْ رِياءً، لا يُخالِطُهُم خَوْفٌ، يَعُمُّهُمُ اللهُ بِعِقاب فَيَدْعُونَهُ دُعاءَ الغَرِيقِ فلا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ"27.

9- وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: "كُلُّ رِياء شِرْكٌ، إِنَّهُ مَنْ عَمِلَ لِلنَّاسِ كانَ ثَوابُهُ لِلنّاسِ، وَ مَنْ عَمِلَ للهِ كانَ ثَوابُهُ عَلَى اللهِ"28.

10- وفي حديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام، قال: "المُرائِي ظاهِرُهُ جَمِيلٌ وَ باطِنُهُ عَلِيلٌ"29.

وقال أيضاً: "ما أَقْبَحَ بِالإِنسانِ باطِناً عَلِيلاً وَ ظاهِراً جَمِيلاً"30.

وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وعن الأئمّة الهداة، في هذا المجال كثير.

* الأخلاق في القرآن (الجزء الأول)، أصول المسائل الأخلاقية، آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي, المؤسسة الإسلامية, الطبعة الثانية/1426ه, قم.


1- المحجّة البيضاء، ج8، ص128.
2- بحار الأنوار، ج69، ص304.
3- تُحف العقول، ص16.
4- مستدرك الوسائل، ج1، ص101.
5- المصدر السابق.
6- غُرر الحِكم، ج1، ص30 (الرقم 903).
7- المصدر السابق، ص17، (الرقم 444).
8-  نهج البلاغة، الخطبة 1.
9- المحجّة البيضاء، ج8، ص133.
10- غُرر الحكم، ج2، ص553، الرقم 4.
11- المصدر السابق، ح2906.
12-عُيون أخبار الرضا، ج1، ص69، بحار الأنوار، ج67، ص342.
13- غُرر الحِكم، ج2، ص490، الرقم 12.
14- المصدر السّابق، ص14، الرقم 68.
15-  المصدر السّابق، ص603، الرقم 11.
16-  تفسير القُرطبي، ج11، ص69.
17- المصدر السابق.
18- المصدر السابق.
19- الدر المنثور، (طبقاً لتفسير الميزان، ج13، ص407).
20- المحجّة البيضاء، ج6، ص141.
21- المصدر السابق.
22- المصدر السّابق.
23- المصدر السابق.
24- المصدر السابق.
25- اُصول الكافي، ج2، ص295.
26- ميزان الحكمة، ج2، ص1017، الطبعة الجديدة.
27- اُصول الكافي، ج2، ص296.
28- المصدر السابق، ص293.
29- أمالي الصّدوق، ص398; غرر الحكم، ج1، ص60، الرقم 1614.
30- غُرر الحِكم، ج2، ص749، الرقم 209.
2009-07-30