القوانين المحدودة والحاجات غير المتناهية
خاتمية النبوة
إنّ توسع الحضارة يُلزم المجتمع بتنظيم قوانين جديدة تفوق ما كان يحتاج إليها فيما مضى، وبماأنّ الحضارة والحاجات في حال التزايد والتكامل، فكيف تعالجُ القوانينُ المحدودةُ الواردةُ في الكتاب والسنّة الحاجاتِ غيرالمحدودة.وبماأنّ الإسلام نظام تشريعيّ كاملٌ,تَدَخَّل في شؤون المجتمع كافّة، ثقافيّها، وسياسيّها، واجتماعيّها...
عدد الزوار: 190
إنّ توسع الحضارة يُلزم المجتمع بتنظيم قوانين جديدة تفوق ما كان يحتاج إليها فيما مضى، وبما أنّ الحضارة والحاجات في حال التزايد والتكامل، فكيف تعالجُ القوانينُ المحدودةُ الواردةُ في الكتاب والسنّة الحاجاتِ غير المحدودة.
وبما أنّ الإسلام نظام تشريعيّ كاملٌ، تَدَخَّل في شؤون المجتمع كافّة، ثقافيّها، وسياسيّها، واجتماعيّها، وعسكريّها، وعائليّها، وأغنى المجتمع عن كل تشريع سوى تشريعه، فعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه: إنّ القوانين الواردة في الكتاب والسنّة، محدودة مهما توسّع نطاقها، فكيف تُغني المجتمع عن ممارسة التشريع في الحوادث والموضوعات الّتي لم يكن بها عهد زمن نزول القرآن وبعثة الرسول.
نعم، المسيحية أراحت نفسها من الإجابة عن هذا السؤال بادّعاء أنّ نظامَها لا يخرج عن الطقوس الفردية والعبادية، وإنّما هو الإسلام، الّذي يدّعي إغناء المجتمع عن كل تشريع في جميع حقول الحياة.
الجـــواب
إنّ خلود التشريع الإسلامي، وغناه عن كل تشريع، مبني على وجود أمرين فيه:
1- أنّه ذو مادة حيوية، خلاّقة للتفاصيل مهما كثُرت الحاجات واستجدّت الموضوعات.
2- أنّه ينظر إلى الكون والمجتمع بسعة ورحابة، مع مرونة خاصة تساير الحضارات الإنسانية المتعاقبة. وإليك بيان كلا الأمرين:
أما الأمر الأول: فقد أحرزه بتنفيذ أُمور:
1ـ الاعتراف بحجيّة العقل في مجالات خاصة
اعترف القرآن والسنّة بحجيّة العقل في مجالات خاصة، ممّا يرجع إليه القضاء فيها، ولا يكون هو أجنبيّاً بالنسبة إليها، وذلك كما في باب الملازمات الّتي ستأتي الإشارة إلى عناوينها. وليس المراد من حجّيته، أنّه يُطلق سراحه في مجال التعبديّات الّتي لا طريق إليها إلاّ بالوحي، فإنّه لا صلاحية له في ذاك المجال.
وأمّا الملازمات الّتي تعدّ من الأحكام العقلية القطعية، وهي مرادهم من قولهم بأنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع، فأمثلتها
أ- الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته.
ب- الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضده.
ج- الملازمة بين عدم جواز اجتماع الأمر والنهي، وبطلان العبادة.
د- الملازمة بين النهي عن العبادة والمعاملة، وفسادهما.
ه- الملازمة بين المنطوق والمفهوم في القضايا الشرطية، أو الوضعية، أو المُغَيَّاة بغاية.
ونظير ذلك ما يستقل به العقل من أحكام عقلية تلازم أحكاماً شرعية، كاستقلاله بقبح العقاب بلا بيان، الملازم لعدم ثبوت الحرمة والوجوب إلاّ بالبيان. واستقلاله بلزوم الاجتناب عن أطراف العلم الإجمالي في الشبهات التحريمية، ولزوم الموافقة القطعية في الشبهات الوجوبية، واستقلاله بإجزاء إطاعة الأوامر الاضطرارية أو الأوامر الظاهرية، وغير ذلك. ولعلّ الكلّ يرجع إلى مبدأ واحد، وهو استقلاله بالتحسين والتقبيح الذاتيين، وهذا هو المنتج لهذه الملازمات والأحكام.
