يتم التحميل...

شبهات المنكرين للمعاد

أدلة المعاد

الشبهات التي ينقلها الذكر الحكيم عنهم تبلغ عشر شبهات، غير أنّ كثيراً منها ضئيل، ليس له دليل سوى البواعث التي قدّمناها، ومع ذلك لم يتركها القرآن بلا جواب، إمّا مقارن لذكرها أو في مواضع أُخرى، وفيما يلي نذكر رؤوس الشبهات الواهية، ثم نتبعها بذكر الشبهات القابلة للبحث، فنطرحها ونناقشها.

عدد الزوار: 139

الشبهات التي ينقلها الذكر الحكيم عنهم تبلغ عشر شبهات، غير أنّ كثيراً منها ضئيل، ليس له دليل ، ومع ذلك لم يتركها القرآن بلا جواب، إمّا مقارن لذكرها أو في مواضع أُخرى، وفيما يلي نذكر رؤوس الشبهات الواهية، ثم نتبعها بذكر الشبهات القابلة للبحث، فنطرحها ونناقشها.

1- لا دليل على المعاد
يقول سبحانه: ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْري مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ(الجاثية:32).

وقائل الشبهة يتظاهر بأنّه لا دليل على النّشأة الأُخرى وإحياء الموتى فيها، ولو كان لاتّبعه. ولم يتركه القرآن بلا جواب، فقد أقام براهين دامغة على إمكانه وضرورته كما سيوافيك.

ولأجل كون المعاد مقروناً بالبراهين، يتعجّب القرآن من إنكارهم ويقول: ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْق جَدِيد(الرعد:5).

2- المعاد من أساطير الأوّلين
يقول سبحانه: ﴿قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(المؤمنون:82ـ83).

وبما أن الشرائع السماوية، متّحدة في الأُصول، وإنّما اختلافها في الشرع والمنهاج إشارة إلى قوله سبحانه: ﴿لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً(المائدة:48)، كانت الدعوة إلى المعاد موجودة في الشرائع السالفة، فحسبها المشركون أسطورة من أساطير الأوّلين. 

مع أنّ الدعوة إلى عقيدة قديمة لا يكون دليلاً على بطلانها، كما أنّ استحداث عقيدة لا يكون دليلاً على صحتها، وإنّما الضابط هو الدليل.

3- المعاد افتراء على الله أو جنون من القول
يقول سبحانه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُل يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّق إِنَّكُمْ لَفِي خَلْق جَدِيد * أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ(سبأ:7ـ8).

والمنكرون لأجل التظاهر بالحرية في القضاء، وابتعادهم عن العصبية، فسّروا الدعوة إلى المعاد بأنّ الداعي إمّا رجلٌ غير صالح، افترى على الله كذباً، أو أنّه معذور في هذا القول وقاصر، لأنّ به جنة، وهذا نوع من الخداع، إذ كيف صار "أمينهم" مفترياً على الله الكذب، ومتى كان الإنسان العاقل الذي أثبت الزمان عقله وذكاءه ودرايته وأمانته حتى قمع أُصول الشرك عن أديم الجزيرة، متى كان مجنوناً؟

4- إعادة الأموات سحر
يقول سبحانه: ﴿وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ(هود:7).

فقد بلغ عنادهم في إنكار الحقيقة مبلغاً لو قام النبي معه بإحياء الموتى أمامهم، ورأوه بأُمّ أعينهم، لقالوا إنّه سحر مبين، وإنّك سحرت أعيننا، ولا حقيقة لما فعلت.

5- إذا كان المعاد حقّاً فأحيوا آباءنا
يقول سبحانه: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَات مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(الجاثية:25).

غير أنّ طلبهم إحياء آبائهم لم يكن إلاّ تعلّلاً أمام دعوة النبي، فلو قام النبي بهذا العمل، لطلبت كل قبيلة، بل كلّ إنسان نفس ذلك العمل من النبي، حتى يؤمن به، فتنقلب الدعوة لعبة في أيديهم. ولأجل ذلك يضرب القرآن عن الجواب صفحاً، ويكتفي بقوله: ﴿قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(الجاثية:26).

حشر الإنسان عسير
إنّ هذا الاعتراض وإن لم ينقل عنهم صريحاً ولكن يعلم من الآيات الواردة حول المعاد، أنّه كان أحد شبهاتهم.

يقول سبحانه في أمر المعاد: ﴿ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ(ق:44) ويقول: ﴿ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً(التغابن:7) ويقول: ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ(النحل:77) ويقول: ﴿وَهُوَ الذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ(الروم:27).

وهذه الشبهة صورة خفيفة للشبهة السابعة الآتية التي سيوافيك الجواب عنها تفصيلاً. والإجابة عن تلك يغني عن الإجابة عن هذه. قال أمير المؤمنين عليه السَّلام: "و ما الجليل واللّطيف، والثّقيل والخفيف، والقويّ والضّعيف في خلقه إلاّ سواء"1.

