الفطرة والعادة
المعرفة
إننا نسمع نداء التوحيد وعبادة الله دائماً من أعماقنا، وإنَّ هذا النداء يقوى ويشتد عند مواجهة المشكلات والصعاب، فنتذكر الله دون اختيار ونستعين بلطفه اللامحدود ومحبّته الشاملة اللانهائيين.هنا قد يسأل سائل: إنَّ هذا الاحساس الدّاخلي الذي نصفه بأنه فطري، ألا يحتمل أنْ يكون من إفرازات المحيط الاجتماعي وتلقينات الأبوين والمعلمين.
عدد الزوار: 210
إننا نسمع نداء التوحيد وعبادة الله دائماً من أعماقنا، وإنَّ هذا النداء يقوى ويشتد عند مواجهة المشكلات والصعاب، فنتذكر الله دون اختيار ونستعين بلطفه اللامحدود ومحبّته الشاملة اللانهائيين.
هنا قد يسأل سائل: إنَّ هذا الاحساس الدّاخلي الذي نصفه بأنه فطري، ألا يحتمل أنْ يكون من إفرازات المحيط الاجتماعي وتلقينات الأبوين والمعلمين في البيت والمدرسة حتى أضحى عادة مألوفة؟
الجواب
جواب هذا السّؤال يتبين بوضوح بالانتباه الى مقدمة قصيرة. إنَّ العادات والرّسوم اُمور طارئة متغيرة وغير ثابتة. أي إنَّنا لا يمكن أنْ نعثر على عادة من العادات ظلت سارية بين البشر على امتداد التاريخ. إنَّ العادة السائدة اليوم قد تتغير غداً، كما أن عادات قوم ورسومهم قد لا تكون كذلك بين أقوام آخرين.
وبناء على ذلك، إذا رأينا أمراً موجوداً عند كل الاقوام والملل وفي كل عصر وزمان، بدون استثناء، أدركنا أنّه لابدّ أنْ تكون له جذور فطرية وأنَّه داخل ضمن تكوين الانسان ونسيجه.
من ذلك تعلق الاُمّ بوليدها، فلا يمكن أنْ يكون هذا الدّافع نتيجة الإيحاء والتلقين ولا عادة من العادات، لأنّنا لا يمكن أنْ نعثر بين قوم من الاقوام أو شعب من الشعوب في أي عصر وزمان على اُمّ تجفو وليدها وترفضه.
بديهي أنّ هناك استثناءات شاذة نجد فيها اُمّاً تقضي على وليدها بسبب بعض الامراض النّفسانية، أو نرى أباً من العصر الجاهلي يئد ابنته متأثراً بمعتقدات خرافية خاطئة. ولكن هذه حالات نادرة سريعة الزّوال، انقرضت من بين الناس وعادت الحالة الى وضعها الطبيعي من حبّ الأبوين لاطفالهما.
بعد هذه المقدّمة نلقي نظرة على قضية عبادة الله بين اُناس هذا العصر واُناس الماضي:
بالنظر لكون هدا المقال على شيء من التعقيد فيرجى ملاحظة ذلك.
1- يؤكد علماء علم الاجتماع والمؤرخون المشهورون أنَّ البشرية لم يمرّ بها زمان ليس لها ضرب من الدين أو الايمان بشيء، فقد كان الدّين موجوداً في كل عصر وزمان. وهذا دليل بيّن على أنَّ عبادة الله تنبع من فطرة الانسان وضميره، ولا دخل للتلقين والرسوم والعادات فيها، إذ لو كان لها أي أثر في إيجاد الدين لما كان عامّاً ولا خالداً.
هنالك قرائن تدل على أنَّ انسان ماقبل التاريخ كان يدين بنوع من الدّين (عصور ما قبل التاريخ تطلق على الازمنة التي مرّت على الانسان قبل اختراع الكتابة، يوم لم يستطع أنْ يترك وراءه كتابات تدلّ عليه).
بديهي أنَّ الانسان القديم البدائي لم يكن قادراً على تصور الله وجوداً فوق الطبيعة، لذلك كان يبحث عنه بين الكائنات الطبيعية، وراح يصطنع لنفسه آلهة أصناماً من بين الكائنات الطبيعية، ولكن الانسان بتقدمه الفكري استطاع بالتدريج أنْ يعثر على الحق، وأنْ يشيح بوجهه عن الاصنام وهي أشياء مادية، ليتوجه الى ما وراء هذا العالم المادي ويتعرف على قدرة الله العظيمة.
2- يصرح بعض علماء النفس بأنَّ لروح الانسان أبعاداً أربعة أو دوافع أربعة
أ- دافع المعرفة: وهو الذي يحث الانسان على طلب العلم ويثير في النفس التعطش الى التعلم، سواء كان ذلك ذا نفع مادي له، أم لم يكن.
ب- دافع الصّلاح: وهو مصدر الاخلاق الانسانية الصالحة في البشر.
ج- دافع الجمال: وهو منشأ ظهور الشعر والادب والفن بمعانيها الحقيقية.
د- الدافع الدّيني: وهو الذى يدعو الانسان الى معرفة الله وإطاعة أوامره.
وعلى هذا فإنَّ الحس الديني ذو جذور أصلية في الانسان، أي أنه لم يفارقه لحظة ولن يفارقه أبداً.
3- ان معظم الماديين والملحدين يعترفون بشكل ما بوجود الله، على الرغم من أنّهم يمتنعون عن ذكر اسمه الصريح، وإنّما يطلقون عليه اسم الطبيعة أو أسماء اُخرى، ولكنّهم يعزون الى الطبيعة صفات أشبه بصفات الله تعالى.
يقولون مثلاً: إذا كانت الطبيعة قد وهبت الانسان كليتين فذلك لأنّها تعلم احتمال اصابة التلف احداهما، فتقوم الاُخرى باداء وظيفتها الحياتية، وما الى ذلك من الاقوال. فهل ينسجم هذا القول مع طبيعة عمياء، أم ينسجم مع إله يتصف بعلم لا نهاية له، وانْ اطلقوا عليه اسم الطبيعة؟
نستنتج ممّا مرّ بنا في البحث الاُمور التّالية
1- حبّ الله كان فينا دائماً وسيكون فينا دائماً أيضاً.
2- الايمان بالله شعلة خالدة تدفىء قلب الانسان وروحه.
لكي نعرف الله لسنا مضطرين للسير مسافات طويلة، بل علينا أنْ ننظر في اعماقنا لنجد الايمان به هناك.
يقول القرآن الكريم: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد﴾(ق:16)
*سلسلة دروس في العقائد الاسلامية، آية الله مكارم الشيرازي، مؤسسة البعثة، ط2، ص27-31