وقد فتح هذا الاعتراف، للإسلام، باب البقاء والخلود، وغدا التشريع الإسلامي في ضوئه ذا سعة وشمول لكثير من الموضوعات المستجدة أو غيرها ممّا لم يذكر حكمه في الكتاب والسنّة.
نعم، مَنْ أعدم العقل وعزله عن الحكم في مجالاته الخاصة به أعطى للإسلام ولقوانينه سمة الجمود، وعدم الشمول كما أنّ مَنْ فَسَح المجال للعقل للحكم في كل مورد ليس له طريق إليه، جعل التشريع الإسلامي لعبة تتلاعب بها الأهواء.
وبما أنّ هذا البحث، بحث يرجع إلى علم أُصول الفقه، نقتصر على هذا القدر، ونختم الكلام بحديث عن الإمام الطاهر، موسى بن جعفر الكاظم، وهو يخاطب تلميذه هشام بن الحكم، بقوله: "إنّ لله على الناس حجتين: حجةً ظاهرة، وحجةً باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء، والأئمة، وأمّا الباطنة فالعقول"1.
2- الاعتراف بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد
الأحكام الشرعية حسب ما ينصّ عليه الكتاب تابعة للمصالح والمفاسد، فلا حرام إلاّ لمفسدة في اقترافه، ولا فريضة إلاّ لمصلحة في الإتيان بها. ولا يراد من المصالح والمفاسد خصوص الدنيوية، بل الأعمّ ممّا يرجع إلى سعادة البشر في دنياه، وفي أُخراه.
يقول سبحانه: ﴿ِإنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون﴾(المائدة:91).
فإذا كانت الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، وكانت الغاية المتوخاة من تشريعها هي الوصول إلى المصالح والتحرز عن المفاسد وبما أنّ المصالح والمفاسد ليست على وزان واحد، بل لها درجات ومراتب، عَقَدَ الفقهاءُ باباً لتزاحم الأحكام وتصادمها، فيقدمون الأهمّ على المهم، والأكثر مصلحة على الأقل منه، والأعظم مفسدة على الأحقر منه. وقد أعان فتح هذا الباب على حلّ كثير من المشاكل الاجتماعية، الّتي ربما يتوهّم الجاهل أنّها تعرقل خطى المسلمين في معترك الحياة.
ومن أمثلته: إنّ تشريح بدن الإنسان في المختبرات، من الأُمور الضرورية الحيوية الّتي يتوقف عليها نظام الطب اليوم. غير أنّ هذه المصلحة تصادمها حرمة التمثيل بالميِّت، مسلماً كان أو كافراً، ولكن عناية الشارع بالصحّة العامة تجعل إحراز هذه المصلحة مقدّمة على المصلحة الأُخرى، وهي حرمة الميت، ولكن يقدم في هذا المجال بدن الكافر على المسلم، والمسلم غير المعروف على المعروف، وهكذا. وفي ضوء هذا المثال نقدر على طرح أمثلة كثيرة.
3- الكتاب والسنّة مادة للتشريع
إنّ الكتاب والسُّنّة مشتملان على أُصول وقواعد، تفي باستنباط آلاف من الفروع الّتي يحتاج إليها المجتمع البشري على امتداد القرون والأجيال. وهذه الثروة العلمية الّتي اختصّت بها الأُمّة الإسلامية من بين سائر الأُمم، أغنت المسلمين عن التمسّك بكل تشريع سواه.
وتتجلى تلك الحقيقة إذا وقفنا على مرمى حديث الثقلين، وأنّ العِتْرة الطاهرة، قرناء القرآن وأعداله، لا يفترقان أبداً، ففي ضوء الأحاديث الواردة عن الأئمة الاثني عشر من أهل بيت الرسول الأعظم، قَدِرَ التشريع الإسلامي على مذهب الإمامية على استنباط أحكام الموضوعات المستجدة الكثيرة، بوضوح وانطلاق، ولم يُرَ هناك قُصور فيه.
نعم، إنّ من اقتصر في مجال السنّة على خصوص ما روته الصحابة عن النبي الأكرم، لم يَرَ بدّاً من اللجوء إلى مقاييس وقواعد ظنية ما أنزل الله بها من سلطان، كالقول بالقياس والاستحسان والاستقراء، وغيرها من الظَّنِّيات الّتي نَهَى الشارع المقدس عن التعبد بها في مجال العبودية، بقوله: ﴿قُلْ اَللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾؟(يونس:الآية 59).