هذه هي شبهاتهم الضئيلة الواهية التي لا يخفى بطلانها وكانت لهم معها شبهات أخرى أجدر بالبحث والتحليل، وهي أربع، نذكرها أوّلاً ثم نجيب عنها بالتفصيل.

7ـ إحياء الموتى خارجٌ عن إطار القدرة
يظهر من الذكر الحكيم أنّهم كانوا يعتمدون على هذه الشبهة، ويحكيها سبحانه بقوله: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(يس:78).

التعرف على الأجزاء الرميمة غير ممكن
إنّ إعادة الموتى بأعيانهم يتوقف على التعرف على أجزاء أبدانهم الرميمة المبعثرة، على أديم الأرض وفي جوفها، وفي أعماق البحار، ليعاد جزء كل إنسان إلى بدنه، وهذا أمر محال.

وهذه الشبهة وإن لم يصرّح بها القرآن، ولكن يستنبط من إجابة القرآن عليها أنّهم كانوا يعتمدون عليها.

يقول سبحانه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين(سبأ:3).

فإنّ قوله: (عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ...) يكشف عن أنّ شبهتهم في إمكان المعاد، هي عدم إمكان التعرّف على أجزاء الموتى المبعثرة.

9ـ الموت بطلان للشخصية
وممّا كانوا يعتمدون عليه في إنكارهم للمعاد، هو أنّ الموت وصيرورة الإنسان عظاماً ثم تراباً، يلازم بطلان شخصيته وانعدامها، والمعدم لا يعاد.

ولعلّه إلى تلك الشبهة يشير قوله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ(السجدة:11) ويحتمل كونه إشارة إلى الشبهة التالية.

10ـ فقدان الصلة بين المبتدأ والمعاد
إذا كان الموت وصيرورة الإنسان تراباً، إعداماً للشخصية، فالشخصية المحياة في النشأة الأُخرى، لاتمت إلى الأُولى بصلة، فكيف تكون إحياء لها؟ فإنّ المقصود من المعاد، إحياء الناس لإثابتهم أو معاقبتهم، وهو فرع وحدة المعاد والمبتدأ، واتّحادهما، وهو منتف، ولعلّ الآية السابقة، تشير إلى هذه الشبهة.

هذه هي شبهاتهم التي تستحق البحث، وإليك فيما يلي مناقشتها

الإجابة التفصيلية عن شبهاتهم
الاعتقاد بالمعاد اعتقاد بالغيب وإيمان به، وهو فرع معرفة الله سبحانه، ومعرفة أسمائه وصفاته، وأفعاله، ولولا تلك المعرفة، لما حصل الإيمان بشيء من الأمور الغيبية، فالاعتقاد بمعاجز الأنبياء، وكراماتهم التي يحكيها لنا القرآن الكريم، قائم على معرفة الله سبحانه. ومعرفة شؤونه تبارك وتعالى.على هذا الأساس يبتني الجواب عن الشبهتين الأُوليين:

جواب الشبهة الأُولى ـ القدرة المطلقة وإحياء الموتى
إنّ تخيل استحالة المعاد، الناشىء من توهّم أنّ إحياء الموتى خارج عن إطار القدرة، جهل بالله سبحانه، وجهل بصفاته القدسية، فإنّ قدرته عامة تتعلق بكل أمر ممكن بالذات، ومن هنا نجد القرآن الكريم يندد بقصور المشركين وجهلهم في مجال المعرفة، ويقول: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ(الزمر،67).و معنى عدم التقدير هنا، عدم تعرفهم على الله سبحانه حقّ التعرف، ولذلك يعقبه بقوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ)، معرباً عن أنّ إنكار المعاد ينشأ من هذا الباب.

وفي آيات أُخرى تصريحات بعموم قدرته، كقوله: ﴿أَين ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(البقرة:148).

وقوله تعالى: ﴿إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(هود:4).

والآيات الواردة في هذا المجال كثيرة2.

ثم إنّ القرآن يسلك طريقاً ثانياً في تقرير إمكان المعاد، وذلك عبر الإتيان بأُمور محسوسة أقرب إلى الإذعان والإيمان:

أ ـ القادر على خلق السموات، قادر على إحياء الموتى
يقول سبحانه: ﴿أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِر عَلَى أَنْ يُحْيِىَ الْمَوْتَى(الأحقاف:33. ومثلها يس:81).

وكيفية الاستدلال بها واضحة، فإنّ القادر على إبداع هذا النظم البديع، أقدر على إحياء الإنسان.

