يتم التحميل...

أسئلة حول المعاد

أدلة المعاد

إن تكامل الانسان من خلية إلى أن يصير بدناً متكاملا، رهن تفاعلات تدريجية، معلومة لكلّ منّا، فهل عود الانسان الى الحياة من جديد رهن هذا الناموس التدريجي أو لا؟...

عدد الزوار: 105

إن تكامل الانسان من خلية إلى أن يصير بدناً متكاملا، رهن تفاعلات تدريجية، معلومة لكلّ منّا، فهل عود الانسان الى الحياة من جديد رهن هذا الناموس التدريجي أو لا؟

الجواب
كل من أراد تفسير المعاد من هذا الطريق، يريد إخضاع المسائل الغيبية، للقوانين الطبيعية المحسوسة، و لكن السمع يرد هذا الفرض، ويعرّف المعاد بأنّه يحصل دفعة، و الآيات في هذا المجال متعددة، منها قوله سبحانه: ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الاَْرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ(الروم:25).

والآية ظاهرة في أنّ الدعوة تكوينية متعلقة بإعادة خلق الانسان من جديد، و أن تلك الدعوة التكوينية الملازمة لخلق الإنسان، مقارنة لخروجه، فالدعوة و الخروج يتحققان في زمن واحد. و يؤيد ذلك الآيات الكثيرة التّي تصرح بأن القيامة، تحدث بغتة و فجأةً و هم لا يشعرون، كقوله سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَافَرَّطْنَا فِيهَا(الأنعام:31)1. وهذه الآية وإن كانت واردة في الموجودين زمن حدوث القيامة، و لكن لو كان تكوّن الاموات تحت التراب أمراً تدريجياً، لعلم به الأحياء قبيل حصول القيامة، لفحصهم الدائم في الارض.

ما هو المحشور من الأبدان المتعدد؟
أثبت العلم أنّ بدن الانسان وخلاياه في مهب التغيّر والتبدل، و انّه يأخذ لنفسه في كل عشرة أعوام بدناً، فلو عاش انسان ثمانين سنة، فانّه سيكون له ثمانية أبدان، ومن المعلوم أنّ الاطاعة والعصيان يقعان في جميع فترات عمر الانسان، و الجزاء و الثواب على مجموع الأعمال.

وعندئذ يتساءل هل المحشور جميع أطوار بدن الانسان الواحد، فهو غير معقول، أو واحد من هذه الأبدان، وهو يستلزم نقض قانون الجزاء والثواب، وأن يكون بدن واحد حاملا لأوزار الأبدان الأُخر.

والجواب
انّ هذا السؤال نابع من إنكار الروح والاعتقاد بأصالة المادة وأمّا على ما ذكرنا من أنّ البدن ليس إلاّ أداة لتنعيم الإنسان وتعذيبه، وأن الأمور الروحية من الفرح والحزن واللذة والألم، كلها أمور مربوطة بالروح، ويتوصل إليها الروح بالبدن والاجهزة الظاهرية، فالنغمة الملذة، انما يصل إليها الانسان من طريق الجهاز السمعي، فانه آلة، والملتذ هو الروح، والمناظر الخلابة انما تصل إليها النفس عن الطريق العين، وهكذا سائر اللذات، والآلام الروحية، وعلى ذلك فالحافظ للعدالة هو أن ترد اللذة والألم على روح واحدة، من غير فرق بين الأبدان.

وهذا نظير تعذيب بعض المجرمين باكسائهم ثوباً ليمسهم العذاب من طريقه، فالمضروب ظاهراً هو اللباس، ولكن المتألم هو الانسان.

وبعبارة أخرى: إن الروح هي الرابط الوثيق بين جميع الأبدان، فهي تضفي عليها جميعها وصف الوحدة، و تعرّفها جميعاً بأنها فلان بن فلان، من دون أن يضر اختلافها في الهيئة والشكل والحجم بوحدة الانسان، هذا.

وربما يتخيّل أنّ المعاد هو البدن الأخير، الّذي هو عصارة جميع الأبدان الماضية، والجامع لعامة خصوصياتها.

ولكن غير خفيّ أنّ هذا الاصل المزعوم (وهو كون البدن الأخير، عصارة الأبدان المتقدمة) مما لا أصل له، لأنّ الأبدان في الفترات المتوسطة من العمر، لها من القوة والنشاط ما تفقده الأبدان الواقعة في العقود الأخيرة من العمر.

أضف إلى ذلك أن الجواب مبني على إعطاء الأصالة للمادة، وزعم أنّ الانسان هو نفس الجلود واللحوم والعظام وأن البدن الأخير عصارة كلّ ما تقدّم.

نعم، ربما يستظهر من قوله سبحانه: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِنَ الاَْجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ(يس:51) أنّ المعاد هو البدن الأخير، ولكنّ الاستظهار في غير محله فانّ الآية كناية عن خروج الناس من التراب للحساب والجزاء نظير قوله تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى(طه:55). وأما كون الخارج هو البدن الأخير فليست الآية بصدد بيانه.

والشاهد على ذلك أنّ من الناس من يخطفه الطير، أو تفترسه السباع، أو يحيط به الموج فتأكله حيتان البحر، أو تصيبه نار فتحرقه، والآية تعم هذه الأصناف أيضاً، مع أنهم لم يقبروا في الأجداث.

هل المعاد إعادة للمعدوم؟
إذا كان الموت إفناء للانسان أو لبعضه، فكيف يمكن إعادة ما بطل وانعدم؟ فانه لا يكون إلا خلقاً جديداً لا إعادة له خصوصاً اذا لم يكن بين المبتدأ والمعاد رابطة وصلة.

