يتم التحميل...

في طريق التهذيب الاخلاقي-المعاتبة

قيد الدراسة2

الخطوة الخامسة: المعاتبة والمعاقبة: بعد "المحاسبة"، يأتي دور المُعاتبة و المُعاقبة للنّفس على أخطائها وأغلاطها، فالحساب بدون إظهار ردّ الفعل، لا فائدة فيه ولا ثمرة، ونتيجته ستكون عكسيةً، بل تحمل النّفس على الجرأة والجسارة والعناد.

عدد الزوار: 139

المعاتبة والمعاقبة

بعد "المحاسبة"، يأتي دور المُعاتبة والمُعاقبة للنّفس على أخطائها وأغلاطها، فالحساب بدون إظهار ردّ الفعل، لا فائدة فيه ولا ثمرة، ونتيجته ستكون عكسيةً، بل تحمل النّفس على الجرأة والجسارة والعناد، في حركة الحياة والواقع، فكما يحاسب الرّئيس موظفيه عن تقصيرهم، ويعاقبهم بنوع ما، وكلٌّ حسب حجم تقصيره، فكذلك يفعل السّائرون في طريق الباري، فإذا ما جَمَحَت بهم أنفسهم يوماً، فسوف يعاقبونها لجرأتها على سيّدها ومولاها.

وأكّد القرآن الكريم على هذه المسألة، فأقسَم بالنّفسِ اللّوامة، لأهميتها: ﴿لا اُقْسِمُ بِآلنَّفْسِ اللَّوامَة(القيامة:2)1.

ونحن نعلم أنّ النّفس اللوامة، هي الضّمير الحي الذي يردع صاحبه عن إرتكاب المعاصي، وهو نوع من العِقاب للنفس.
ومن الواضح أنّ العقاب للنفس له درجاتٌ و مراتبٌ، وأوّل ما يبدأ من حالة الملامة، ثمّ يشدّد العقاب، وذلك بحرمان النّفس من بعض اللذائذ الدنيوية لفترة من الزّمن.

وأشار القرآن الكريم، لنموذج رائع حول هذا الموضوع، وذلك بالنّسبة للثلاثة الذين تخلّفوا في غزوة تَبوك، و أمر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، الناس بمقاطعتهم في كلّ شيء، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فعاقبوا أنفسهم على فعلتهم، وانشغلوا بالتّوبة، وانعزلوا عن الناس بالكامل، وبعد مدّة تاب الله تعالى عليهم، ونزلت الآية الكريمة: ﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الاَْرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(التوبة:118).

فجملة: "وضاقت عليهم أنفسهم"، ربّما تكون إشارةً إلى مسألة: "معاقبة النّفس"، بالعزلة التي إختاروها لأنفسهم، فقبلها الباري تعالى منهم، وَورد في شأن النّزول للآية (102) من سورة التوبة: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

فهي تشير إلى قصة: "أبو لُبابة الأنصاري"، و هو أحد أصحاب النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله، ولكنّه تهاوَن عن نَصرة رسول الله صلى الله عليه وآله، في غزوة تَبوك، وبعدها ندم أشدّ الندم، فأراد أن يُكفّر عن فِعلته، فذهب إلى مسجد النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وربط نفسه إلى أحد أعمدته، وأقسم أنّ لا يطلق نفسه إلاّ بموافقة الله ورسوله، أو يتوب الله تعالى عليه، فبقي على هذه الصورة حتى تاب الله تعالى عليه، ونزلت الآية، وصرّحت بقبول الله تعالى لِتوبته.


ومن الواضح، أنّ أبا لُبابة كان قد تحرك من موقع مُحاسبة النفس، ومُعاقبتها على فِعلتها، وهو دليلٌ على أنّ السّير والسّلوك إلى الله تعالى، كان موجوداً على عهد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله.

وأمّا جملة: ﴿خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئَاً﴾,  فهي أيضاً ربّما تكون إشارةً لذلك المعنى أيضاً، وأَتحفتنا الرّوايات أيضاً، وأرشدتنا إلى موضوع بحثنا، ومنها:


1- ما ورد عن علي عليه السلام، أنّ قال في أوصاف المتّقين، في نهج البلاغة:
"إِن اسْتَصْعَبَتْ عَلَيهِ نَفْسُهُ في ما تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِها سُؤلَها فِي ما تُحِبُّ"2.

