يتم التحميل...

‏الموضوع: جذور تباين القيم في الدنيا

خطاب

الحاضرون: محسن قراءتي (ممثل الإمام ومدير مؤسسة مكافحة الأمية غيوري (ممثل الإمام في جمعية الهلال الأحمر المعلمون في مؤسسة مكافحة الأمية، العاملون في جمعية الهلال الأحمر في عموم البلاد

عدد الزوار: 49

التاريخ 5 دي 1361 هـ.. ش/ 10 ربيع الأول 1403 هـ.. ق‏
المكان: طهران، جماران‏
الحاضرون: محسن قراءتي (ممثل الإمام ومدير مؤسسة مكافحة الأمية غيوري (ممثل الإمام في جمعية الهلال الأحمر المعلمون في مؤسسة مكافحة الأمية، العاملون في جمعية الهلال الأحمر في عموم البلاد

بسم الله الرحمن الرحيم‏

اختلاف القيم باختلاف المدارس الفكرية
نلتقي اليوم والحمد لله فئتين قيمتين. فئة من معلمي الشعب في مختلف انحاء البلاد طبعاً مجموعة منهم. وفئة من العاملين في جمعية الهلال الحمر .. إن المبادئ والقيم تختلف باختلاف المدارس والرؤى. وبقراءة للمذاهب الفكرية في العالم، نستطيع أن ندرك أن القيم تختلف باختلاف المذاهب كما انها تختلف في الأفكار أيضاً. فإذا ما تجاوزتم المدارس التوحيدية والإلهية، وحاولتم استقراء المذاهب المادية والأفكار التي تصب اهتمامها على الماديات، سوف ترون أن هاتين مدرستين متقابلتان ومختلفتان أيضاً.

المدرسة الإلهية التوحيدية والمدرسة المادية بشقيها الماركسي والرأسمالي وأخيراً جميع المذاهب التي تقف وراء المدرسة الإلهية. انظروا إلى بلدنا في زمان الطاغوت والطواغيت، والى القيم التي كانت سائدة في المجتمع والتي كان قد تقبلها تبعاً لحكّامه. فيومئذ لم تكن مظاهر المدنية سائدة. وعلى سبيل المثال فإن وسائل النقل كانت تقتصر على العربات التي تجرها الخيول. فكلما كان عدد الخيول أكبر، ثمانية خيول وربما أكثر، وعدد الخدم الذي يركضون وراءها وحول الإنسان أو غير الإنسان الجالس فيها أكثر؛ كانت قيمته في انظار الناس أكبر. كان ذلك سائداً حتى في أوساط المفكرين والكتّاب، وبين الشعراء والخطباء وأهل الفن يومئذ. فالطبقة التي اطلقت على نفسها اسم طبقة (النبلاء والاعيان) كانت القيمة في نظرهم تتمثل في عدد الخدم وعدد الضيعات والخيول والجلادين والكلاب. وبالنسبة للاقطاعيين فان القيمة بالنسبة لهم كانت تتمثل في زيادة الثروة وتكديسها والتجارة بأي وسيلة ممكنة.

وعندما كنت تنظر إلى عامة الشعب فان القيمة بالنسبة للرجل والمرأة كانت ممثلة في نمط الملبس وخياطته ومظاهر الزينة، فكل من يلبس لباساً أفضل وأكثر أناقة كان يحظى‏ بقيمة واحترام كبيرين بين الناس. وكل امرأة كانت مساحيق وجهها على الطريقة الأوروبية واستلهمت لباسها من هناك، كانت قيمتها بين النساء أكبر، طبعاً لدى الأكثرية. وهذا يعني أن القيمة كلها كانت مقتصرة على الجانب المادي.

وعندما تكون قيمة المرء بالحصان والحمار والكلب والسوط وأمثال ذلك، فان مقياس القيمة يكون أكثر قيمة من الشخص نفسه. فإذا اضحى الحصان مقياس قيمة شخص ما، فان قيمة هذا الحصان تكون أكثر من قيمة هذا الشخص لأنه هو الذي اعطى قيمة للشخص. فإذا كان السجاد والمكياج والكماليات وتسريحة الشعر والموضة التي جاءوا بها من اماكن مختلفة! فإذا كان كل ذلك يزيد من قيمة الإنسان، فمن الطبيعي أن تكون قيمته أكبر من قيمة الإنسان لأنه يشكل مصدر القيمة. أي أن الإنسان بحد ذاته لا قيمة له وانما قيمته تكمن بامتلاكه لحقول تربية الأبقار والبساتين والسجاد وأمثال ذلك. وفي المقاييس العقلية إذا كان مقياس الأثر هو الذي يضفي على صاحبه القيمة، فان قيمته تكون أكبر من قيمة صاحبه.

