يتم التحميل...

مشاهد البعث والقيامة

يوم القيامة

أشراط الساعة هي التّي تخبر عن دنوّها، وهي غير نفس القيامة، فإنها الأمور الكونية التي تدبّر النظام السائد، ليؤسس بعده نظام جديد لمحاسبة العباد، وجزائهم، وقد أكثر الذكر الحكيم من نقل وتصوير مشاهد القيامة في سوره القصار. وبعد تلك الحوادث المريعة، تتلا حق مواقف العالم الأُخروي...

عدد الزوار: 232
أشراط الساعة هي التّي تخبر عن دنوّها، وهي غير نفس القيامة، فإنها الأمور الكونية التي تدبّر النظام السائد، ليؤسس بعده نظام جديد لمحاسبة العباد، وجزائهم، وقد أكثر الذكر الحكيم من نقل وتصوير مشاهد القيامة في سوره القصار.

وبعد تلك الحوادث المريعة، تتلا حق مواقف العالم الأُخروي إلى أن يرد الخلق إلى مثواهم الأخير، وفيما يلي نستعرضها واحدةً بعد الأُخرى.

1- انهدام النظام
تضافرت الآيات القرآنية على أن البعث لا يقوم على هذا النظام السائد، وإنما يقوم على نظام جديد، وهو لا يتحقق إ لا بتلاشي النظام الموجود وانهدامه. والقرآن يخبر عن مشاهد ذاك الانهدام الكوني العام فيحدّث عن انشقاق السماء وانفطارها، وتكوير الشمس، وانكدار النجوم وتناثرها، وامتداد الأرض، وتفجير البحار وتسجيرها، وتسيير الجبال حتى تكون كالعهن المنفوش، وغير ذلك من المشاهد المروعة للقلوب1.

2- خروج الناس من القبور
ويستعقب ذلك مشهد آخر، ألا وهو خروج الناس من الأجداث.

يقول سبحانه: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ(يس:51-52).

وبعد ذلك يدعى الناس إلى الحساب، وموقف العرض، وهو مشهد أشدّ في النفس هولاً مما سبق، لعظم الحسرة والخوف الحاكمين على القلوب آنئذ، يقول سبحانه: ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَىْء نُكُر * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ(القمر:6-8)2. ﴿لِكُلِّ امْرِئ مِنْهُمْ يَوْمَئِذ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(عبس:37).

3- إعطاء الكتب
وبعد خروج الناس من القبور وإحضارهم إلى موقف المحاكمة، ووقوفهم على صعيد الحساب، تنشر الصحف ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَت(التكوير:10). فيأخذ كلّ إنسان كتابه الذي دوّن فيه "بيد الحفظة من الملائكة" ما عمله من صغير وكبير، فمنهم من يتلقاه بيمينه، ومنهم من يتلقاه بشماله.

يقول سبحانه:  ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُورا(الانشقاق:7ـ11) وسيأتي بيان أوفى لإعطاء الكتب في الشهود.

4- الحساب والشهود
وبعد تناول الصحف يبدأ الحساب، وهو مشهد مروّعٌ للقلوب ومقطّعٌ للأرواح، إنّه مشهد القضاء على الناس بشهود لا يتطرق إلى شهادتهم ريب ولا يتّهمون بكذب. وهم بين شاهد خارجي كالله سبحانه، والأنبياء، والملائكة، والأرض، وداخلي كالأعضاء والجوارح حتى جلد البدن.

وهناك نوع آخر من الشهود لا يشابه القسمين، وهو تجسّم أعمال الإنسان بوجود يناسب تلك النشأة وهذا نظير عرض صور الجريمة ووقائعها التي التقطت عند ارتكاب المجرم لها، أوبثّ الشريط الّذي سجل فيه كلام المعتدي بالسبّ والوقيعة، وإن كان هناك فرق بين الممثّل والممثّل له.

وبذلك لا يجد المجرم لنفسه إلا الاعتراف بالذنب والتقصير والجرأة، لثبوت الجرم عليه بوجه لا يقبل الإنكار، وإليك عرض هؤلاء الشهود في ضوء آيات القرآن الكريم، مقدّمين الشهود الخارجيين على الداخليين.

الشاهد الأول: الله سبحانه
من عجيب الأمر أنّ الله سبحانه هو القاضي والحاكم بين العباد، وهو بنفسه أيضاً شاهد على أعمالهم، يقول سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ(الحج:17).

ويقول سبحانه ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ(آل عمران:98).

الشاهد الثاني: نبيّ كلّ أمّة
يدل القرآن الكريم على أنّ لكلّ أُمّة شهيداً من أنفسهم، وقد جاء ذلك في عدة آيات منها قوله سبحانه: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّة شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ(النحل:89).

وقوله سبحانه: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّة شَهِيدًا...(القصص:74-75).

والظاهر أنّ هذا الشاهد من كل أُمّة هو نبيهم، وإن لم يصرح به في الآيات، وذلك للزوم كون الشهادة القائمة هناك مشتملة على حقائق لا سبيل للمناقشة فيها، فيجب أن يكون هذا الشاهد عالماً بحقائق الأعمال التي يشهد عليها، لا بظاهر صورها وهيئاتها المحسوسة لأنّ صورها مشتركة بين الطاعة والمعصية.