والمقصود منه، أن يمنع نفسه في حالة جموحها، من النوم والرّاحة والأكل والشّرب، لتتأدّب ولتنصاع إليه.

2-
ما ورد في غُرر الحِكَم، عن ذلك الإمام عليه السلام الهمام، أنّه قال: "إِذا صَعُبَتْ عَلَيكَ نَفْسُكَ فاصْعَبْ لَها تَذِلُّ لَك".

3-
وعنه عليه السلام: "مَنْ ذَمَّ نَفْسَهُ أَصلَحَها، وَمَنْ مَدحَ نَفْسَهُ ذَبَحه".

4-
وعنه عليه السلام، قال: "دَواءُ النَّفْسِ الصَّومُ عَنِ الهوى وَالحَمِيةُ عَنْ لَذّاتِ الدُّني"4.

ويحدّثنا التأريخ عن نماذج كثيرة من أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، والعلماء الكبار، والمؤمنين المخُلصين، الذين إذا مسّهم إغواء الشّيطان، وإرتكبوا بعض الذنوب، كانوا يسارعون في وضع أنفسهم تحت طائلة العقاب، لئلاّ يتكرّر هذا العمل منهم مرّةً اُخرى في المستقبل، ومنها:


1- ورد أنّ أحد أصحاب النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وإسمه "ثَعلبة"5، كان من الأنصار، وكان يُؤاخي "سعيد بن عبد الرحمن"، وهو من المهاجرين، وصاحَبَ سعيدٌ الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله في إحدى غزواته، وخَلّف ثعلبة في المدينة، مُعتمداً عليه في حلّ مشاكل بيته وعائلته، وما يحتاجونه من باقي الاُمور المعيشيّة، وفي يوم ما، إحتاجت امرأة "سعيد" إلى شيء، فوقفت خلف الباب، تتحدّث مع ثعلبة في ذلك الأمر، فوسوس له الشّيطان في ممارسة الإثم، فكشف عن حجابها، فرآها جميلةً جدّاً، فأراد أن يضمّها إلى صدره، ولكنّها نهرته قائلة له: ما تفعل يا ثعلبة، أمِنَ الحقِّ أن يكون أخوك في الجِهاد، وأنت تُريد بأهلِهِ السّوء؟!

إنتبه ثعلبةُ من نومه وغفلته، وأيقظه هذا النّداء من غيّه، فَصاحَ وفرّ على وجهه في البيداء باكياً، وهو يقول: "إِلَهِي أَنْتَ المُعرُوف بِالغُفرانِ وأَنا المَوصُوفُ بِالعِصيانِ"6.

فبقي في الصحراء مدّةً طويلةً مُعاقباً نفسه، مَضيّقاً عليها لِما صدر منه، وفي قصّة طويلة تحكي أنّه عاد بعدها إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وتاب على يده، فنزلت الآية أدناه لتوكيد قبول توبته، وهي الآية (135) من سورة آل عمران: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَآسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ آلذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.

2-
 نقل عن حالات الفقيه الكبير، المرحوم آية الله، البروجردي قدس سره، عندما كان يجلس للدرس مع طلابه، فربّما بَدَر منه أثناء النّقاش، أن يرفع صوته بالتّوبيخ لأحد طلاّبه، ولم يكن ذلك منه إلاّ من باب المحبّة، و علاقة الأب مع إبنه، فكان يندم مباشرةً و يعتذر، وينذر للصوم في غَدِه ليُكفّر عن فعله، رغم أنّه لم يصدر منه ما يخالف الشّرع.