هذا، وإنّ الأحاديث الإسلامية في مجال الأحكام الفرعية، الواردة عن طريق الصحابة، المنتهية إلى النبي الأكرم، لا تتجاوز خمسمائة حديث، تَمُدّها أربعة آلاف2.
ومن المعلوم أنّ هذا المقدار من الأحاديث لا يفي بحاجات المجتمع البشري إلى يوم القيامة، وهذا يعرب أنّ الرسول لم يترك الأُمّة سدى، ولم يدفعهم إلى العمل بمقاييس ظنية لا دليل عليها، وإنّما عالج هذه لناحية الحيوية بالأمر بالرجوع إلى عترته الطاهرة.
إنّ من المؤسف جداً، رفضَ الروايات المروية عن أئمة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ ، الذين اعترف القريب والبعيد بطهارتهم ووثاقتهم وعُلُوّ شأنهم، والأخذ بمقاييس ظنية، وإدارة رحى التشريع بها. "وَدَعْ عَنْكَ نَهَباً صيح في حجراتِهِ".
4- تشريع الاجتهاد
المراد من الاجتهاد هو بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية عن مصادرها المعيّنة، وهو رمز خلود الدين وبقاء قوانينه، لأنّه به تحفظ غضاضة الدين وطراوته، ويصان عن الاندراس، وبالتالي يستغني المسلمون عن موائد الأجانب.
أمّا لزوم فتح هذا الباب، ولا سيما في العصر الحاضر فليس شيئاً يحتاج إلى البرهنة، إذ لم تزل الأُمّة الإسلامية، في أعصارها الغابرة والحاضرة، أمام موضوعات مستجدة وطارئة، فيجب عليها عند ذلك أن تختار سلوك أحد السبل التالية:
- إمّا بذل الوُسْع في استنباط أحكامها من الكتاب والسُّنّة والعقل.
- أو اتّباع القوانين الوضعية البشرية من غير نظر إلى مقاصد الشريعة.
- أو الوقوف والسكوت من غير إفتاء.
ولا شك أن المتعين هو الأول.
وقد كان الاجتهاد مفتوحاً بصورته البسيطة بين الصحابة فالتابعين، كما أنّه لم يزل مفتوحاً على مصراعيه بين أصحاب الأئمة الاثني عشر، وهم الذين قالوا لشيعتهم: "إنّما علينا إلقاء الأُصول وعليكم التفريع"3.
وإنّ من مواهب الله تعالى، العظيمة، على الأُمّة الإسلامية، تشريع الاجتهاد، وفسح المجال لعلماء الأُمّة لأن يناقشوا أفكارهم، فلم تقم للإسلام دعامة، ولا حفظ كيانه ونظامه إلاّ على ضوء هذه البحوث والمناقشات العلمية وردّ صاحب فكر على ذي فكر آخر، وقد حكى شيخنا العلامة المتضلع، شيخ الشريعة الأصفهاني رحمه الله عن بعض الأعلام، قوله: "إنّ عدم محاباة العلماء، بعضهم لبعض، من أعظم مزايا هذه الأُمّة، الّتي أَعْظَمَ الله بها عليهم النعمة، حيث حفظهم عن وصمة محاباة أهل الكتابين، المؤدية إلى تحريف ما فيهما، واندراس تينك الملتين، فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخل إلاّ بيّنوه، ولفاعل فيه اعوجاج إلاّ قوّموه، حيث اتّضحت الآراء وانعدمت الأهواء، ودامت الشريعة البيضاء، على مِلء الآفاق بأضوائها، مأمونة عن التحريف، ومصونة عن التصحيف"4.
وقد جَنَت بعض الحكومات الإسلامية، حيث أقفلت باب الاجتهاد، في أواسط القرن السابع، وحرمت الأُمّة الإسلامية من هذه الموهبة العظيمة، يقول المقريزي:
"استمرت ولاية القُضاة الأربعة، من سنة 665، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام، غير هذه الأربعة وعودي من تمذهب بغيرها، وأُنكر عليه، ولم يُوَلَّ قاض، ولا قُبلت شهادة أَحد، ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار، في طول هذه المدة، بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعمل على هذا إلى اليوم"5.