ولا يكون هذا إلاّ بأن يستوي عنده الحاضر والغائب، ويعاين حقيقة ما انعقدت عليه القلوب فيتميز هذا الشاهد بخصوصيتين.

الأولى: أنّه محيط إحاطة علمية تامةً على حقائق الأعمال وما يجري في القلوب، ويختلج في النفوس.

الثانية: أن يكون ذا عصمة إلهية ليمتنع عليه الخطأ والاشتباه عند تحمّل الشهادة، والكذب والخيانة عند أدائها.

ولا يتصور هذا المقام إلا لنبي كلّ أُمّة، وسيأتي تتميم لذلك في الشاهد الرابع.

الشاهد الثالث: نبيّ الإسلام
عدّ القرآن نبيّ الإسلام شاهد أُمّته، يقول سبحانه: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهِيد وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا(النساء:41).

ويقول سبحانه: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّة شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاَءِ..(النحل:89)3.

وقد عرفت أنّ هذه الشهادة تستلزم من الكفاءات شيئاً عظيماً، وبهذا يظهر عظم مقام هذا الشاهد، لوقوفه على ضمائر القلوب وأعمال الأُمّة، وإن كانوا بعيدين عنه. ومن كان له هذا المقام، فتعرّفه على الغيب من أهون الأُمور، ومع ذلك نرى بعض القشريين ينزعجون من إثبات علم الغيب للنبيّ، ويزعمون انّ نسبته إليه وإلى الله سبحانه يستلزم الشرك، ولكن عزب عنهم الفرق بين العلم الكسبي والذاتي، والمحدود واللا محدود، والقائم بالغير والقائم بالنفس.

الشاهد الرابع: بعض الأُمّة الاسلامية
يقوله سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا(البقرة:143).

والخطاب في الآية للأُمّة الإسلامية، ولكن المراد قسم منها، نظير قوله سبحانه ﴿وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً(المائدة :20)، مخاطباً بني إسرائيل، والمراد بعضهم. فباعتبار وجود الصّلة القوية بين القبيلة وملوكها، نسب الملوكية إلى الجميع.
 
والدليل على أنّ المراد بعض الأُمّة، هو أنّ أكثر أبناء الأُمّة، مجهزون بحواس عادية لا تتحمل إلاّ صور الأفعال والأعمال إذا كانوا في محضر المشهود عليهم، وهولا يفي في مقام الشهادة، لأنّ المراد من الشهادة هو الشهادة على حقائق الأعمال، والمعاني النفسانية من الكفر والإيمان والفوز والخسران، وعلى كل خفي عن الحسّ، ومستبطن عن الإنسان، وعلى كل ما تكسبه القلوب، الذي يدور عليه حساب ربّ العالمين، يقول سبحانه: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ(البقرة :225).

وليس ذلك في وسع الإنسان العادي إذا كان حاضراً عند المشهود عليه، فضلاً عن كونه غائباً، وهذا يدلّنا على أنّ المراد رجال من الأُمّة لهم تلك القابلية، بعناية من الله تعالى، فيقفون على حقائق أعمال الناس من إخلاص ورياء، وانقياد وتمرد، ويؤدّون ذلك يوم القيامة. وهذه الكرامة ليس ينالها جميع الأُمّة، بل الأولياء الطاهرون منهم، لا المتوسطون في الإيمان، فضلاً عن الملوثين بالمعاصي والملطخين بالجرائم.

وقد التجأ بعضهم إلى جعل متعلق الشهادة كون الأمّة على دين جامع ووسط، وهو بمعزل عن التحقيق، إذ ليس ذلك شهادة بشيء، وقد وردت لفظة الشهادة بمعنى واحد في جميع القرآن، في آياته المختلفة.

وبذلك يظهر معنى قوله سبحانه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ(الحج:78). فالخطاب متوجّه إلى الأُمّة، والمراد بعضهم ممن أُعطيت لهم هذه الكرامة.

وهناك وجه آخر لما ذكرنا، وهو أنّ أقلّ ما يعتبر في الشهود هو العدالة والتقوى، والصدق والأمانة، والأكثرية الساحقة من الأُمّة، يفقدون ذلك، وهم لا تقبل شهادتهم على صاع من تمر وباقة من بقل، فكيف تقبل شهادتهم يوم القيامة؟!

وإلى هذا تشير رواية الزبيري عن الإمام الصادق عليه السَّلام قال: "قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا(البقرة:143)، فإن ظننت بأنّ الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين، أفترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر، يطلب الله شهادته يوم القيامة، ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية. كلا، لم يعن الله مثل هذا من خلقه"4.

إلى هنا تمّ الكلام حول الشهود الخارجيين، وإليك الكلام في الشهود الداخليين، الذين لا ينفكون عن نفس المجرم.

الشاهد الخامس: الأعضاء والجوارح
من عجيب الأمر أن تشهد أعضاء الإنسان عليه: لسانه ويده ورجله، بأمر من الله سبحانه.