والجواب
إنّ هذا السؤال نابع ممّا يزعمه السذج من الناس من أنّ الموت اعدام لجثة الانسان و بدنه نظير إحراق الحطب، فأنّ قسماً منه يتبدل الى الدخان و ينعدم، و لا يبقى منه إلا شيء ضئيل نسميه بالرماد، فلو كان الموت بهذا المعنى فيكون المعاد إعادة للانسان المعدوم.

ولكن قانون بقاء المادة، يبطل هذا الزعم، فانّه ينص على أنّ المادة لا تنعدم، بل تتحول من صورة الى صورة أُخرى2.

وعلى ضوء هذا، فالتفاعلات الحاصلة في المادة الحيّة، أو غير الحية، لا تنقص من وزن المادة شيئاً، فالعالم من حيث الوزن ثابت، وانّما الاختلاف في الصور والانواع، وهذا القانون دعم دعوة الأنبياء بأنّ البشر خلقوا للبقاء لاللفناء، كما دفع توهم كون الموت اعدام لقسم من مادة البشر، وأثبت أنّ هناك مادة واحدة ثابتة في مهب التفاعلات الفيزيائية والكيميائية والحيوية، وانما التغير في الصورة الطارئة عليها.

نعم، سبقه علماء الاسلام، في تأسيس هذا الأصل لكن بصورة أوسع و هو أنّ الوجود لا يتطرق إليه العدم.

شبهة عدد كفاية الموادّ الأرضية لاحياء الناس
قد كشفت التنقيبات الجيولوجية والأتربة على أن الانسان يعيش في هذا الكوكب منذ قرابة مليوني سنة، وعلى هذا فلو كان المعاد عاماً لجميع الناس، الذين عاشوا على هذه الكرة، فكيف يكون ترابها كافياً لاحيائهم، فان المعاد حسب ما مرّ معاد عنصري، يعود كل إنسان إلى بدنه العنصري، فالمعاد كثر، مع أن ما يعادون به، وهو المواد العنصرية الأرضية قليل لا يكفيهم.

قال صدر المتألهين في بيان هذه الشبهة: "إن جرم الأرض مقدور محصور ممسوح بالفراسخ والأميال والأذرعة، وعدد النفوس غير متناه فلا يفي مقدار الأرض، ولا يسع لأن تحصل منه الأبدان غير المتناهية3".

والجواب عن هذا السؤال من جهات ثلاث: عقلية وعلمية وسمعية
الجهة الأولى: الجواب العقلي و هو أمور

أوّلا: إن ما تنقله لنا هذه التنقيبات و الحفريات التاريخية و الطبيعية على درجة يفيد القطع واليقين، حتى نرفع باقوالهم اليد عن الوحي الالهي أو نتردد في صحة المعاد.

وثانياً: لم يدل دليل على أن بدن الانسان كنفس البدن الدنيوي في الحجم والوزن وسائر الجهات المادية المادية، بل يكفي أن يصدق على المعاد أنه نفس المبتدأ وأما المطابقة في سائر الجهات فلم يدل عليها دليل.

وثالثاً: لو فرض عدم كفاية المواد الترابية لإحياء جميع من قطنوا هذا الكوكب، فلا مانع من تكميلها بتراب الكرات الأُخرى، وليس ذلك على خلاف العدل، لما عرفت من أنّ الثواب و العقاب بملاك الروح والنفس، فالنفس الانسانية اذا أُدخلت في أي بدن كان، وحُشرت مع أي جسم انساني فهو هو، و ليس غيره و انما يكون البدن أداة و وسيلة لتعذيبه، و تنعمه، و لولا دلالة القرآن على أنّ المعاد في الآخرة عنصري، لكان العقل مكتفياً باعادة الروح و النفس غير انّ اصرار الذكر الحكيم، على كون المعاد عنصرياً، يصده عن الاكتفاء بالمعاد الروحاني.

وعلى ضوء ذلك، فلو كانت المواد الأرضية غير كافية لاحياء كل من سكن هذا الكوكب، فلا مانع من تكميل بدن كل إنسان بمواد من كواكب أُخرى.

هذه الأجوبة، أجوبة عقلية، وهناك أجوبة أخرى تعتمد على ا لتجربة والدليل العلمي.

الجهة الثانية: الجواب العلمي، وهو أُمور
إن ما ذكروه من عدم كفاية تراب الأرض لإحياء الناس باطل بالنظر إلى حجم المواد الأرضية وذلك لأن حجم الكرة الأرضية يبلغ ألفاً وثلاثة وثمانين ملياراً وثلاثمائة وعشرين مليون كيلومتر مكعب4، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى إنّ صندوقاً بحجم كيلومتر مكعب، بمعنى أنّ كلا من طوله وعرضه وارتفاعه يبلغ كيلو متراً واحداً، انّ مثل هذا الصندوق يسع داخله لأضعاف عدد سكان الأرض الحاليين5.

وذلك أنّ كل كيلومتر في الطول يسع خمسة آلاف إنسان، يقف كل منهم إلى جانب الآخر، و كل كيلومتر في الارتفاع يسع سبعمائة و خمسين إنساناً متوسط طول الواحد منهم متراً و نصف المتر، يقف كل منهم على رأس الآخر، فاذا أردنا حساب من يمكن أن يحويه ذاك الصندوق، فما علينا إلا أن نضرب الطول بالعرض بالارتفاع6، فتكون النتيجة اتساع هذا الصندوق لثمانية عشر مليار، و سبعمائة و خمسين مليون إنسان.

هذه سعة الكيلومتر المكعب الواحد، فما ظنك بسعة ألف وثلاثة و ثمانين مليار، و ثلاثمائة و عشرين مليون كيلومتر مكعب؟ إنها بالتأكيد تكفي لأضعاف لا تحصى ممن قطن هذه الكرة الأرضية.