ب ـ القادر على المبتدأ قادر على المعاد
إنّ من الضوابط العقلية المحكمة أنّ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه، وأنّ حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد، فلو كانت الإعادة أمراً محالاً، لكان ابتداء الخلقة مثله، لأنّهما يشتركان في كونهما إيجاداً للإنسان، وعلى ذلك قوله سبحانه: ﴿وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة(لإسراء:49ـ51).

وقوله سبحانه: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَني يُمْنى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِر عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى(القيامة:36-40)3.

ج ـ القادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الإنسان بعد موته
ويري الذكر الحكيم في آياته إعادة الحياة إلى التراب بشكل ملموس، وذلك بصورتين:

أولاهما: أنّه إذا امتنع عود الحياة إلى التراب، فكيف صار التراب إنساناً في بدء الخلقة، وفي ذلك يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْب مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَاب(الحج:5). ويقول: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرى(طه:55).

وثانيتهما: إنّ الأرض الميتة تحيا كلّ سنة بنزول الماء عليها فتهتز وتربو بعد جفافها، وتنبت من كل زوج بهيج، يقول سبحانه: ﴿وَ تَرى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْج بَهِيج * ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ(الحج:5 ـ 7).

ويقول سبحانه: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَد مَيِّت فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الَّثمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(الأعراف:57)4.

فليس إحياء الإنسان من التراب إلاّ كإحياء التراب الميت، باخضرار نباته، وازهرار أشجاره.

وبهذه النماذج المحسوسة يثبت القرآن عموم قدرته تعالى، مضافاً إلى البراهين العقلية على عموم قدرته تعالى شأنه.

جواب الشبهة الثانية ـ العلم المطلق والتعرف على الأجزاء المندثرة
إنّ هذه الشبهة وسابقتها، لهما منشأ واحد هو عدم التعرف على الله سبحانه، صفاته وأفعاله، وهنا يقولون إنّ الأجزاء المتلاشية المبعثرة في أكناف الأرض لا يمكن التعرف عليها ليعاد جمع أجزاء كل إنسان.

والجواب عنه واضح بعد التعرف على علمه الوسيع، سبحانه، وأنّ الممكنات بعامة أجزائها حاضرة لديه غير غائبة عنه.

يقول سبحانه: بعد نقل شبهتهم ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌَ(ق:3). 

﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌَ(ق:4). فالتركيز في الجواب على علمه سبحانه بما تنقص الأرض منهم، وأنّ عنده كتاباً حفيظاً لكلّ شي، يعرب عن أنّ شبهتهم كانت ترجع إلى عدم إمكان التعرف على الأجزاء البالية، حتى يعاد جمعها.

ونظير ذلك قوله سبحانه: ﴿ومَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْس وَاحِدَة إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌَ(لقمان:28). فالتركيز على كونه سميعاً وبصيراً يعرب عن أنّ المقصود من صدر الآية هو نقل شبهتهم الراجعة إلى علمه سبحانه.

جواب الشبهة الثالثة ـ الموت ليس إبطالاً للشخصية
إنّ القائل بأنّ الموت إبطال للشخصية، حسب أنّ الإنسان موجود مادي محض، وليس هو إلاّ مجموعة خلايا وعروق وأعصاب وعظام وجلود، تعمل بانتظام، فإذا مات الإنسان صار تراباً، ولا يبقى من شخصيته شيء، فكيف يمكن أن يكون المعاد نفس الأوّل؟ ولعلّه إلى ذلك يشير قولهم: "أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد؟". بأن يكون المراد من الضلال في الأرض بطلان الهوية بطلاناً كاملاً لا يمكن أن تتسم معه بالإعادة، ويجيب القرآن عن هذه الشبهة بجوابين:

أوّلهما: قوله:﴿بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ(السجدة:10).

وثانيهما: قوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ(السجدة:11).

والجواب الأوّل راجع إلى بيان باعث الإنكار، وهو أنّ السبب الواقعي لإنكار المعاد، ليس ما يتقوّلونه بألسنتهم من الضلالة في الأرض، وإنّما هو ناشئ من تبنيّهم موقفاً سلبياً في مجال لقاء الله، فصار ذلك مبدأً لطرح هذه الشبهات.

والجواب الثاني جواب عقلي عن هذا السؤال، وتعلم حقيقته بالإمعان في معنى لفظ التوفي، فهو وإن كان يفسّر بالموت، ولكنّه تفسير باللازم، والمعنى الحقيقي له هو الأخذ تماماً، وقد نصّ على ذلك أئمة أهل اللغة، قال ابن منظور في اللسان: "توفّي فلان وتوفاه الله، إذا قبض نفسه، وتَوفَّيْت المال منه، واستوفيته، إذا أَخَذته كلّه. وتوفيت عدد القوم، إذا عددتهم كلهم. وأنشد أبو عبيدة:

إنّ بني الأدرد ليسوا من أحد    ولا توفّاهم قريش في العدد

أي لا تجعلهم قريش تمام عددهم ولا تستوفي بهم عددهم"5.