يقول سبحانه: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(النور:24).

ويقول سبحانه: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(يس:65).

وأما كيفية الشهادة فهي من الأمور الغيبية نؤمن بها، وما إنطاقها عليه بعزيز، وقد وسعت قدرته تعالى كلّ شيء.

الشاهد السادس: الجلود
وتشهد على الناس جلودهم أيضاً.

يقول سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لجُلُوِدِهمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْء(فصلت:20-21).

وقوله: (أنطقنا الله الّذي أنطق كلّ شيء)، يشير إلى سعة قدرته سبحانه على إنطاق الجلود5.

الشاهد السابع: الملائكة
إنّ للإنسان حفظة يصحبونه منذ بلوغه التكليف فيسجّلون إعماله خيرها وشرّها، وهذا قوله سبحانه: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْل إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(ق:18).

وهذا الرقيب العتيد يشهد أعمال من وكّل به يوم القيامة، عندما يرد الإنسان صعيد الحساب مع سائقه، كما يقول سبحانه: ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْس مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ(ق:21).

فأحد الملائكة يسوق الإنسان، وآخر يشهد على أعماله.

الشاهد الثامن: صحيفة الأعمال
هناك آيات تدلّ على وجود صحف تضبط فيها أعمال العباد خيرها وشرّها، وكتبة يمارسون كتابتها، ويوم الحساب تعرض على الإنسان، فيقرؤها، فيرى المجرم مشفقاً منها، يغلبه التعجب من إحاطة الكتاب بدقيق أعماله وجليلها.

يقول سبحانه: ﴿قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ(يونس:21)6.

ويقول سبحانه: ﴿وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِير وَكَبِير مُسْتَطَرٌ(القمر:52-53).

ويقو ل سبحانه : ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَىْء أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُبِين(يس:12)7.

ويقول سبحانه مصوّراً حال المجرم عند الحساب وشهادة الكتاب عليه: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرى الُْمجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ(الكهف:49).

ويقول سبحانه حاكياً تعجّب المجرمين من إحاطته بعظائم الأعمال ودقائقه: ﴿مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا(الكهف:49).

وكفى في إذعان الإنسان بجرمه وعصيانه، كتابه، يقول سبحانه: (اِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً(الإسراء:14).

الشاهد التاسع: الأرض
إنّ كلّ عمل طالحاً كان أوصالحاً، إذا كان بدنياً، يصدر من الإنسان في نقطة وبقعة من بقاع الأرض، وهي تشهد يوم القيامة على الحوادث التي وقعت فيها، يقول سبحانه: ﴿يَوْمَئِذ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(الزلزلة:4-5). وكيفية شهادتها من الأمور الغيبية، ولكن يمكن أن نستعين على تقريبها بالأمور المحسوسة ببيان أنّ المجرم والمحسن يتركان بعد العمل آثاراً يستدل ّبها على كيفية عمله.

هذا وإن الخبراء يستدلّون بالمستندات الحفرية، على كيفية حياة الماضين وحضارتهم وعلومهم، وسائر شؤون حياتهم، وقد ورد عن النبي أنّه لم يرتحل من منزل إلاّ صلى فيه ركعتين وقال: "حتى يشهد عليّ بالصلاة"8.

روى الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي ذرّعن النبي صلى الله عليه وآله، في وصيته له: "يا أباذرّ، ما من رجل يجعل جبهته في بقعة من بقاع الأرض، إلاّ شهدت له بها يوم القيامة"9.

الشاهد العاشر: تجسم العمل بهويّته الأُخروية
دلّ القرآن والأحاديث على انّ لكل عمل يرتكبه الإنسان في هذه النشأة، صورتين وظهورين وهويتين، يتمثل بإحداهما في هذه النشأة، وبالأخرى في النشأة الآخرة. فالصلاة في هذه الدنيا عبارة عن الأذكار والحركات، وهي هويتها الدنيوية، ولكنها لها في النشأة الأُخروية ظهور آخر. ومثله الأعمال الإجرامية، فإنّ لكلّ منها صورتين، يتمثّل بإحداهما في الدنيا، وبالأُخرى في الآخرة.

يقول سبحانه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرًّا يَرَهُ(الزلزلة:7-8)، وظاهر الآية هو مشاهدة نفس العمل. وتأويله بمشاهدة الجزاء، على خلاف الظاهر، والآيات الواردة في مجال تجسّم الأعمال كثيرة، نكتفي بواحدة منها:

يقول سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَاب أَلِيم * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُم وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ(التوبة:34-35).

والآية تعرب عن تجسم الذهب والفضة اللّذين كنزا بصورة النار المُحمّاة، بحيث يطلق عليها أنّها نفس ما كنزوه.

5- مشهد الميزان
إنّ هؤلاء الشهود الكثيرون يكفون في مقام القضاء وإتمام الحجة، غير أنّه سبحانه، لا يكتفي بهم، كما لا يكتفي بصحائف الأعمال التي ضبطت فيها جميع أفعال العبد جليلها، ودقيقها، بل يجسد وضع الإنسان بتوزين أعماله بالميزان الّذي يضعه يوم القيامة.