فمسألة قلة المواد الأرضية لإحياء الناس، مسألة ذهنية طرحت من غير تدبر في حجم العالم.

2- إنّ بدن الانسان لا يتشكل من التراب فحسب، بل الماء و الغازات من العناصر الرئيسية التّي يتكون منها بدن الانسان. ويحيط بالأرض طبقة من الغازات تسمى بالغلاف الجوي، تبلغ في الارتفاع والسماكة ألف كيلومتر، و تبلغ في الوزن خمسة ملايين مليار طن7 هذا في جانب الغازات.

وأما في جانب المياه المتواجدة على سطح الكرة الأرضية فيكفينا أن نعرف أنّ القاء حجر في إناء مملوء من الماء، يوجب ارتفاع سطح الماء بما يساوي حجم هذا الحجر، هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى، أثبت الحديث أننا لو جمعنا كل البشر الّذين يقطنون الكرة الأرضية8 وألقيناهم في بحيرة قزوين، فسوف لن يصل ارتفاع الماء في البحيرة الى سنتيمتر واحد بل يكون أقلّ منه، بمعنى أنّ ارتفاع المياه لن يكون محسوساً لنا.

هذا وليست هي إلا بحيرة9 فما ظنّك ببحار الدنيا ومحيطاتها.

3- إن النيازك المشاهدة في الليالي هي نتيجة وصول أحجار وأتربة وأجسام ثقيلة من الفضاء الخارجي الى الغلاف الجوي، فيوجب احتكاكها الشديد به احتراقها وتناثرها، وهبوطها على الأرض ذرات خفيفة لا تزعج الحياة عليها و هذه الأحجار توجب ازدياد المواد الأرضية زيادة مطّردة بشكل يومي، و قال العلماء انّ عشرين مليون حجراً فضائياً يصطدم يومياً بالغلاف الجوي و هي تسير بسرعة خمسين كيلومتراً في الثانية، فتتلاشى و تتناثر و تهبط بلا ازعاج على القشرة الأرضية10.

وعلى هذا، فالمواد الأرضية لم تزل في حال التوفر والازدياد، واللّه يعلم الى أي حد يصل حجمها الى يوم البعث.

4- وصل العلم الى أنّه لو كانت هناك قدرة على ازالة الفراغات المتخللة بين ذرّات المواد الأرضية لبلغت هذه الكرة العظيمة الهائلة في الحجم، مقدار جوزة صغيرة. ولو فرض افراغ فواصل ذرّات المنظومة الشمسية، بشمسها وسيّارتها الكبيرة والصغيرة، لبلغ حجمها مقدار فاكهة كبيرة كالبطيخ هذا من جانب.

ومن جانب آخر، لو ازدادت الفراغات بين الذرات، لازداد حجم العالم ازدياداً كبيراً، فليس الحجم تابعاً لكثرة الذرات وقلتها ففي وسع المولى سبحانه و هو على كل شيء قدير أن يبسط فراغ المواد الأرضية فيزداد حجمها، وتكفي لاحياء الموتى مهما بلغوا.

وليس هذا الأمر بعيداً عن الحس، فانا نرى أنّ حجم الماء يتفاوت في حالاته الثلاث التجمد والسيلان و التبخر، وعليه فلا مانع من امتداد المادة الأرضية يوم القيامة امتداداً هائلا بحيث يصبح ما كان لا يكفي لإحياء أكثر من إنسان واحد كافياً لإحياء الكثير من الناس، هذا ما كشف عنه العلم.

الجهة الثالثة: الجواب السمعي
قد أعرب الوحي عن كفاية مواد الأرض لاحياء الموتى بوجه خاص، يفهمه المتدبّر في القرآن الكريم.

يقول سبحانه: ﴿وَإِذَا الاَْرْضُ مُدَّتْ(الانشقاق:3).

ويقول سبحانه: ﴿وَحُمِلَتِ الاَْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَة(الحاقة:14).

ومن المحتمل جداً أن يكون مد الأرض في ظل الاندكاك، بكسر الذرّات الموجودة فيها، فيبلغ حجم حجر يقدر بمتر مكعب الى ملايين الكيلو مترات المكعبة. فخرجنا بهذه النتيجة، وهي أنّ تصور عدم كفاية المادة الأرضية لاحياء الناس، باطل في العقل، والعلم والوحي.

شُبهة الآكل والمأكول
إنّ هذه الشبهة من أقدم الشبهات التّي وردت في الكتب الكلامية حول المعاد الجسماني، و قد أعتنى بدفعها المتكلمون و الفلاسفة عناية بالغة، و الاشكال يقرر بصورتين:

الصورة الأُولى: إذا أكل انسانٌ إنساناً بحيث عاد بدن الثاني جزءاً من بدن الانسان الأوّل، فالأجزاء التّي كانت للمأكول ثم صارت للآكل، إمّا أن تعاد في كل واحد منهما، أو تعاد في أحدهما، أو لا تعاد أصلا. والأول محال، لا ستحالة أن يكون جزءٌ واحدٌ بعينه، في آن واحد، في شخصين متباينين. والثاني خلاف المفروض، لأنّ لازمه أن لا يعاد الآخر بعينه.

والثالث أسوأ حالا من الثاني، اذ يلزم أنْ لا يكون أي من الإنسانين معاداً بعينه. فينتج أنّه لا يمكن إعادة جميع الأبدان بأعيانها.

الصورة الثانية: لو أكل إنسان كافر، إنساناً مؤمناً، وقلنا بأنَّ المراد من المعاد هو حشر الأبدان الدنيوية في الآخرة، فيلزم تعذيب المؤمن، لأنّ المفروض أنّ بدنه أو جزءاً منه، صار جزء من بدن الكافر، والكافر يُعَذَّب، فيلزم تعذيب المؤمن11.