3- نقلُ أحد كِبار عُلماء الأخلاق، عن أحد الوعّاظ، أنّه عندما كان يصعد على المِنبَر للوعظ  والخطابة، وقبل الشّروع كان يُسلّم على الحسين عليه السلام، ولا يبدأ بكلامه حتى يسمع الجواب منه عليه السلام، هذه الحالة المعنوية، لم تحصل لديه إلاّ بعد حادثة حدثت له مع أحد الوعّاظ، حيث قَرّر في يوم من الأيّام مع نفسه، يكسر مجلس ذلك الواعظ المعروف، بإيراده كلاماً أبلغ وأحلى من كلام ذلك الشّيخ، فتنبّه لِخَطئه، وأخذ على نفسه بعدم إرتقاء المنبر لمدّة (40) يوماً، عِقاباً لنفسه على فعلته تلك، فاُلقي في قلبه ذلك النّور وتلك الحالة الإلهيّة.7

وزبدة الكلام، أنّه وللحصول على النتائج والمعطيات، المرجوّة من المراقبة والمحاسبة، أن يتحرك الشّخص في عملية التّزكية، من موقع معاقبة النفس عند زلَلِها وجُموحها عن الطريق، وإلاّ فلا يمكن تَوخّي النّتائج المطلوبة في نطاق التّهذيب والتّزكية، وهذا لا يعني أننا نُمضي أعمال وفعال بعض الصّوفيين المنحرفين، كما أورد بعضها الغزالي في كتابه: "إحياء العلوم"، فما يفعلوه من أعمال خَشنة مُتهوِّرة، وسلوكيات شاذة، في دائرة معاقبة النفس وجُبران تقصيرها، لا تَمُتّ إلى الدّين بصلة، وقصدنا من المعاقبة، هي أعمالٌ مشروعةٌ في دائرة المفاهيم الإسلاميّة، كالصّوم، ومخالفة الهوى، وحرمان النفس من بعض لذّاتها المادية، التي لا تخدش في سماحة الدين ورأفته، بل هي من اُسسه.

وكما يقول المرحوم النّراقي، في "معراج السّعادة":
إذا صدرت من الشّخص معصية ما، فعليه تأديب نفسه وترويضها، بالعبادات الثّقيلة مثلاً، أو بإنفاق الأموال التي يحبّها ويجمعها، أو يقوم يتجويع نفسه عند أكله لِلُقمة الحرام، أو يؤدب نفسه بالسّكوت، ويمدح الشّخص الذي يغتابه، أو يجبرها بذكر الله تعالى، وإذا إستهان أو استصغر أحداً من الناس لفقره، فليكرمه بالمال الكثير، وكذلك الحال في بقيّة المعاصي، والموبقات التي صدرت منه، ولكلٍّ بِحَسَبِه"8 .

* الأخلاق في القرآن (الجزء الأول)، أصول المسائل الأخلاقية، آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي, المؤسسة الإسلامية, الطبعة الثانية/1426ه, قم.


1- المعروف بين المفسّرين: أنّ "ل" زائدة وللتأكيد، والجدير بالملاحظة أنّه وردت تفسيرات مختلفة "للنفس اللّوامة"، فبعض قال: أنّها إشارةٌ للكفّار والعاصين الذين يلومون أنفسهم في يوم القيامة، وبعض أشاروا إليهم في هذه الدنيا، أنّهم يستحقون الملامة في الدنيا قبل الآخرة، ولكنّ المعنى: "الوجدان أو الضمير المستيقظ"، أنسب من الجميع، و قَسَمٌ القرآن بهاٌ دليلٌ على أفضليّتها على باقي الاُمور.
2- نهج البلاغة، الخطبة 193.
3- غُرَر الحِكَم.
4- المصدر السابق، ح 5153.
5- ثعلبة كان إسماً لعدّة من أصحاب النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وثَعلبةُ هذا، غير ثعلبة بن حاطِب الأنصاري، الذي إمتنع عن أداء الزكاة، فطرده الرّسول والمسلمون.
6- ذكرت هذه القصة في كتب كثيرة، منها خزينة الجواهر، ص320، وكذلك في تفسير الفخر الرازي، في ذيل هذه الآية، بصورة ملخصة، ج9، ص9.
7- وكذلك قصّة علي بن يقطين، و إبراهيم الجمّال المعروفة.
8- معراج السعادة، الطّبعة الجديدة، ص703، (مع شيء من التّلخيص).
2009-07-29