يقول سبحانه: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّة مِنْ خَرْدَل أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ(الأنبياء:47).

والناس بين ثقيل الميزان وخفيفه يقول سبحانه: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ(الأعراف:8-9).

غير أنّ الكلام في تبيين حقيقة هذا الميزان الّذي توزن به الأعمال، فهل هو كهذه الموازين الحسية الموضوعة فوق مناضد البقالين والعطارين، وشيء غيرها، فنقول:

لاشك أنّ النشأة الآخرة، أكمل من هذه النشأة، وأنّه لا طريق لتفهيم الإنسان حقائق ذلك العالم وغيوبه المستورة عنّا، إلاّ باستخدام الألفاظ التي يستعملها الإنسان في الأُمور الحسية. وعلى ذلك، فلا وجه لحمل الميزان على الميزان المتعارف خصوصاً بعد استعمال الميزان في القرآن في غير هذا الميزان المحسوس.

الميزان في اللغة اسم آلة يوزن بها الشيء، يقول سبحانه: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ(الرحمن:7)، فالله سبحانه يخبر فيها عن رفع السماء وخلقها مرفوعة، كما يخبر عن أنّه وضع لكل شيء ميزاناً يقدّر به، من غير فرق بين أن يكون جسماً وقولاً وفعلاً وعقيدة، فلكلّ شيء ميزانٌ يميّزبه الحقّ من الباطل، والصدق من الكذب، والعدل من الظلم، والرذيلة من الفضيلة. ولأجل هذه السّعة في معنى الميزان يقول سبحانه: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ(الحديد:25)، فلا معنى لتخصيص الميزان هنا بما توزن به الأثقال، مع أنّ الهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتب والميزان هو قيام الناس بالقسط في جميع شؤونهم العقيدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. وبذلك يعلم أنّ تفسير الميزان بالعدل، أو بالنبي، وبالقرآن، كلّها تفاسير بالمصداق، فليس للميزان إلاّ معنى واحد هو: ما يوزن به الشيء، وهو يختلف حسب اختلاف الموزون من كونه جسماً وحرارة ونوراً وضغطاً ورطوبةً وغير ذلك .

يقول صدر المتألهين رحمه الله: "ولو تأملوا قليلاً في نفس معنى الميزان، وجرّدوا حقيقة معناه عن الزوائد والخصوصيات، لعلموا أنّ حقيقة الميزان ليس يجب أن يكون البتة مما له شكل مخصوص، أو صورة جسمانية، فإنّ حقيقة معناه وروحه وسّره، هو ما يقاس ويوزن به الشيء، والشيء أعمّ من أن يكون جسمانياً وغير جسماني، فكما أنّ القبّان، وذا الكفتين وغيرهما ميزان للأثقال، والاسطرلاب ميزان للارتفاعات والمواقيت، والشاقول ميزان لمعرفة الأعمدة، والمسطر ميزان لاستقامة الخطوط، فكذلك علم المنطق ميزان للفكر في العلوم النظرية، وعلم النحو ميزان للإعراب والبناء، والعروض ميزان للشعر، والحسّ ميزان لبعض المدركات، والعقل الكامل ميزان لجميع الأشياء، وبالجملة ميزان كل شيء يكون من جنسه، فالموازين مختلفة والميزان المذكور في القرآن ينبغي أن يحمل على أشرف الموازين وهو ميزان يوم الحساب، كما دلّ عليه قوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ(الأنبياء:47) وهو ميزان العلوم وميزان الأعمال القلبية، الناشئة من الأعمال البدنية"10.

ويؤيد ذلك أنّه سبحانه يصف الميزان بكونه منزلاً من جانبه سبحانه، كما في الآية السابقة ويقول: ﴿اللهُ الذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَق وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ(الشورى:17).

وبما أنّ توزين الأعمال بالموازين القسط، من الأُمور الغيبية الّتي لا يقف عليها الإنسان إلاّ بخرق الحجب وحضور ذلك المشهد، يعسر تبيين حقيقته، والّذي يمكن أن يقال إنّه ليس من قبيل هذه الموازين الحسية التي توزن بها الأجسام الثقيلة وغيرها. وما ذكر له من التفاسير لا يتجاوز حدّ الاحتمال.

يقول صدر المتألهين: "وأمّا القول في ميزان الأعمال، فاعلم أنّ لكل عمل من الأعمال البدنية، تأثيراً في النفس فإن كان من باب الحسنات والطاعات، كالصلاة والصيام والحج والزكاة والجهاد، وغيرها، فله تأثير في تنوير النفس وتخليصها من أسر الشهوات وجذبها من الدنيا إلى الأُخرى، ومن المنزل الأدنى إلى المحل الأعلى، وكذلك فلكل عمل حق مقدار معين من التأثير في التنوير والتهذيب .وإذا تضاعفت وتكثّرت الحسنات، فبقدر تكثرها وتضاعفها، يزداد مقدار التأثير والتنوير.