وقبل الورود في الجواب نعلّق على هذا السؤال بأنه لا يختص بما ورد فيه من أكل إنسان إنساناً، الّذي لا يتفق حصوله إلاّ في أعماق الأدغال، والمجتمعات الوحشية، بل السؤال يرجع إلى أمر يومي ملموس في المجتمعات المتحضرة، وذلك أنّ النباتات والثمار والحُبوب الّتي يتغذّى عليها الإنسان تنبت من تراب الأرض، الّذي هو مزيج رفات الأموات الذين قضوا عبر الدهور، والّذي هو عصارة الأبدان وخلاصتها.

ونحن نرى أنّ المقابر الواقعة في أكناف البلاد تتبدل إلى حدائق للتفرج والتنزه أو إلى مزارع للاستثمار، فيتغذى منها الحيوان والإنسان، فيؤول بدن الإنسان الميت، جزءاً من الإنسان الحي، فعندئذ يطرح السؤال المتقدم.

الجواب
إنّ هذه أقوى شبهة تعترض القول بالمعاد الجسماني، ونحن نذكر أولاً ما هو الحق عندنا في الإجابة، ثم نشير إلى ما ذكره المتكلمون في ذلك:

أما الصورة الأُولى من الإشكال، فبعض احتمالاتها ساقط جداً، وهو عود المأكول جزء لكلا الإنسانين، فيبقى الاحتمالان الآخران، وبأي واحد منهما أخذنا يندفع الإشكال، وذلك بالبيان التالي:

إنّ الإنسان من لدن تكوّنه وتولده إلى يوم وفاته واقع في مهب التغير وخضم التبدل، فليس وجوده جامداً خالياً عن التبدل. فبدن الإنسان ليس إلا خلايا لا يحصيها إلا الله سبحانه، وكل منها يحمل مسؤوليته في دعم حياة البدن، والخلايا في حال تغير وتبدل مستمر، تموت ويخلفها خلايا أُخرى، وبهذا يتهيّأ للبدن استمرار حياته، من غير فرق بين الخلايا الدماغية وغيرها، غاية الأمر أنّ الخلايا الدماغية، ثابتة من حيث العدد دون غيرها.

وقد قال الأخصائيون بأن مجموع خلايا البدن تتبدل إلى خلايا أُخرى كل عشر سنوات، فبدن الإنسان بعد عشر سنين من عمره يغاير بدنه الموجود قبل عشر سنين وعلى هذا فالإنسان الّذي يبلغ عمره ثمانين سنة قد عاش في ثمانية أبدان مختلفة، وهو يحسبها بدناً واحداً.

إذا عرفت ذلك، فنقول: إن هناك فروضاً
1- فلو فرض أنّ بدن إنسان صار جزءاً من بدن إنسان آخر، فبما أنّ للمأكول أبداناً متعددة على مدى حياته، فواحد منها مقرون بالمانع، والأبدان الأُخر خالية منه فيحشر مع الخالي.

2- ولو فرض أنّ جميع أبدانه اقترنت بالمانع، فإنه أيضاً لا يصد عن القول بالمعاد الجسماني، لأنّ الناموس السائد في التغذية، هو أنّ ما يستفيده الإنسان من الغذاء لا يتعدى ثلاثة بالمائة من المأكول والباقي يدفعه.

فإذاً لا مانع من أنْ تتعلق الروح بأحد هذه الأبدان الّتي تتفاوت عن البدن الدنيوي من حيث الوزن والحجم، ولم يدل على أنّ المحشور في النشأة الأُخروية يتحد مع الموجود في النشأة الدنيوية في جميع الجهات وعامة الخصوصيات.

3- ولو فرض أنّ قانون التحول ساد على أبدان المأكول، فلم يبق من كل بدن إلا النذر اليسير الّذي يتشكل منه بدن إنسان كامل، فلا مانع في هذا الفرض النادر من تكميل خلقته بالمواد الأرضية الأُخرى حتى يكون إنساناً قابلاً لتعلق الروح به، وليس لنا دليل على أنّ المُعاد في الآخرة يتحد مع الموجود في الدنيا في جميع الجهات حتى المادة الّتي يتكون منها البدن.

نعم، إنْ كانت المادة الترابية الّتي تكوّن منها البدن الدنيوي موجودة، فلا وجه للعدول عنها إلى تراب آخر، وأما إذا كانت مقرونة بالمانع، فلم يبق إلا جزء يسير لا يكفي لتكوّن البدن، فلا غرو في أن يُتَسَبَّب في تكميل خلقته بالأخذ من المواد الترابية غير المقرونة بالمانع.

والّذي يدل على ذلك أنه سبحانه في مقام التنديد بالمنكرين، يعبر بلفظ المثل، ويقول: ﴿أَوَ لَيْسَ الذِي خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِر عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ(يس:81). الضمير في (مِثْلَهُمْ) يعود إلى المشركين المنكرين للمعاد، وهذا يعرب عن كفاية المثل من غير حاجة إلى صدق العينية، بالوحدة في المادة الترابية.

ويؤيد ذلك قول الإمام الصادق عليه السَّلام: "فإذا قبضه الله إليه، صيّر تلك الروح إلى الجنة في صورة كصورته، فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة الّتي كانت في الدنيا"12.

فترى أنّ الإمام عليه السَّلام يذكر كلمة الصورة، ولعلّ فيه تذكير بأنّه يكفي في المعاد الجسماني كون المُعاد متحداً مع المبتدأ في الصورة من غير حاجة إلى أنْ يكون هناك وحدة في المادة الترابية بحيث إذا طرأ مانع من خلق الإنسان منه، فشل المعاد الجسماني ولم يتحقق.