ينقل أن عارفاً دخل منزل أحد الأمراء، سلطان أو أمير، ورآه منزلًا مزيناً بكل نفيس. وفي هذه الأثناء أراد أن يبصق، فنظر من حوله فلم يجد موضعاً مناسباً فبصق في وجه الأمير. فأعترض الأمير. فقال له العارف: لقد حدقت في ما حولي فلم أر أوسخ من صورتك.

فإذا ما رأى الإنسان الوجه الآخر من العالم، ورأى هؤلاء الذين يرون قيمتهم في هذه الأمور، فحينها سيرى صورهم ممسوخة غير صورة إنسان، فالذي يلاعب الكلاب ويكرس حياته لها، تكون صورته صورة كلب.

العلم والتقوى مقياس القيمة في الأديان التوحيدية
إن مسألة تجسم الأعمال والأخلاق تعتبر من المسلمات لدى الباحثين اصحاب التأمل. وتشير بعض الاحاديث المتوافرة لدينا الى الشخص الذي يغتاب فتصف لسانه بأنه يمتد ما بين مكة والمدينة، وأن الناس يوم الحشر يعبرون من فوق هذا اللسان. هذه عاقبة الغيبة. فالشخص الذي يمتد لسانه كل هذه المسافة ويذكر اعراض الناس بالسوء، فان لسانه في العالم الآخر يمتد بالقدر نفسه الذي إمتد في هذه الدنيا وأن الناس يعبرون من فوقه يوم الحشر كما يذكر الحديث. فإذا كانت قيمة الإنسان بهذه الأمور، ففي هذه الحالة لن تكون هناك قيمة للمعنويات. فهل تتصورون أن هذه الفئة التي ترى قيمتها في هذه الأمور، تؤمن بقيمة لما عند الأنبياء. بل هل يدركون معنى القيمة أصلًا؟ هل تتصورون أنهم يعيرون أهمية إلى ما عند الأنبياء؟ ربما يرددون ذلك بألسنتهم ولكنهم لا يؤمنون به. فلو كانوا يؤمنون به حقاً لسعوا إليه. ولأنهم يفتقدونه ولا يسعون إليه، فمن المؤكد أنهم لا يؤمنون به.

إن المعيار الذي يراه الأنبياء وأولياء الله، وفي طليعتهم القرآن الكريم والرسول الأكرم صلى‏ الله عليه وآله وسلم يتمثل في العلم والتقوى وهما متلازمان. العلم وحده ليس له قيمة أو قيمته ضئيلة، والتقوى وحدها اما أنها لا قيمة لها أو أن قيمتها قليلة. ففي الحديث المنقول عن رسول الله:" قصم ظهري رجلان [أو صنفان‏]: عالِمٌ متهتك وجاهل متنسك" 1. فالجاهل الذي لا يعرف الموازين الإنسانية الإسلامية، فانه مهما كان متنسكاً يعمل خلافاً لسيرة الأنبياء. وان ضرر العالم المتهتك الذي يفتقر للتقوى، على الإسلام أكثر من أي شخص آخر. فالقيمة إذن للعلم والتقوى. وكل شي‏ء يقبل من المتقين. وقد مجد القرآن (العلم) كثيراً ولكن إلى جنب التقوى. العلم وحده لا فائدة ترجى منه بالنسبة للإنسان، إلا وفقاً لمعايير الطبيعة. كما أن التقوى بدون علم، لا توصل الإنسان إلى الكمال.

ضرورة التقوى إلى جنب التعلم‏
إنكم ايها السادة الذين تقومون بهذا العمل النبيل، وهو تعليم الشعب المظلوم الذي كان محروماً من كل شي‏ء في الأنظمة السابقة، وقد عقدتم العزم للقضاء على الأمية، يجب أن تعلموا بأن قيمة عملكم قد صادق عليها القرآن الكريم، ومن الضروري أن يقترن هذا التعليم بالتربية، من خلال الدعوة إلى التقوى. فلا يقتصر عملكم على التعليم وحده، وانما يجب أن تقترن التربية بالتعليم. وان الإنسان يبقى بحاجة إلى التعليم وكذلك الى التربية إلى آخر عمره. فلا يوجد إنسان يستغني عن العلم ولا عن التربية، ومخطئ كل من يتصور بأن وقت التعلم قد مضى، بل كما ورد في الحديث:" اطلب العلم من المهد إلى اللحد". فإن يتعلم الإنسان كلمة واحدة وإن كان في حالة احتضار، أفضل من أن يكون جاهلًا. ويجب أن لا تغفلوا عن التربية وانتم تعلّمون هؤلاء. فالإنسان بحاجة إلى الموعظة، بحاجة إلى التربية، حتى آخر لحظة في عمره. العلم مقرون بالتربية. انهما جناحان يتمكن الإنسان من التحليق بهما في مدارج السير إلى الله تعالى. حاولوا أن تدعوا الناس إلى التقوى مثلما تحرصون على تعليمهم. لتكن الجمل التي تحاولون تعليمهم إياها، تدعو إلى التقوى، وإلى مكارم الأخلاق.