وكذلك لكل عمل من الأعمال السيئة قدراً معيناً من التأثير في إظلام جوهر النفس وتكديرها وتعليقها بالدنيا وشهواتها، فإذا تضاعفت المعاصي والسيئات، ازدادت الظلمة والتكثيف شدّة وقدراً، وكل ذلك محجوب عن مشاهدة الخلق في الدنيا. وعند قيام الساعة وارتفاع الحجب، ينكشف لهم حقيقة الأمر في ذلك، ويصادف كل أحد مقدار سعيه وعمله، ويرى رجحان إحدى كفتي ميزانه، وقوة مرتبة نور طاعته وظلمة كفرانه"11.

وعلى هذه النظرية، فليس هنا ميزان وراء انكشاف السرائر والملكات الحسنة والسيئة، وغاية ما في الأمر أنّ الإنسان يقف بعد رفع الحجاب على قربه وبعده من الربّ، وتتجسد له مرتبة نور طاعته وظلمة كفرانه .

ويقرب منه ما ذكره صاحب المنار، قال: "إذا كان البشر قد اخترعوا موازين للأعراض كالحرّ والبرد، أفيعجز الخالق البارئ القادر على كل شيء، عن وضع ميزان للأعمال النفسانية والبد نية، المعبّر عنها بالحسنات والسيئات بما أحدثته في الأنفس من الأخلاق والصفات، والنقل والعقل متفقان على أنّ الجزاء إنّما يكون بصفات النفس الثابتة، لا بمجرد ما كان سبباً لها من الحركات والأعراض الزائدة"12.

وبما قدمنا يندفع عمدة ما أشكل على المتقدمين من المتكلمين في توزين الأعمال من أنّ العمل عرض غير باق، فكيف يمكن توزينه في الآخرة؟!

فبعد إمكان توزين الحرارة والبرودة، والضغط والرطوبة، وغيرها من الأعراض الزائلة، بل توزين الطاقة والحركة والعمل التي هي الوجه الآخر للمادة، إذ ليست هي إلاّ المادة المستهلكة، وهي توزن بالآلات وتقاس، فيقال إن لهذا المحرك جهد كذا من الأحصنة، وغير ذلك من الأقيسة، فبعد إمكان وزن الأعراض وعمل الآلات، ألا يمكن وزن عمل الإنسان في الآخرة بوجه من الوجوه؟!

هذا كله حول الميزان في النشأة الأُخرى، واعلم أنّه سبحانه لم يترك الإنسان سدى، بل جعل لتشخيص صحة عقائده وأخلاقه وأعماله، موازين كالكتاب والسنّة والعقل، قال الإمام الباقر عليه السَّلام لأحد أصحابه:" إعرض نفسك على ما في كتاب الله، فإن كنت سالكاً سبيله، زاهداً في تزهيده، راغباً في ترغيبه، خائفاً من تخويفه، فاثبت وأبشر، فإنّه لا يضرك ما قيل فيك، وإن كنت مبائناً للقرآن، فماذا الّذي يغرّك من نفسك؟"13.

وعلى ضوء هذا، فالقرآن ميزان، كما أنّ النبي ميزان، والإمام المعصوم ميزان، فلا غرو من أن نزور علياً ونقول:

"السلام على يعسوب الإيمان وميزان الأعمال، وسيف ذي الجلال"14.

وفي الختام نشير إلى أمرين
الأوّل: إنّ بعض السلف، اغتراراً بالظواهر، ذهب إلى أنّ الميزان له كفّتان ولسان وساقان. وهو تعبّد بالظاهر وتعطيل للتعقل والتدبّر في نفس القرآن الكريم. بل الأولى لهم ان يقولوا: الميزان عبارة عمّا يعرف به مقادير الأعمال وليس علينا البحث عن كيفيته بل نؤمن به ونفوض كيفيته إلى الله تعالى، كما قال المحقق الدواني15.

الثاني: المنقول عن المعتزلة16 أنّهم ينكرون الميزان قائلين بأنّ الأعمال أعراض وقد عدمت، فلا يمكن إعادتها. وعلى تقدير إعادتها، لا يمكن وزنها، وعلى تقدير أمكانه، مقاديرها معلومةٌ له تعالى فوزنها عبث.

يلاحظ عليه: لو صحّت النسبة، فانّما يرد لو كان المراد من الميزان هو ما نقل عن بعض السلف. وأمّا على ما عرفت من التطور في الميزان فالشبهة مندفعة. وأمّا القول بأنّها معلومة، فالحكمة في التوزين مثل الحكمة في الحساب الذي لا شبهة فيه.

6- الصراط
الصراط في اللغة هو الطريق، ويغلب استعماله على الطريق الذي يوصل الإنسان إلى الخير، بخلاف السبيل، فإنّه يطلق على كل سبيل يتوسل به خيراً كان أم شرّاً17.

وإذا كان الصراط بمعنى الطريق، فلكل موجود من الموجودات الإمكانية طريق، لو سلكه، يصل إلى كماله الممكن من غير فرق بين الجماد والنبات والحيوان والإنسان.

وهذا ما يسمّى بالصراط التكويني، وهو مجموعة القوانين السائدة على الموجود الإمكاني، بأمر منه سبحانه، الّتي لو تخلّف عنها لهلك .