والتركيز على وحدة المادة، يبتني على تحليل وجود الإنسان تحليلاً مادياً وأنه ليس وراء المادة شيء آخر، وأما على القول بأنّ واقعية الإنسان بروحه ونفسه، وأنّ جميع خصوصياته وملكاته موجودة في نفسه، فالمعاد الجسماني لا يتوقف على كون البدن المحشور نفس البدن الدنيوي حتى في المادة الترابية، بل لو تكوّن بدن الإنسان المُعاد من أيّة مادة ترابية كانت، وتعلقت به الروح، وكان من حيث الصورة متحداً مع البدن الدنيوي، يصدق على المُعاد أنه هو المُنشأ في الدنيا.

قال صدر المتألهين: "إن تشخّص كلّ إنسان إنما يكون بنفسه لا ببدنه، وإنّ البدن المعتبر فيه، أمر مُبْهَم، لا تحصّل له إلا بنفسه، وليس له من هذه الحيثية تعيّن، ولا يلزم من كون بدن زيد مثلاً محشوراً أنْ يكون الجسم الّذي منه صار مأكولاً لسبع أو إنسان آخر، محشوراً، بل كلّ ما يتعلّق به نفسه هو بعينه بدنه الّذي كان. فالاعتقاد بحشر الأبدان يوم القيامة هو أنْ تُبعثَ أبدانٌ من القبور إذا رأى أحد كلّ واحد منها يقول هذا فلان بعينه، أو هذا بدن فلان، ولا يلزم من ذلك أن يكون غير مبدّل الوجود والهوية. كما لا يلزم أن يكون مشوَّه الخَلْق وأن يكون الأقطْع والأعمى والهَرِم محشوراً على ما كانوا عليه من نقصان الخلقة وتشويه البنية"13.

ثم إن للمتكلمين جواباً آخر في الذب عن هذه الصورة من الإشكال حاصله أنّ المُعاد، إنما هو الأجزاء الأصلية، وهي الباقية من أول العمر إلى آخره، لا جميع الأجزاء على الإطلاق، وهذه الأجزاء الأصلية، الّتي كانت للإنسان المأكول، هي في الآكل فضلات، فإنا نعلم أنّ الإنسان يبقى مدة عمره وأجزاء الغذاء تتوارد عليه وتزول عنه، فإذا كانت فضلات فيه، لم يجب إعادتها في الآكل بل في المأكول14.

ويظهر من المحقق الطوسي ارتضاؤه حيث يقول: "ولا يجب إعادة فواضل المكلف". وأوضحه العلامة الحلي بقوله: "إن لكلّ مكلف أجزاء أصلية لا يمكن أنْ تصير جزءاً من غيره، بل تكون فواضل من غيره لو اغتذى به"15.

وما ذكروه خال عن الدليل، إذ لم يدلّ دليل على أنّ لكل مكلف أجزاء أصلية لا تكون جزءاً لبدن غيره.

نعم، ورد في بعض الروايات، ولكنها روايات آحاد، لا توجب علماً، فلو ثبت صدورها، فَلْيُقْبَل تعبداً16.

إلى هنا تم الجواب عن الصورة الأُولى من الإشكال.

وأما الصورة الثانية من الإشكال: فقد عرفت أنها تركز على العدل الإلهي، وأن كون بدن المؤمن جزءاً من بدن الكافر يستلزم تعذيب المجرم، ولكنه مبني على إعطاء الأصالة في الحياة للبدن وهي نظرية خاطئة، فإن اللذائذ والآلام ترجع إلى الروح، والبدن وسيلة لتعذيبه وتنعيمه.

فصيرورة بدن المسلم جزءاً من بدن الكافر، لا يلازم تعذيب المؤمن، لأنّ المُعَذّب بتعذيب البدن، هو روح الكافر ونفسه، لا روح المؤمن. وهذا نظير أخذ كلية من إنسان حيّ ووصلها بإنسان يعاني من ضعفها وعلّتها، فإذا نجحت عملية الوصل وصارت الكلية الموصولة، جزء من بدن المريض، ثم عُذّب هذا المريض، فالمعذب هو هو، ولو نُعّم، فالمُنَعَّم هو هو، ولا صلة بينه وبين من وَهَب كليته وأهداها إليه.

وقد عرفت في كلام صدر المتألهين ما يفيدك في المقام.

مكان بعث النفوس وحشرها
أثبتت البحوث الجيولوجية والتنقيبات الأثرية أنّ الإنسان يعيش في هذا الكوكب منذ أكثر من مليوني سنة، ويستدل على ذلك بالمستندات الحفرية الّتي تؤلف سجلات الخليقة. فعندئذ يطرح هذا السؤال: هل يكفي سطح الأرض لاستقرار جميع الخلائق الّتي لا يحصي عددها إلا خالقها، في يوم واحد، كما هو صريح قوله سبحانه: ﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ(المرسلات:38)، مع أنّ مساحة الأرض لا تتجاوز (715، 950، 509) كيلو متر مربع؟

والجواب
إنّ السؤال مبني على حفظ النظام يوم القيامة، مع أنّ صريح الآيات على تبدّل النظام، وحدوث نظام أوسع وأكبر، وقد عرفت أنّ الديناميكا الحرارية تثبت اتجاه المواد الكونية إلى الفناء بمرور الزمن، فلا تقوم القيامة على صعيد هذا النظام. والآيات في هذا المجال كثيرة.

يقول سبحانه: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّموَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ(إبراهيم:48).

والذكر الحكيم يصرح بأنّ الشمس والقمر يجريان إلى أجل مسمى. يقول سبحانه: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَل مُسَمًّى(الرعد:2)، بل جميع العوالم المحسوسة من الأرض والسموات، كلُّها تجري إلى أجَل مسمّىً، يقول سبحانه ﴿أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَل مُسَمىًّ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ(الروم:8)17.

