بواعث إنكار المعاد وشبهات المنكرين
أدلة المعاد
الناس أمام دعوة الأنبياء إلى البعث في النشأة الأخرى كانوا على صنفين: معتنق يشكل الأقلّية في المجتمع الإنساني، ومنكر يشكل الأكثرية الساحقة فيه. وكان المشركون من العرب، المعاصرون للنبي، أكثر عناداً ولجاجاً في المعارف، خصوصاً ما يرجع منها إلى البعث ويوم الحساب.
عدد الزوار: 109
الناس أمام دعوة الأنبياء إلى البعث في النشأة الأخرى كانوا على صنفين: معتنق يشكل الأقلّية في المجتمع الإنساني، ومنكر يشكل الأكثرية الساحقة فيه. وكان المشركون من العرب، المعاصرون للنبي، أكثر عناداً ولجاجاً في المعارف، خصوصاً ما يرجع منها إلى البعث ويوم الحساب.
غير أنّه كانت لهم بواعث للإنكار، كما كانت لهم شبهات، ولم تكن شبهاتهم إلاّ واجهة لإنكارهم، فيبرروا جحودهم بها، ويعطوه صبغة الحجة،العذر.
ونحن نذكر بواعث الإنكار أوّلاً، ثم نردفها بالشّبهات ثانياً، ونعتمد في ذلك على الذكر الحكيم الذي ينقل ذلك عن المنكرين، سواء كانوا من الأُمم السالفة، أو من المعاصرين لنزول الرسالة.
بواعث إنكار المعاد
كثيراً ما نرى أُناساً يتبنّون شيئاً ويحتجون له بأدلّة واهية، وهم يعلمون بوهنها، وأنّ المخاطبين يقفون على سقمها، ومع ذلك، يصرّون على مواقفهم. وهذا من الأُمور التي تمكّن من استكشاف الباعث أو البواعث الواقعية لهذا التبني من خلال أفعالهم وسيرتهم ومعاشراتهم، والذكر الحكيم كشف عن تلك البواعث التي كانت تدفع المشركين إلى إنكار المعاد، ثم التعلل له بحجج واهية، وإليك بيانها.
الباعث الأوّل ـ التحلل من القيود والحدود
إنّ الإيمان بالمبدأ والمعاد، لا يتلخص في الإقرار اللساني، بل المؤمن يحمل مسؤولية خاصة أمام الله سبحانه في الحياة الدنيوية، ولازم هذه المسؤولية، الالتزام بحدود وقيود تصُدُّه عن التحلل والإفراط في الملاذ والشهوات والانهماك في إشباع الغرائز الحيوانية. وقد كان الالتذاذ وإتباع الهوى، غاية المنى لأكثر المنكرين، وكان يسود عليهم سيادة الإله على خلقه، قال سبحانه: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً﴾(الفرقان:43).
ولمّا كان الاعتقاد بالمعاد، مناف لهذا المبدأ الحيواني، أنكروه بحجج واهية يأتي الإشارة إليها، ويشير الذكر الحكيم إلى هذا الباعث، بقوله:
﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾(القيامة:3 ـ 6).
فالآية الأُولى تذكر معتقدهم وإنكارهم، والآية الثانية تذكر باعث إنكارهم، وأنّه ليس هو ما يتظاهرون به من عدم إمكان جمع العظام، وإنّما هو رغبتهم في أن يرفعوا كل عائق يحدّ من انغماسهم في الملذات، وكلّ رادع يصدّهم عن إرضاء الغرائز البهيميّة. وقوله: (لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ)، بمعنى ليشقّ أمامه، و لا يرتدع بشيء من القوانين والتشريعات.
الباعث الثاني ـ صيانة السلطة
إنّ السنّة السائدة عند أصحاب السلطة هي استعباد غيرهم واضطهاد حقوقهم، كما أنّ السنّة السائدة على المترفين في الحياة الدنيا، هي الانهماك في اللذائذ، وكلاهما لا يتّفقان مع الاعتقاد بالمعاد ويوم الحساب، يقول سبحانه: ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾(المؤمنون:33 ـ 37).
فالآية الأُولى تشير إلى باعثين من بواعث الإنكار، بينهما صلة قوية، ولذلك أدمجناهما وجعلناهما باعثاً واحداً، أحدهما باعث نفسي هو الإتراف و التّمتّع بأسباب الشهوات، والآخر باعث سياسي، هو ما كان للمنكرين من عِلية القوم وأشرافهم من تسلّط على أقوامهم فأنكروا المعاد لئلا تتزعزع عروش سلطتهم بانتشار هذه العقيدة بين أتباعهم ومرؤوسيهم، فكانوا يدعون الناس إلى إنكار المعاد ويقولون: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ.
الباعث الثالث ـ التكذيب بالحق
إنّ هناك آيات تعرب عن أنّ المنكرين، من أوّل يوم واجهوا فيه دعوة الرسل، أنكروها ولم يعتنقوها، فجرّهم ذلك إلى إنكار المعارف كلّهابالأخص المعاد، وحشر الإنسان في النشأة الأُخرى.
نعم، لا ينفك عنادهم أمام الأنبياء عن علّة نفسية أو اجتماعية أو سياسية، جرّتهم إلى اتّخاذ ذلك الموقف السلبي في بدء الدعوة في كلّ ما يقوله الأنبياء ويدعون إليه، وإن كان بعضه موافقاً لطبعهم وشعورهم، والذكر الحكيم يشير إلى هذا الباعث بقوله حاكياً عنهم: ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْر مَرِيج﴾(ق:3 ـ 5).
فيذكر في الآيتين الأوليين شبهتهم إلاّ أنّه سرعان ما بيّن في الآية الثالثة أنّ هذه الشبهة واجهة وغطاء لها، وأنّ الباعث الواقعي هو تكذيبهم بالحق من أوّل الأمر، ولأجل ذلك هم في أمر مريج مضطرب.
هذه هي البواعث التي كانت تدفع إلى إنكار المعاد، ونحت الأعذار والشبهات في هذا المجال.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج4،ص180-183