ومن بوادر الخير أَنْ وَقَفَ غيرُ واحد من أهل النظر من علماءِ أهل السنة، وقفة موضوعية، وأحسّوا بلزوم فتح هذا الباب بعد قفله قُرُوناً6.
5- حقوقُ الحاكِم الاسلامي
من الأسباب الباعثة على كون التشريع الإسلامي، صالحاً لحل المشاكل، أنّه منح للحاكم الإسلامي كافة الصلاحيات المؤدية إلى حقّ التصرّف المطلق في كل ما يراه ذا صلاحية للأُمّة، ويتمتع بمثل ما يتمتع به النبي والإمام من النفوذ المطلق، إلاّ ما يعد من خصائصهما.
مثلاً: إذا رأى الحاكم أنّ المصلحة تقتضي فتح طريق أو شارع في أملاك الناس، فَلَهُ أَنْ يُقَرِّرَ وينفِّذَ ما يحقّق هذه الغاية في ضوء العدل والإنصاف: فله أن يُجْبِرَ أصحابَ الأراضي الّتي يمرّبها الطريق، على بيع أراضيهم أو يشتريها بثمن مناسب.
أو إذا أراد رفع المعيشة العامة إلى مستوى خاص، فله وضع الضريبة على صنف خاص من أبناء الشعب، أوكلّهم لتأمين هذه الغاية.
كما أنّ له أن يقرر ما يراه مناسباً لتنظيم السير في الشوارع، متوخياً في ذلك سلامة النفوس، وسهولة الذهاب والإياب، كلّ ذلك في إطار العدل والإنصاف والقوانين العامة الإسلامية.
قال المحقق النائيني رحمه الله : "فُوّضَ إلى الحاكم الإسلامي وضع ما يَراهُ لازماً من المقررات، لمصلحة الجماعة وسدّ حاجاتها في إطار القوانين الإسلامية"7.
وهذه الحقوق ثابتة للنبي الأكرم، لقوله سبحانه: ﴿النَّبي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾(الأحزاب:6).
كما أنّها ثابتة لخلفائه المعصومين، وبعدهم لعلماء الأُمّة وفقهاء الدين الذين أُلقيت على كواهلهم أُمور تدبير حياة الأُمّة، وصيانة الشريعة.
وهناك كلمة قيمة للإمام الخميني قدس سره نأتي بنصّها:"إنّ الحاكم الإسلامي إذا نجح في تأسيس حكومة اسلامية في قطر من أقطار الإسلام، أو في مناطقه كلّها، وتوفرت فيه الشرائط والصلاحيات اللازمة، وأخُصُّ بالذكر: العلم الوسيع، والعدل، يجب على المسلمين إطاعته، وله من الحقوق والمناصب والولاية، ما للنبيّ الأكرم من إعداد القوات العسكرية، ودعمها بالتجنيد، وتعيين الوُلاة وأخذ الضرائب، وصرفها في محالها، إلى غير ذلك...
وليس معنى ذلك أنّ الفقهاء والحُكّام الإسلاميين، مثل النبي والأئمة في جميع الشؤون والمقامات، حتى الفضائل النفسانية، والدرجات المعنوية، فإنّ ذلك رأي تافِهٌ لا يُركنُ إليه، إذ إنّ البحث إنّما هو في الوظائف المحولة إلى الحاكم الإسلامي، والموضوعة على عاتقه، لا في المقامات المعنوية والفضائل النفسانية، فإنّهم صولات الله عليهم، في هذا المضمار، في درجة لا يدرك شأوهم، ولا يشق لهم غُبار، حسب روائع نصوصهم وكلماتهم.
وليست السلطة مفخرة للحاكم يعلو بها على سائر المحكومين، بل هي من وجهة النظر الإسلامية مسؤولية اجتماعية كبرى أمام الله سبحانه أوّلاً، وأمام المسلمين ثانياً. والجهة الجامعة ما بين الحاكم والإمام في إدارة دفة الحكم وسياسة العباد، ليس لها أي ارتباط بالمُثُل الخلقية والصفات النفسانية"8.
ثم إنّ البحث حول حقوق الحاكم الإسلامي، الّذي يمهّد الطريق لسيادة الأحكام الإسلامية طويل الذيل يرجع فيه إلى مفاهيم القرآن9.