والآيات الّتي ننقلها في كيفيّة حدوث القيامة، تكشف عن تدمير النظام بأسره، وانقلابه إلى نظام آخر، يقول سبحانه: ﴿إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً * بُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّا(الواقعة:4ـ5). ويقول سبحانه: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرا(الطور:9ـ10). وغير ذلك ممّا سيوافيك بيانه.

فالنّاس يحشرون على صعيد واحد، في يوم واحد، لكن في نظام آخر، عظيم هائل يسع لجمع جميع العباد، ومحاسبتهم فيه.

كيف يخلد الإنسان، مع أنّ المادة تفنى؟

دلّت الآيات والروايات على خلود الإنسان في الآخرة، إما في جنتها ونعيمها، أو في جحيمها وعذابها، هذا من جانب.

ومن جانب آخر، دلت القوانين العلمية على أنّ المادة، حسب تفجر طاقاتها، على مدى أزمنة طويلة، تبلغ إلى حد تنفذ طاقتها فلا يمكن أنْ يكون للجنة والنار بقاء، كما لا يكون للإنسان خلود كذلك، لأنّ مكونات الكون تفقد حرارتها تدريجياً، وتصير الأجسام على درجة بالغة الانخفاض18، وبالتالي تنعدم الطاقة وتستحيل الحياة.

الجواب
إنّ السؤال ناش من مقايسة الآخرة بالدنيا، وهو خطأ فادح، لأنّ التجارب العلمية لا تتجاوز نتائجها المادة الدنيوية. وإسراء حكم هذا العالم إلى العالم الآخر، وإن كان مادياً وعنصرياً مثلها، قياس لا دليل عليه. كيف، وقد تعلقت قدرته سبحانه بإخلاد الجنة والنار، وله إفاضة الطاقة، إفاضة بعد إفاضة، على العالم الأُخروي بجحيمه وجنته، ومؤمنه وكافره. ويعرب عن ذلك قوله سبحانه: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً(النساء:56).

ويعزز ذلك ما جاء في آخر الآية من الإتكاء على كونه عزيزاً، فإنّ معناه: مقتدراً على إمداد المادة. فلأجل ذلك لو كانت الحركة والعمل مفنيين لطاقات المادة الدنيوية، فليسا كذلك في المادة الأُخروية، لدعمها بطاقات جديدة، فلو نضج جلد يأتي مكانه جلد آخر، وهكذا.

وهذا السؤال من أوضح موارد قياس الغيب على الحس أوّلاً، وعدم التعرف على قدرته سبحانه ثانياً، يقول تعالى: ﴿مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ(الحج:74).

ما هو الغرض من عقاب المجرم أو تنعيم المحسن؟
إنّ الحكيم لا يعاقب إلا لغاية وغاية العقوبة إما التشفي كما في قصاص المجرم، وهو محال على الله، أو إيجاد الاعتبار في غير المعاقب أو تأديب المجرم، وكلاهما يتحققان في النشأة الدنيوية لا الأُخروية، فيكون تعذيب المجرم في الآخرة عبثاً لا غاية فيه.

بل ربما يقال إنّ تنعيم المؤمن أيضاً بلا وجه، لأن اللذة الجسمانية لا حقيقة لها وإنما هي دفع الألم، فلو ترك الميت على حاله ولم يعد، لم يكن متألماً. فالغرض حاصل بدون الإعادة، فلا فائدة فيها19.

الجواب
إنّ السائل قد فرض أنّ المعاد أمر ممكن في ذاته ولم يدل دليل على ضرورة وقوعه، فسأل عن الغاية الموجبة له، ولكنه لو وقف على ما ذكرنا من الأدلة الّتي تحتم المعاد، وتجعل وجوده ضرورياً، لترك السؤال. فقد عرفت أنّ هناك وجوهاً ستة تُعرِّف المعاد أمراً ضرورياً، لا مناص عنه، منها كون المعاد مجلّي للعدل الإلهي، فإذا كان وجود المعاد، أمراً ضرورياً، فالسؤال عن غاية وهدف أمر ضروري الوقوع، ساقط. وذلك لأن بين تلك الأدلة الّتي توجب ضرورة المعاد، عللاً غائية، كتجلّي عدله سبحانه في المعاد، أو كمال الإنسان، ومعها لا معنى للسؤال عن غاية المعاد.

ومن العجب أنّ السائل يجعل اللذة الجسمانية شيئاً لا حقيقة له، وأنها ما هي إلا دفع الألم. ولا أظن أنّه نفسه يقدر على تطبيقه على جميع موارد اللذة، فهل في اللذة الجسمانية الحاصلة من التأمل في روضة غنّاء، دفعاً للألم، بحيث لولاه لكان غارقاً في الآلام والأوجاع، أو أنها لذة واقعية مناسبة للنفس في مقامها المادي، وقس على ذلك غيره20.

من هم المخلدون في النار؟
اختلفت كلمة المتكلمين في المخلّدين في النار، فذهب جمهور المسلمين إلى أن الخلود يختص بالكافر، دون المسلم وإن كان فاسقاً. وذهبت الخوارج والمعتزلة إلى خلود مرتكب الكبائر في النار إذا مات بلا توبة.

قال الشيخ المفيد: "اتّفقت الإمامية على أن الوعيد بالخلود في النار متوجه إلى الكفار خاصّة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة"21.

