المعاد : خاتمة المطاف في تكامل الانسان
أدلة المعاد
إنّ الحركة تتقوم بأُمور ستة، منها الغاية، كما حقق في محلّه. اعتبار الغاية في حقيقة الحركة ينشأ من تصوّر مفهومها، فإنّ الحركة جهد وسعي، يتطلب صاحبها غاية يفقدها، من غير بين أن تكون الغاية عقلائية، كحركة الطالب لتحصيل العلم، أو غير عقلائية، كاللعب بالسّبحة لترويح النفس.
عدد الزوار: 115
إنّ الحركة تتقوم بأُمور ستة، منها الغاية، كما حقق في محلّه. اعتبار الغاية في حقيقة الحركة ينشأ من تصوّر مفهومها، فإنّ الحركة جهد وسعي، يتطلب صاحبها غاية يفقدها، من غير فرق أن تكون الغاية عقلائية، كحركة الطالب لتحصيل العلم، أو غير عقلائية، كاللعب بالسّبحة لترويح النفس.
ونرى أنّ الإنسان منذ تكونه نطفة فعلقة فمضغة، إلى أن يفتح عينه على الوجود، في حال حركة دائمة وسعي متواصل ليس له ثبات ولا قرار، وهو يطلب بحركته وسعيه شيئاً يفقده. فعلى ذلك لا بدّ من وجود يوم يزول فيه وصف اللاقرار، ويدخل منزلاً فيه القرار والثبات، يكون غاية المطاف.
والحركة وإن كانت تتوقف بالموت ولا يرى بعدها في الإنسان سعي، لكنّ تفسير الموت ببطلان الإنسان وشخصيته الساعية، إبطال للغاية التي كان يتوخاها من حركته، فلابدّ أن يكون الموت وروداً إلى منزل آخر، يصل فيه إلى الغاية المتوخاة من سعيه وجهاده، وذلك المنزل هو النشأة الأخروية.
ولا يصح أن يقال إنّ الغاية من الحركة والسعي والكدح، هو نيل اللذائذ المادية والتجملات الظاهرية، لوضوح أنّ الإنسان مهما نال منها، لا يخمد عطشه، بل يستمر في سعيه وطلبه، وهذا يدلّ على أنّ له ضالة أُخرى يتوجّه نحوها، وإن لم يعرف حقيقتها، فهو يطلب الكمال اللائق بحاله، ويتصور أنّ ملاذّ الحياة غايته، ومنتهى سعيه، ولكنه سوف يرجع عن كل غاية يصل إليها ويعطف توجهه إلى شيء آخر.
قال صدر المتألّهين: الآيات التي ذكرت فيها النطفة وأطوارها الكمالية، وتقلّباتها من صورة النقص إلى صورة أكمل، ومن حال أدون إلى حال أعلى، فالغرض من ذكرها، إثبات أنّ لهذه الأطوار والتحولات غاية أخيرة، فللإنسان توجّه طبيعي نحو الكمال، ودين إلهي فطري في التقرّب إلى المبدأ الفعّال، والكمال اللائق بحال الإنسان المخلوق أوّلاً من هذه الطبيعة، وإلاّ كان لا يوجد في هذا العالم الأدنى، بل في عالم الآخرة التي إليها الرجعى، وفيها الغاية والمنتهى، فبالضرورة إذا استوفى الإنسان جميع المراتب الخلقية الواقعة في حدود حركته الجوهرية الفطرية، من الجمادية والنباتية، والحيوانية، وبلغ أشدّه الصوري، وتمّ وجوده الدنيوي الحيواني، فلابدّ أن يتوجه نحو النشأة الآخرة ويخرج من القوة إلى الفعل، ومن الدنيا إلى الأُخرى، ثم المولى، وهو غاية الغايات، ومنتهى الأشواق والحركات1.
وفي الآيات الكريمات إشارات إلى هذا البرهان، يفهمها الراسخون في الذكر الحكيم.
يقول سبحانه: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾(المؤمنون:14ـ16).
وأنت إذا لاحظت هذه الآيات وما تقدمها ممّا يتكفل ببيان خلقة الإنسان،ترى لها انسجاماً وترابطاً خاصّاً، فالله سبحانه يصف الإنسان بأنّه كان نطفة فعلقة فمضغة، إلى أن أنشأه خلقاً آخر، ثم يوافيه الموت، ثم يبعث يوم القيامة، فكأنّ الآية تبيّن تطور الإنسان تدريجاً من النقص إلى الكمال، ومن القوة إلى الفعل، وأنّه منذ تكوّن يسير في مدارج الكمال، إلى نهاية المطاف وهو البعث يوم القيامة، فهذا غاية الغايات، ومنتهى الكمال.
ويمكن استظهار ذلك من قوله سبحانه: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَة إِذَا تُمْنى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرى﴾(النجم: 45ـ47)، بالبيان الماضي في الآية السابقة.
ولعلّه لأجل ذلك يصف القرآن يوم البعث ب"المساق"، و"الرّجعى"، و"دارالقرار" ويقول: ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذ الْمَسَاقُ﴾(القيامة:30)، و﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾(العلق:8)، و﴿إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾(غافر:39).
دليل آخر على المعاد: المعاد مقتضى الربوبية
إنّ الربّ في اللغة بمعنى الصاحب، يقال: ربّ الدّار، وربّ الضّيعة. فالربوبية تحكي عن مالكية الرّبّ، ومملوكية المربوب.
والعلاقة المتّسمة بالربوبية، تقتضي كون المربوب ذا مسؤولية أمام ربّه، وأنّ الربّ لا يتركه سدى، بل يحاسبه على أعماله ويجازيه بما أتى تجاهه، وبما أنّ هذه المحاسبة لا تتحقق في النشأة الدنيوية، فيجب أن يكون هناك نشأة أُخرى تتحقق فيها لوازم الربوبية، فلا معنى لربّ بلا مربوب، كما لا معنى لمربوب يترك سدى، ولا يحاسب على أعماله وأفعاله.
ولعله لهذا الوجه، يركّز القرآن على كلمة الرّبّ في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ﴾(الإنشقاق:6).
وفي قوله: ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْق جَدِيد أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ﴾(الرعد:5).
وهذه الآية الثانية، أصرح في المطلوب، وهو أنّ كفرانهم بربّهم جعلهم منكرين للمعاد، فلو عرفوا حقيقة الربوبية، وعرفوا ربّهم، لأذعنوا بأنّ مقتضى الربوبية، لزوم وجود يوم تطرح فيه أعمال العباد على طاولة الحساب.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج4،ص176-179
1- الأسفار، ج 9، ص 159.