فإذا ما ألقيتم نظرة إلى المناهج التي كانت تدرس في السابق، ترون أنها كانت تبعد الناس عن التقوى، لأنهم كانوا ينشدون العلم بمعزل عن التقوى. وان العلم بمعزل عن التقوى قد افسد بلادنا، العلم بدون تقوى افسد الحكومات. وما ظهر الاشقياء والطغاة إلا لافتقارهم إلى التقوى، وافتقارهم للعلم أيضاً، لذا فهم اسوأ من غيرهم. كما عليكم أن تتحلوا بسعة الصدر في تعليمكم سواء الطفل الصغير أو الشيخ الكبير، لأن تعليم هاتين الفئتين من الناس بحاجة إلى صبر وتحمل. وليكن تعليمكم مقروناً بالتقوى. إن ما ترونه في صلاة الجمعة التي هي أكبر التجمعات التي كانت تشكل القاعدة في الإسلام وبفضل الله تعالى تقام اليوم في إيران بأبهى صورة حيت أُمر الخطيب بدعوة الناس للتقوى نظراً لأهميتها. فبعد التذكير بالتوحيد والصلاة والسلام على النبي الأكرم وأوليائه وذكر اسمائهم، عليه أن يأمر الناس بالتقوى. لأن الشعب اذا اضحى متقياً فان بإمكانه أن يصون نفسه من كل المخاطر التي تواجهه في الدنيا. ونأمل إن شاء الله أن يلتفت ائمة الجمعة أكثر إلى دعوة الناس للتقوى. لا بد من اطلاع الناس على دوافع بعثة الأنبياء وأهدافها.

فالأنبياء جميعاً بعثوا من أجل مكارم الأخلاق:" بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" 2بعثوا من أجل التقوى وبناء الإنسان. وتقع اليوم على عاتق ائمة الجمعة مهمة الأنبياء، فليبذلوا جهدهم في تعليم الناس التقوى ودعوتهم إليها. إن مجرد ذكر التقوى في خطبة الجمعة غير كافٍ، وانما يجب حث الناس عليها.

ليهتم ائمة الجمعة بهذه السمة الإلهية التي بعث الأنبياء من أجلها. كما ينبغي لكم أنتم المعلمون الاهتمام بموضوع التقوى، مثلما يجب على المتعلمين أن يهتموا بها أيضاً. كذلك يجب على اساتذة الجامعات والحوزات الاهتمام بالتقوى، فلا قيمة للعلم بمعزل عن التقوى وان كان علم التوحيد، وان كان علم الأديان. العلم بمفرده إن لم يكن ضرره على الشعوب وعلى الإسلام أكثر من نفعه وهو كذلك فان انعدام التقوى بإمكانه أن يقود الشعوب والبلدان إلى الفناء. لأن الأكثر علماً أكثر قدرة على إفساد الناس.

إذن يجب الاهتمام بالتقوى إلى جانب التعليم. فإذا كانوا أطفالًا فعلموهم التقوى على قدر أعمارهم وفهمهم. وكذلك الأمر بالنسبة للكبار. فلا يتصور الكبار بأنهم في غنى عن ذلك الآن أو أن الوقت قد مضى. الوقت لم يمض، فالإنسان إذا كان يعرف شيئاً أفضل من أن لا يعرف. ومهما يكن فان هذا العمل نبيل للغاية ومسؤوليته جسيمة. وفقكم الله له بمشيئته.

الخدمة في جمعية الهلال الأحمر
والشي‏ء نفسه ينطبق على نشاط جمعية الهلال الأحمر. فإذا كان هدفها إنسانياً إسلامياً، فهو أيضاً من الأمور التي يصدق عليها موضوع التقوى والعلم. إذ أن باستطاعة العلم والتقوى أن يحققا أهداف جمعية الهلال الأحمر القيمة. فالقيمة غير مرهونة بحجم العمل وانما بنوعيته. وإذا ما كانت نوعية عملكم عالية وحجمه كبيراً أيضاً، حينها تكون له قيمة مضاعفة. إن التعامل مع المعاقين والضعفاء وجرحى الحرب والمرضى، عمل قيم للغاية، ففي ذات الوقت الذي يعتبر عملًا صعباً إلا أنه قيم جداً.