وقال في شرح عقائد الصدوق: "أما النار فهي دار من جهل الله سبحانه، وقد يدخلها بعض من عرفه، بمعصية الله، غير أنه لا يخلد فيها بل يخرج منها إلى النعيم المقيم، وليس يخلد فيها إلا الكافرون".... إلى أن قال:"وكل آية تتضمن ذكر الخلود في النار فإنما هي في الكفار دون أهل المعرفة بالله تعالى، بدلائل العقول والكتاب المسطور، والخبر الظاهر المشهور22، والإجماع، والرأي السابق لأهل البدع من أصحاب الوعيد"23.

وقال العلامة الحلّي: "أجمع المسلمون كافة على أن عذاب الكافر مؤبد لا ينقطع، وأما أصحاب الكبائر من المسلمين، فالوعيدية على أنه كذلك. وذهب الإمامية وطائفة كثيرة من المعتزلة والأشاعرة إلى أن عذابه منقطع"24.

واستدل القائلون بالانقطاع بآيات، منها قوله سبحانه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ(الزلزلة:7)، والإيمان أعظم أفعال الخير. فإذا استحق العقاب بالمعصية، فإما أن يقدّم الثواب على العقاب، فهو باطل بالإجماع، لأن الإثابة لا تكون إلا بدخول الجنة، والداخل فيها مخلّد لا يخرج منها أبداً، فلا يبقى مجال لعقوبته، أو بالعكس وهو المراد.

أضف إلى ذلك أنه يلزم أنْ يكون مَنْ عَبَدَ الله تعالى مدةَ عمره بأنواع القربات إليه، ثم عصى في آخر عمره معصية واحدة، مع حفظ إيمانه، مخلداً في النار، ويكون نظير من أشرك بالله تعالى مدة عمره، وهذا عند العقل قبيح ومحال25.

واستدلت المعتزلة على خلود الفاسق في النار، بالسمع وهو عدة آيات، استظهرت من إطلاقها أن الخلود يعم الكافر والمنافق والفاسق. وإليك هذه الآيات واحدة بعد الأُخرى.

الآية الأُولى: قوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ(النساء:14). وأما قوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا(الجن:23)26. ولا شكّ أن الفاسق ممن عصى الله ورسوله بترك الفرائض وارتكاب المعاصي.

يلاحظ عليه: أولاً: إنّ دلالة الآية على خلود الفاسق في النار لا يتجاوز حد الإطلاق، والمطلق قابل للتقييد. وقد خرج عن هذه الآية باتفاق المسلمين الفاسق التائب، فلو دلّ دليل هنا على أنّ المسلم الفاسق ربما تشمله عناية الله ورحمته، ويخرج عن العذاب، لكان المطلق مقيداً بقيد آخر وراء التائب، فيبقى تحت الآية المشرك والمنافق.

وثانياً: إنّ الموضوع في الآية ليس مطلق العصيان، بل العصيان المنضم إليه تعدّي حدود الله ومن المحتمل جداً أن يكون المراد من التعدّي هو رفض أحكامه سبحانه، وطردها، وعدم قبولها. كيف، وقد وردت الآية بعد بيان أحكام الفرائض.

يقول سبحانه: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ...(النساء:11).

يقول سبحانه: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ...(النساء:12).

ثم يقول سبحانه: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ...(النساء:13).

ويقول: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ(النساء:14).

وقوله: (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ)، وإنْ لم يكن ظاهراً في رفض التشريع، لكنه يحتمله. بل ليس الحَمْل عليه بعيداً بشهادة الآيات الأُخر الدالة على شمول غفرانه لكل ذنب دون الشرك، أو شمول رحمته للناس على ظلمهم وغير ذلك من الآيات الواردة في حق الإنسان غير التائب كما سيوافيك.

يقول الطبرسي: "إنّ قوله: (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ)، ظاهر في تعدّي جميع حدود الله، وهذه صفة الكفار، ولأنّ صاحب الصغيرة بلا خلاف خارج عن عموم الآية وإن كان فاعلاً للمعصية، ومتعدياً حدّاً من حدود الله، وإذا جاز إخراجه بدليل، جاز لغيره أن يخرج من عمومها، كمن يشفع له النبي أو يتفضّل الله عليه بالعفو، بدليل آخر، وأيضاً فإنّ التائب لا بدّ من إخراجه من عموم الآية، لقيام الدليل على وجوب قبول التوبة، وكذلك يجب إخراج من يتفضّل الله بإسقاط عقابه، منها لقيام الدلالة على جواز وقوع التفضّل بالعفو"27.

الآية الثانية: قوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً(النساء:93).

قال القاضي: وجه الاستدلال هو أنّه تعالى بَيّنَ أنّ من قَتَلَ مؤمناً عمداً جازاه، وعاقبه وغضب عليه، ولعنه (وأخلده في جهنم)28.

يلاحظ عليه: أوّلاً: إنّ دلالة الآية دلالة إطلاقية، فكما خرج منها القاتل المشرك إذا أسلم، والمسلم القاتل إذا تاب، فليكن كذلك من مات بلاتوبة ولكن اقتضت الحكمة الإلهية، أن يتفضّل عليه بالعفو، فليس التخصيص أمراً مشكلاً.

وثانياً: إنّ من المحتمل أنْ يكون المراد القاتل المستحل لقتل المؤمن، أو قَتَلَهُ لإيمانه، وهذا غير بعيد لمن لاحظ سياق الآيات.

لاحظ قوله سبحانه: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً(النساء:91).

ثم ذكر سبحانه بعد هذه الآية حكم قتل المؤمن خطأً وتعمداً. وفي ضوء هذا يمكن أن يستظهر أنّ الآية ناظرة إلى القتل العمدي، الّذي يقوم به القاتل لعداء ديني لا غير، فيكون ناظراً إلى غير المسلم.

الآية الثالثة: قوله سبحانه: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(البقرة:81).

والاستدلال بهذه الآية إنما يصح مع غَضّ النظر عن سياقها، وأما معه فإنها واردة في حق اليهود.