وهناك صراط آخر يختص بالإنسان وهو الصراط التشريعي، أعني القوانين والأحكام الشرعية التي قد فرضها سبحانه على عباده، وهداهم إليها، فهم بين شاكر وكفور، وقد نبّه القرآن إلى الصراط التشريعي في عدّة آيات، منها:

1ـ قوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(الدهر:3).

2- قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيًما فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ(الأنعام:153).

3ـ قوله تعالى: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ(الحج:24).

وفي مقابل هذا الصراط التشريعي، طريق آخر يباينه في المقصد والمآل، وقائده هو الشيطان ومن تبعه، يقول سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ(الحج:4).

وفي ضوء هذا يتبين أنّ لله سبحانه في هذه النشأة الدنيوية، صراطين: أحدهما تكويني، في سلوكه كمال الموجود وبقاؤه، والآخر تشريعي يختصّ بالإنسان، فيه فوزه و سعادته.

نعم، يستظهر من الذكر الحكيم، ويدلّ عليه صريح الروايات، وجود صراط آخر، في النشأة الأخروية يسلكه كل مؤمن وكافر.

يقول سبحانه: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا... وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً(مريم:68-71).

وقد اختلف المفسّرون في معنى الورود بين قائل بأنّ المراد منه هو الوصول إليها والإشراف عليها لا الدخول، وقائل بأنّ المراد دخولها. وعلى كل تقدير، فلا مناص للمسلم من الإعتقاد بوجود صراط في النشأة الأخروية، وهو طريق المؤمن إلى الجنة، والكافر إلى النار18.

وقد وصف الصراط في الروايات بأنّه أدقّ من الشعر، وأحدّ من السيف. غير أن البحث يتركز على التعرّف على حقيقة هذا الصراط بالمقدار الممكن، وان كان الوقوف على حقيقته كما هي، غير ممكنة إلاّ بعد رفع الحجب.

فنقول: لا شك أنّ هناك صلة بين الصراطين الدنيوي والأُخروي من وجوه:

1ـ إنّ سالك الصراط الدنيوي بهداية من النبي، يسلك الصراط الاخروي بنفس تلك الهداية ويجتازه بأمان إلى الجنة. وسالكه بهداية الشيطان وولايته، يسلك الصراط الأُخروي، بنفس تلك الهداية، فتزل قدمه ويهوي في عذاب السعير قال سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ(الحج:4).

2ـ إنّ قيام الإنسان بالوظائف الإلهية، في مجالي العقيدة والعمل، أمر صعب أشبه بسلوك طريق أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف. فالفائز من الناس، من كانت له قدم راسخة في مجال الإيمان والعقيدة، وتثبّتٌ في مقام العمل والطاعة، ومن المعلوم أنّ الفوز بهذه السعادة ليس أمراً سهلاً، فكم من إنسان ضلّ في طريق العقيدة، وعبد النفس والشيطان والهوى، مكان عبادة الله سبحانه، وكم من إنسان فشل في مقام الطاعة والعمل بالوظائف الإلهية.

فإذا كان هذا حال الصراط الدنيوي من حيث الصعوبة، والدقة، فهكذا حال الصراط الأُخروي، وإلى ذلك يشير الإمام الحسن بن علي العسكري عليهما السَّلام، في حديثه عن علي بن أبي طالب عليه السَّلام قال: "والصّراط المستقيم، صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، أمّا الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلو، وارتفع عن التقصير، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل، وأمّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنة"19.

فلو قال قائل بأنّ الصراط الأُخروي تمثّلٌ لذلك الصراط الدنيوي وتجسّد له، فلم يجازف.

3- إنّ لصدر المتألهين كلاماً في تبيين المراد من كون الصراط أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف.

قال: "إنّ كمال الإنسان منوط باستعمال قوتيه، أمّا القوة النظرية فلإصابة الحق ونور اليقين في سلوك الأنظار الدقيقة التي هي في الدقة واللطافة أدقّ من الشعر"إذا تمثلت" بكثير. وأمّا القوة العملية، فبتعديل القوتين الشهوية والغضبية، لتحصل للنفس حالة اعتدالية متوسطة بين الاطراف غاية التوسط، لأنّ الأطراف كلّها مذمومة، والتوسط الحقيقي بين الأطراف المتضادة منشأ الخلاص عن الجحيم. وهو أحدّ من السيف، فإذاً الصراط له وجهان:

أحدهما أدقّ من الشعر، والآخر أ حدّ من السيف20.

وعلى هذا البيان فالدقة راجعة إلى سلوك طريق إصلاح العقل النظري والحِدّة راجعة إلى سلوك طريق إصلاح العقل العملي. وما في الآخرة تجسد للصراط الدنيوي في الدقة والحدة، ولا حقيقة له إلاّ ما كان للإنسان في هذه الدنيا.