وآيات القرآن الكريم بنفسها كافية في ذلك، يقول سبحانه: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا(الزمر:42). فإنّ لفظة "التي"، معطوفة على الأنفس، وتقدير الآية: يتوفى التي لم تمت في منامها. ولو كان التوفي بمعنى الإماتة، لما استقام معنى الآية، إذ يكون معناها حينئذ: الله يميت التي لم تَمُتْ في منامِها. وهل هذا إلاّ تناقض؟ فلا مناص من تفسير التوفّي بالأخذ، وله مصاديق تنطبق على الموت تارة، كما في الفقرة الأُولى،على الإنامة أُخرى، كما في الفقرة الثانية.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى قوله سبحانه: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ)، فمعناه: يأخذكم ملك الموت الذي وكّل بكم ثم إنّكم إلى الله ترجعون. وهذا مآله إلى أنّ شخصيتكم الحقيقية لا تضل أبداً في الأرض، وما يرجع إليها يأخذه ويقبضه ملك الموت، وهو عندنا محفوظ لا يتغير ولا يتبدّل ولا يضلّ، وأمّا الضال، فهو البدن الذي هو بمنزلة اللباس لهذه الشخصية.

فينتج أنّ الضال لا يشكل شخصية الإنسان، وما يشكّلها ويقوّمها فهو محفوظ عند الله، الذي لا يضلّ عنده شيء.

والآية تعرب عن بقاء الروح بعد الموت وتجرّدها عن المادة وآثارها، وهذا الجواب هو الأساس لدفع أكثر الشبهات التي تطرأ على المعاد الجسماني العنصري.

جواب الشبهة الرابعة ـ شخصية المعاد نفس شخصية المُبْتدأ
عرفت أنّهم قالوا: إذا كانت الغاية من المعاد، تحقيق العدل الإلهي، وإثابة المطيع، وعقاب العاصي، فيجب أن يكون المعاد نفس المبتدأ حتى لا يؤخذ البريء بجرم المتعدي، وهو يتوقف على وجود الصلة بين الشخصيتين، وليس هناك صلة بينهما.

وهذه الشبهة ناشئة من نفس ما نشأت الشبهة السابقة منه، وهو تخيّل أنّ شخصية الإنسان منحصرة في الإطار المادي، لا غير. ولعلّ قولهم: "أئذا ضللنا في الأرض"، يشير إلى هذه الشبهة.

والجواب نفس الجواب السابق، وهو أنّ ما يرجع إلى حقيقة الإنسان محفوظ عند الله سبحانه، وهو الصّلة الوثيقة بين المبتدأ والمعاد، وهو الذي يجعل البدن الثاني، إعادة للشخص الأول، لأنّ شخصيته هي روحه ونفسه وهي محفوظة في كلتا الحالتين، وإنّما البدن أداة ولباس لها، وليس هذا بمعنى أنّ الروح تعاد ولا يعاد البدن، ولا أنّه لا يعاد نفس البدن الأول ، بل بمعنى أنّ المناط للشخصية الإنسانية، هو روحه ونفسه، والبدن غير مُهْتَم به، والغرض من حشره ببدنه، عدم إمكان تعذيب الروح أو تنعيمها إلاّ عن طريق البدن، فإذا كانت الشخصية محفوظة، فلا تنقطع الصلة بين المبتدأ والمعاد، خصوصاً أنّ أجزاء البدن المبعثرة، معلومة لله سبحانه. فهو يركّب تلك الأجزاء المبعثرة، وتتعلق بها الروح، قال سبحانه: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ(ق:4). وقال سبحانه: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَلِيمٌ(يس:79). فالتعبير بـ(خَلْق عَلِيمٌ) مكان "خلق قدير"، إشارة إلى علمه تعالى بأجزاء بدن كل إنسان.

إلى هنا فرغنا من الإجابة عن الشبهات المطروحة حول المعاد التي ذكرها القرآن، وبما أنّ الإجابة عن الشبهتين الأخيرتين مبني على تجرّد الروح بقائها بعد الموت، نفرده بالبحث ونثبت هذا التجرّد عقلاً ونقلاً، وهو من مهام البحوث في المعاد.


*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج4،ص183-194
1- نهج البلاغة، الخطبة 180.
2- لاحظ النحل:77، العنكبوت:20، الروم:50، فصلت:39، الشورى: 9 و 29، الأحقاف:23، الحديد:2.
3- وقد ورد في هذا المجال آيات أُخر، فلاحظ يس: 79، الطارق:5-8.
4- ولاحظ الزخرف:11، الروم: 19، فاطر: 9، ق:9ـ11.
5- لسان العرب، ج 15، ص 400، مادة "وفى".
2009-07-24