أضف إليه أنّ قوله سبحانه: (وأحاطتْ به خَطِيئتُه)، لا يهدف إلا إلى الكافر، فإنّ المسلم المؤمن مهما كان عاصياً لا تحيط به خطيئته، فإنّ في قلبه نقاط بيضاء يشع عليها إيمانه واعتقاده بالله سبحانه وأنبيائه وكتبه. على أن دلالة الآية بالإطلاق، فلو ثبت ما يقوله جمهرة المسلمين، يخرج الفاسق من الآية بالدليل.

الآية الرابعة: قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ(الزخرف:74ـ76).

إنّ دلالة الآية إطلاقية، قابلة للتقييد، أوّلاً. وسياق الآية في حق الكفار، بشهادة قوله سبحانه قبل هذه الآية: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ(الزخرف:69ـ70)، ثم يقول: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ). فـ(الْمُجْرِمِينَ)، في مقابل (الذَّين آمنوا)، فلا يعم المسلم، ثانياً.

هذه هي الآيات الّتي استدلت بها المعتزلة على تخليد الفاسق في النار، وقد عرفت أن دلالتها بالإطلاق لا بالصراحة. وتقييد المطلق أمر سهل مثل تخصيص العام. مضافاً إلى انصراف أكثرها أو جميعها إلى الكافر والمنافق.

وهناك آيات أظهر ممّا سبق29 تدل على شمول الرحمة الإلهية للفساق غير التائبين نكتفي باثنتين منها:

1- قوله سبحانه: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ(الرعد:6).

قال الشريف المرتضى: "في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة لأنه سبحانه دلّنا على أنه يغفر لهم مع كونهم ظالمين، لأن قوله (على ظلمهم)(جملة حالية)، إشارة إلى الحال الّتي يكونون عليها ظالمين، ويجري ذلك مجرى قول القائل: أنا أودّ فلاناً على غدره، وأَصِلُهُ على هجره"30.

وقد قرر القاضي دلالة الآية وأجاب عنها بأن الأخذ بظاهر الآية ممّا لا يجوز بالاتّفاق، لأنّه يقتضي الإغراء على الظلم، وذلك ممّا لا يجوز على الله تعالى، فلا بد من أن يؤوّل، وتأويله هو أنه يغفر للظالم على ظلمه إذا تاب31.

يلاحظ عليه: إنّ ما ذكره من الإشكال، جار في صورة التوبة أيضاً، فإن الوعد بالمغفرة مع التوبة يوجب تمادي العاصي في المعصية، برجاء أنه يتوب. فلو كان القول بعدم خلود المؤمن موجباً للإغراء، فليكن الوعد بالغفران مع التوبة كذلك.

والّذي يدل على أن الحكم عام للتائب وغيره هو التعبير بلفظ "الناس" مكان "المؤمنين" فلو كان المراد هو التائب، لكان المناسب أن يقول سبحانه: "وإنّ ربَّك لذو مغفرة للمؤمنين على ظلمهم"، مكان قوله: "للناس". وهذا يدل على أن الحكم عام يعم التائب وغيره.

إن هذه الآية تَعِدُ الناس بالمغفرة، ولا تذكر حدودها وشرائطها فلا يصح عند العقل الاعتماد على هذا الوعد وارتكاب الكبائر، فإنّه وعد إجمالي غير مبين من حيث الشروط والقيود.

2- قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً(النساء:48).

وجه الاستدلال بهذه الآية على أن رحمته تشمل غير التائب من الذنوب، أنه سبحانه نفى غفران الشرك دون غيره من الذنوب. وبما أن الشرك يغفر مع التوبة، فتكون الجملتان ناظرتين إلى غير التائب. فمعنى قوله: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)، أنّه لا يغفر إذا مات من أشرك بلا توبة. كما أن معنى قوله: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، أنه يغفر ما دون الشرك من الذنوب بغير توبة لمن يشاء من المذنبين، ولو كانت سائر الذنوب، مثل الشرك، غير مغفورة إلا بالتوبة، لما حسن التفصيل بينهما، مع وضوح الآية في التفصيل32.

وقد أوضح القاضي دلالة الآية على ما يتبناه الجمهور بوجه رائع، ولكنه تأثراً بعقيدته الخاصة في الفاسق قال: "إنّ الآية مجملة مفتقرة إلى البيان، لأنّه قال: "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، ولم يبين من الّذي يغفر له. فاحتُمل أن يكون المراد به أصحاب الصغائر، واحتُمل أن يكون المراد أصحاب الكبائر، فسقط احتجاجهم بالآية"33.

أقول: عزب عن القاضي أن الآية مطلقة، تعم كلا القسمين، فأيّ إجمال في الآية حتى نتوقف. والعجب أنه يتمسك بإطلاق الطائفة الأُولى من الآيات، ولكنه يتوقف في إطلاق هذا الصنف.

نعم، دفعاً للإغراء، وقطعاً لعذر الجاهل، قَيّد سبحانه غفرانه بقوله: (لمن يشاء)، حتى يصد العبد عن الارتماء في أحضان المعصية بحجة أنه سبحانه وعده بالمغفرة.

ثم إنّ القاسم بن محمد بن علي الزيدي العلوي المعتزلي، تبع القاضي في تحديد مداليل هذه الآيات وقال: "آيات الوعيد لا إجمال فيها، وهذه الآيات ونحوها مجملة، فيجب حملها على قوله تعالى:﴿وَإنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى(طه:82). ثم ساق بعض الآيات الواردة في غفران العباد في مجال التوبة34.

ويظهر النظر في كلامه ممّا قدمناه في نقد كلام القاضي فلا نعيد.

هذا، والبحث أشبه بالبحث التفسيري من 2009-07-24