4ـ إنّ للإيمان واليقين درجات كما أنّ للقيام بالوظائف العملية مراتب، فللناس في سلوك الصراط منازل ودرجات. فهم بين مخلص لله سبحانه في دينه، لا يرى شيئاً إلاّ ويرى الله قبله، وبين مقصّر في إعمال القوى النظرية والعملية، كما أنّ بينهما مراتب متوسطة، فالكل يسلك الصراط في النشأة الأُخرى، في السرعة والبطء، حسب شدّة سلوكه للصراط الدنيوي ولأجل ذلك تضافرت روايات عن الفريقين باختلاف مرور الناس، حسب اختلافهم في سلوك صراط الدنيا، قال الإمام الصادق عليه السَّلام: "النّاس يمرّون على الصراط طبقات، والصراط أدقّ من الشعر ومن حدّ السيف، فمنهم من يمرّ مثل البرق، ومنهم مثل عدو الفرس، ومنهم من يمرّ حبواً، ومنهم من يمرّ مشياً، ومنهم من يمرّ متعلّقاً قد تأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً"21.

فبقدر الكمال الذي يكتسبه الإنسان في هذه النشأة، يتثبت في سلوك الصراط الأُخروي، ولا تزل قدمه، يقول سبحانه: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم * وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ(المؤمنون:73-74).

هذا ما يقتضيه التدبّر في الآيات والروايات الواردة حول الصراط، ومع ذلك كلّه ليس معنى كون الصراط الأُخروي تجسماً للصراط الدنيوي، وسلوكه تمثّلاً لسلوكه، إنكار وجود صراط فوق الجحيم، لا محيص لكل إنسان عن سلوكه، بل مقتضي التعبد بظواهر القرآن والحديث وجود ذلك الصراط بمعناه الحقيقي، وإن لم نفهم حقيقته، ولا بأس بإتمام الكلام بحديث جابر، وهو ينقل عن النبي أنّه قال:

"لا يبقى برّ ولا فاجر إلاّ دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم، حتى أنّ للنار ضجيجاً من بردهم، ثم ينجّي الله الذين اتّقوا ويذر الظالمين فيها جثيّا"22.

7ـ الأعراف
يقول سبحانه: ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيَماهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيَماهُمْ قَالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ(الأعراف:46ـ48).

الحجاب هو الستر المتخلل بين الشيئين يستر أحدهما من الآخر، والضمير في قوله: (بَيْنَهُما)، راجع إلى أصحاب الجنة والنار، المذكورين في الآية المتقدمة.

والأعراف أعالي الحجاب والتلال من الرمل، والعرف للديك، وللفرس، هو الشعر فوق رقبته، وأعلى كل شيء، ففيه معنى العلو، والآية تدلّ على أنّ في أعالي الحجاب الّذي بين الجنة والنار، رجال يعرفون أهل الجنة والنّار بعلائمهم وهم مشرفون على الجانبين، لارتفاع موضعهم. وظاهر السياق أنّ هؤلاء الرجال منحازون عن الطائفتين متمايزون عن جماعتهم، فيكون بذلك أهل الجمع منقسمين إلى طوائف ثلاث: أصحاب الجنة، وأصحاب النار، وأصحاب الأعراف.

ثم إنّه وقع الكلام في معرفة من هم هؤلاء الرجال23، والتدبّر في الآيات يعطي أنّهم جمع من عباد الله من غير الملائكة، هم أرفع مقاماً وأعلى منزلة من سائر الجمع، يعرفون عامة الفريقين، لهم أن يتكلموا بالحق يوم القيامة، ولهم أن يشهدوا، ولهم أن يشفعوا، ولهم أن يأمروا ويقضوا، كلّ ذلك بإذنه سبحانه.

وقد تضافرت الروايات على أنّ المراد من الرجال هم الأئمة من آل محمد صلوات الله عليهم.

قال الصدوق: "اعتقادنا في الأعراف أنّه سور بين الجنة والنار عليه رجال يعرفون كلاًّ بسيماهم، والرجال هم النبي وأوصياؤه"24.

8- لواء الحَمْد

إذا كان يوم القيامة، وحشر الناس على صعيد واحد، وتميّز الفريقان، يعطى النبي الأكرم لواء الحمد، ويتقدّم به ويأخذ مسيره ومن خلفه إلى الجنة، وفي روايات الإمامية أنّ النبي الأكرم يدفعه إلى وصيّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السَّلام.

وقد ورد في غير واحد من الروايات ذكر لواء الحمد، وأنّه مكتوب عليه: "المفلحون هم الفائزون بالجنة". وأنّه "يمشي عليٌّ والقوم (أهل الجنة) تحت لوائه حتى يدخل الجنة"25.

وروى أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي نضرة قال: خطبنا ابن عباس على منبر البصرة، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "إنّه لم يكن نبي إلاّ له دعوة قد تنجزها في الدنيا، وإنّي قد اختبأت دعوتي، شفاعة لأُمتي، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي ولا فخر..."26.

9ـ الحوض
قال الصدوق:"اعتقادنا في الحوض أنّه حق وأنّ الوالي عليه يوم القيامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السَّلام يسقي منه أولياءه، ويذود عنه أعداءه. من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً"27.
 
روى الفريقان روايات حول الحوض: روى أبو حازم عن سهل بن سعد، قال سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: "أنا فرطكم على الحوض، من ورد شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً. وليردنّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بينه وبينهم"28.