واما بالنسبة لما ذكره السيد 3من ضرورة توفير الدعم اللازم لرجال الهلال الأحمر وفقاً لما تنص عليه القوانين الدولية، فلا بد من القول أن حزب البعث العراقي وأمثاله لا يعيرون أهمية للقواعد والمعايير الدولية، بل لا يعيرون أهمية لما بعث من أجله الأنبياء، وهم لا يرون قيمة الإنسان في الإيمان، وإنما في الاستبداد وإراقة الدماء وما هو اسوأ من ذلك. فعندما لا يعترف هؤلاء بمثل هذه القيم بعد أن انحرفت نفوسهم الخبيثة منذ البداية عن الأخلاق، فلا تتوقعوا منهم ان يعملوا بالقواعد والمعايير الدولية. بأية قواعد يعمل هؤلاء؟

وهل يعمل بهذه القواعد أولئك الذين أوجدوا جمعية حقوق الإنسان والمحافل الدولية الأخرى؟ إن أولئك الذين يرفعون عقيرتهم بالدفاع عن حقوق الإنسان، وعندما يصل الأمر إلى أن يقدم حزب البعث الصدامي على قتل وذبح الناس وتشريد كل هؤلاء الأبرياء العزل عن بيوتهم ومدنهم، يحاولون تبرير كل ذلك ويختلقون له الأعذار. هؤلاء أيضاً قد خدعوا. فالعراق يردد أكاذيب كي يبرر أعماله، حيث يزعم كل يوم قصف البصرة. فأين هذه البصرة التي تم قصفها؟ أين أناس هذه المدينة والمدن الأخرى التي يزعم النظام العراقي تعرضها للقصف؟. إن الإسلام لا يسمح بإيذاء الأبرياء بسبب ذنب يرتكبه آخرون. ولكنهم يشيعون مثل هذه الأكاذيب حتى إذا ما ألقوا قنابلهم وقصفوا الأبرياء بصواريخهم وقتلت أعداد كبيرة من النساء والأطفال الأبرياء، سيقولون بأننا ردينا عليهم بالمثل!!.

وعليه فلا تتوقعوا من هؤلاء الذين يرفعون عقيرتهم بمثل هذه الأمور والمطالبة مثلًا بالحفاظ على أرواح عناصر الهلال الأحمر أو الصليب الأحمر، فان هذا مجرد كلام، فهم في الواقع غير ذلك تماماً. فالقيم التي يؤمن بها هؤلاء ليست قيماً إنسانية. والشي‏ء نفسه بالنسبة للقضايا الأخرى وقد ذكرت بعضها. فانظروا أنتم إلى القيم التي كانت سائدة في النظام البائد. فما هي القيم التي كانت سائدة آنذاك؟ ما هي القيم التي كان يرددها الشعراء؟ وما هي القيم التي كان يؤمن بها المثقفون؟ وما هي قيمة الإنسان اصلًا يومئذ؟ وهكذا يتضح أن الأمر لا يتعدى خيارين: سبيل الأنبياء، وطريق الشياطين. الأول سبيل الأنبياء والثاني طريق الطغاة. فالأنبياء يرون القيم بنحو آخر. يرون القيمة للإنسان وليس للمال والجاه والحيوان. الأنبياء يرون قيمة الإنسان فيما يحسنه من علم وتقوى ومكارم الأخلاق. بينما هؤلاء الشياطين يرون القيم في غير ذلك الذي يراه الأنبياء.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم للاهتمام بقيم الأنبياء، وان نسير على خطى الأنبياء ونهجهم، وأن نجتنب القيم الدنيوية التي تتعارض مع سيرة الأنبياء، وننشد الدنيا التي كرمها الأنبياء. أن نتطلع إلى الخدمة التي تكتسب قيمتها بفضل التقوى والعلم. إن شاء الله. وفقكم الله تعالى بمشيئته. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

* صحيفة الإمام، ج‏17، ص: 151


1-بحار الأنوار، ج 2، ص 111، ح 25.
2-بحار الأنوار، ج 16، ص 210.
3-السيد علي غيوري، مندوب الإمام في جمعية الهلال الاحمر للجمهورية الإسلامية الإيرانية.

2011-06-12