وأمّا الأمر الثاني، وهو أنّ التشريع الإسلامي ينظر إلى الكون والمجتمع بسعة ورحابة، مع مرونة خاصة تساير الحضارات الإنسانية المتعاقبة، فقد أحرز ذلك بتحقيق أُمور ثلاثة:
1- النظر إلى المعاني دون الظواهر
الإسلام يهتم بالمعنى دون الظاهر، وهذه إحدى العِلَل لبقاء أحكامه وخلودها، وقد أوضحنا حال ذلك عند البحث عن إتّقان التشريع والتقنين الإسلامي
2- الأحكام الّتي لها دور التحديد
من الأسباب الموجبة لمرونة هذا الدين وصلاحيته للبقاء، وجود قوانين حاكمة على القوانين العامة، مثل قاعدة، "لا حرج"، و"لا ضَرَرَ"، وغير ذلك ممّا أوضحنا حاله عند البحث عن إتقان التشريع والتقنين الإسلامي.
3- الإسلام شريعة وُسطى والأُمّة الإسلامية أُمّة وَسَط
من الأسباب الدافعة إلى صلوح الإسلام للبقاء والخلود، كونه ديناً جامعاً بين الدعوة إلى المادة، والدعوة إلى الروح، وديناً وسطاً بين المادية البحتة، والروحيّة المحضة، وبذلك جاء شريعة تامّة لم تعطّل الفطرة في تشريعاتها، ولم تلقي حبلها على عاتقها لتخرج عن حدودها، فأخذت من الدنيا ما هو لصالح العباد، ومن الآخرة مثله.
فكما أنّ الإسلام ندب إلى العبادة، ندب إلى طلب الرزق أيضاً، بل ندب إلى ترويح النفس، والتخلية بينها وبين لذاتها.
قال الإمام أمير المؤمنين عليه السَّلام: "للمؤمن ثلاثُ ساعات: ساعةٌ يُناجي فيها ربَّه، وساعة يَرُمّ فيها معاشه، وساعةٌ يُخلّي بين نفسه ولذّاتها"10.
فقد قرن بين عبادة الله، وطلب الرزق، وترفيه النفس، بحيث جعل الجميع في مستوى واحد.
فكما أنّ أداء الصلاة والصوم، والحج، وظائف دينية، فكذلك انشقّ الطريق لطلب الرزق والمعاش، والقيام بنزهة بين الرياض، أو سباحة في الأحواض، والأعمال الرياضية البدنية، وظيفة دينية للمؤمن، ولأجل هذا ينسجم الإسلام مع الحضارات المتواصلة.
*الإلهيات.آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام،ج3،ص519-529
1- الكافي، ج 1، ص 16.
2- لاحظ الوحي المحمدي، لمحمد رشيد رضا، الطبعة السادسة، ص 212.
3- الوسائل، ج 18، كتاب القضاء، الباب السادس من أبواب صفات القاضي، الحديث 52.
4- بانة المختار، ص 1.
5- الخطَطُ المقريزية، ج 2، ص 344.
6- لاحظ تاريخ حصر الاجتهاد، لشيخنا العلامة الطهراني، ودائرة المعارف لفريد وجدي، مادة (جهد) و(ذهب). وغير ذلك ممّا أُلف في هذا المضمار.
7- تنبيه الأُمّة وتنزيه المِلّة، ص 97.
8- ولاية الفقيه، للإمام السيد الخميني، ص 63 ـ 66. وقد كان سماحته حيّاً يرزق ونحن نجري القلم على هذه المواضع، لكنه لبّى دعوة ربّه والتحق بالرفيق الأعلى ليلة الأحد التاسع والعشرين من شهر شوال عام 1409 للهجرة. وقد كان قدس سره رجلاً مثالياً في التقوى، وبطلاً في العلم ومجاهداً مناظلاً في سبيل إعلاء كلمة الحق. وبالحق كان مصداقاً لقول الشاعر: ليس من الله بِمُسْتَنْكر * أَنْ يَجْمَعَ العالَم فيِ واحد أعلى الله مقامه، ورفع في الجنان درجته.
9- قد أشبع شيخنا الأستاذ دام ظله الكلام في هذا المضمار، فلاحظ "مفاهيم القرآن"، ج 2، ص 265 ـ 296.
10- نهج البلاغة، باب الحِكم، رقم 390.