روى الصدوق عن الإمام الصادق عليه السَّلام عن آبائه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "من أراد أن يتخلص من هول يوم القيامة فليتول وليّي، وليتّبع وصيي وخليفتي من بعدي علي بن أبي طالب، فانّه صاحب حوضي، يذود عنه أعداءه، ويسقي أولياءه. فمن لم يسق منه لم يزل عطشاناً ولم يرو أبداً. ومن سقي منه شربة، لم يشق ولم يظمأ"29.

وقد تقدم قول رسول الله صلى الله عليه وآله "المنقول متواتراً" في خطبته يوم الغدير حيث قال: "فاني فرط على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين".

فنادى مناد: "وما الثّقلان يا رسول الله"؟

قال: "الثّقل الأكبر: كتاب الله، والآخر الأصغر: عترتي، وإن اللطيف الخبير نبّأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علىّ الحوض، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا"30.


*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج4،ص253.

1- لاحظ سور التكوير، والانفطار، والإنشقاق والقارعة وغيرها.
2- ولاحظ الزلزلة الآية 6.
3- ولاحظ الحج :78.
4- تفسير نور الثقلين، ج1،ص 113، الحديث 409.
5- ولا ينبغى التعجّب من ذلك، وقد توصّل الإنسان في هذه الدنيا إلى معرفة فاعل كل جريمة، ومرتكب كل جناية، بتشخيص بصمات أصابعه، ويكفي في إتمام الحجة عليه إظهار آثار جلد إصبعه وشهادتها عليه.
6- وبهذا المضمون الزخرف :الآية0 8و89.
7- ولاحظ الجاثية: 28-29. والإنفطار: 10-12.

8- نقلاً عن تفسير الميزان: ج6،ص337. وهناك روايات نقلها الشيخ الحّر العاملي في الوسائل، ج3، ص 474، كتاب الصلاة،أبواب مكان المصلّي، الباب42، الحديث 9، وفي الباب روايات أُخرى فلا حظها.
9- المجالس والأخبار،ص216. نقله في الوسائل،ج4،ص474، الحديث9 .
10- الأسفار، ج9 ص 299.
11- الأسفار، ج 9، ص 303 ـ304.
12- المنار، ج 8، ص 323.
13- البحار،ج78، باب وصايا الباقر عليه السَّلام ،ص 162.
14- مستدرك الوسائل ،ج2،ص 197.
15- شرح العقائد العضدية،ج2،ص 264.
16- وهذه النسبة التي ذكرها المحقق الدواني في شرح العقائد العضدية غير صحيحة. قال القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة: فإن قالوا: وأي فائدة في وضع الموازين التي أثبتموها، ومعلوم أنّه إنّما يوضع ليوزن به الشيء، ولا شيء هناك يدخله الوزن ويتأتى فيه، فانّ أعمال العباد وطاعاتهم ومعاصيهم أعراض لا يتصور فيها الوزن. قيل له: ليس يمتنع أن يجعل الله تعالى النور علماً للطاعة، والظلم أمارة للمعصية. ثم يجعل النور في إحدى الكفتين، والظلم في الكفّة الأخرى، فإن ترجحت كفّة النور حكم لصاحبه بالثواب، وإن ترجحت الأخرى حكم له بالأُخرى... إلى آخر كلامه...شرح الأصول الخمسة، ص 735 نعم، القاضي يتخيل أنّ المراد من الميزان هو المتعارف بيننا، وقد عرفت ما في ذلك.

17- مفردات الراغب، مادة سبل
18- تفسير القمي، ج1، ص 29، وفي أُخرى بزيادة: "وأظلم من الليل".
19- معاني الأخبار، ص33
20- الأسفار،ج9،ص 285.
21- أمالى الصدوق، المجلس 33، ص 107. لاحظ الدر المنثور، ج4، ص 291.
22- الدر المنثور، ج4، ص 280.
23- اختلف المفسرون في ذلك على اثني عشر قولاً.
24- لاحظ بحار الأنوار، ج 8، ص 329- 340. وفي بعض الروايات: "يوقف كل نبي وكل خليفة نبي"، وعند ذلك يكون ذكر النبي والأئمة من باب تطبيق الكلي على المصاديق المثلى.

25- لاحظ بحار الأنوار،ج8،باب 18، الأحاديث 1ـ12.
26- مسند ابن حنبل ،ج1، ص 281، وص 295، وج3،ص 144.
27- عقائد الصدوق،ص 85
28- جامع الأصول، ص 119ـ121وقدنقل روايات كثيرة حول الحوض.
29- بحار الأنوار، ج 8، ص 19، نقلاً عن أمالي الصدوق، ص 168.
30- لاحظ في الوقوف على مصادره، ما دبّجه قلم المتتبع الكبير السيد مير حامد حسين الهندي، فقد جمع إسناده وبحث فيها وفي دلالته في ستة مجلدات من كتابه "العبقات". ولاحظ كتاب المراجعات، للإمام شرف الدين، المراجعة الثانية.

2009-07-24