يتم التحميل...

سفير الإمام الحسين عليه السلام

مسلم بن عقيل

لقد كان مسلم بن عقيل من أشجع بني عقيل وأرجلهم1، فقد كان أحد قيادات ميمنة جيش أمير المؤمنين علي عليه السلام في صفين2، وهو الذي خاطب معاوية وكان آنذاك الطاغية ذا اليد المطلقة في العالم الإسلامي:مه، دون أن أضرب رأسك بالسيف3، وهو الذي ودّع الإمام الحسين عليه السلام.

عدد الزوار: 39

رحلة مسلم إلى العراق

لقد كان مسلم بن عقيل من أشجع بني عقيل وأرجلهم1، فقد كان أحد قيادات ميمنة جيش أمير المؤمنين علي عليه السلام في صفين2، وهو الذي خاطب معاوية وكان آنذاك الطاغية ذا اليد المطلقة في العالم الإسلامي:"مه، دون أن أضرب رأسك بالسيف"3، وهو الذي ودّع الإمام الحسين عليه السلام وداع فراق لا لقاء بعده إلا في الجنة بعد أن عرف أنه متوجه إلى الشهادة لا محالة من قول الإمام عليه السلام له:" وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء ". وهو الذي قابل جموع أهل الكوفة وحده من دون أن يعينه أو يقف إلى جنبه أي أحد، فأشاع فيهم القتل مما ملأ قلوبهم ذعراً وخوفاً، ولمّا جيء به أسيراً على ابن زياد لم يُظهر عليه أي ذل أو انكسار.

ولكن بعض المؤرخين روى قصة مختلقة عن رحلة مسلم إلى العراق، تصفه بالجبن والتطيّر، للحطّ من مقام هذا الشهيد وتشويه صورته، وللإيحاء بأن مسؤولية فشل انتفاضة الكوفة تقع على عاتق مسلم بن عقيل وليس على عاتق أهل الكوفة، فقد كان جباناً متطيّراً !!!.

فقالوا إن مسلم بن عقيل أقبل حتى أتى المدينة، فصلّى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وودع من أحب من أهله، ثم استأجر دليلين من قيس فأقبلا به، فضلَّا من الطريق وجارا، وأصابهم عطش شديد، وقال الدليلان: هذا الطريق حتى تنتهي إلى الماء، وقد كادوا أن يموتوا عطشاًً (وفي رواية الإرشاد: ومات الدليلان عطشاًً)، فكتب مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي إلى الحسين، وذلك بالمضيق من بطن الخُبيت (أوالخبت):"أما بعدُ، فإني أقبلت من المدينة معي دليلان لي فجارا عن الطريق وضلَّا، واشتد علينا العطش، فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا، وذلك الماء بمكان يُدعى المضيق من بطن الخبيت، وقد تطيّرتُ من وجهي هذا، فإن رأيت أعفيتني منه وبعثت غيري، والسلام".

فكتب إليه الحسين عليه السلام: " أما بعدُ، فقد خشيت ألا يكون حملك على الكتاب إليَّ في الاستعفاء من الوجه الذي وجهتك له إلا الجبن، فامضِ لوجهك الذي وجهتك له، والسلام عليك. فقال مسلم لما قرأ الكتاب: هذا ما لستُ أتخوفه على نفسي..."4.

وقد فات رواة هذه الحكاية الكاذبة أن مضيق الخبت، الذي بعث منه مسلم رسالته إلى الإمام، يقع ما بين مكة والمدينة 5، في حين أن الرواية تنص على أنه استأجر الدليلين من المدينة، وخرجوا إلى العراق فضلوا عن الطريق ومات الدليلان، وهذا يعني أن هذه الحادثة وقعت ما بين المدينة والعراق، ولم تقع ما بين مكة والمدينة.

ولو فرضنا أن هناك مكاناً يُدعى بهذا الاسم يقع ما بين يثرب والعراق، فإن السفر منه إلى مكة ذهاباً وإياباً يستوعب زماناً يزيد على عشرة أيام، في حين أن سفر مسلم من مكة كان في اليوم الخامس عشر من شهر رمضان، وقد وصل إلى الكوفة في اليوم الخامس من شوال، فيكون مجموع سفره عشرين يوماً، وهي أسرع مدة يقطعها المسافر من مكة إلى المدينة، ثم إلى الكوفة، وإذا استثنينا من هذه المدة سفر رسول مسلم من ذلك المكان ورجوعه إليه، فإن مدة سفره من مكة إلى الكوفة تكون أقل من عشرة أيام، ويستحيل عادة قطع تلك المسافة بهذه الفترة من الزمن.

والمؤسف ان الشيخ المفيد ينقل هذه الحكاية عن الطبري بدون تمحيص ونقد، مع ما عرف عن الطبري من انحراف عن المنهج الحق وانتقائية.

رسول الحسين عليه السلام إلى الكوفة

خرج مسلم بن عقيل عليه السلام من مكة في منتصف شهر رمضان سنة ستين للهجرة، ودخل الكوفة في اليوم الخامس من شهر شوّال من نفس السنة 6.

وأوصاه الإمام الحسين عليه السلام أن ينزل عند أوثق أهل الكوفة 7، وقد روي أنه نزل عند مسلم بن عوسجة 8، كما روي أنه نزل عند هاني بن عروة ابتداءً 9، لكن الأشهر هو أن مسلماًً عليه السلام نزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي ابتداءً ثم تحوّل منها بعد ذلك إلى دار هاني 10
وجعل الإمام مبادرته وإسراعه في القدوم على أهل الكوفة منوطاً بما إذا كتب إليه مسلم بأن حقيقة حالهم على مثل ما قدمت به رسلهم وكتبهم 11.

ما هي طبيعة مهمة مسلم بن عقيل في الكوفة؟

لم تكن مهمة مسلم في الكوفة منحصرة في الإعداد والتعبئة فقط حتى يقدم الإمام عليه السلام فتتم البيعة له مباشرة، ثم هو يرى رأيه في كيفية العمل بعد ذلك، بل كان، كما يظهر من الأخبار، أن مسلماًً كان معه صلاحية المبادرة إلى التحرك المباشر، والقيام بأهل الكوفة ضد السلطة الأموية هناك حتى قبل مجيء الإمام عليه السلام12.

والظاهر أن الإمام كان يعلم بأن مهمة مسلم سوف تنتهي بشهادته، ولذلك أشعره بأن ختام أمره في هذا الطريق هو الفوز بدرجة الشهادة 13. وأوصاه: "بالتقوى، وكتمان أمره، واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك..." 14.

الأسلوب السرّي في تعبئة أهل الكوفة

كان لا بد لمسلم من اعتماد السرّ والرفق في تعبئة أهل الكوفة حتى يستكمل العدد والعدّة الكافيين لتأهيل الكوفة للقيام معه، أو مع الإمام عليه السلام بعد أن يصل إليها 15، وقد كانت الأجواء المعنوية والسياسية مؤاتية للتحرك، ولذلك فقد اتخذ له مركزاً في أحد البيوت، وابتدأ يجتمع بالناس الذين أخذوا يتوافدون عليه أفراداً وجماعات ويبايعون الإمام الحسين عليه السلام "وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فلما اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب الحسين، فأخذوا يبكون..." 16. وأخذ عدد الذين يبايعون مسلماًً من أهل الكوفة يتزايد يوماً بعد يوم، حتى بايعه ثمانية عشر ألف رجل في ستر ورفق!" 17، حينئذٍ 18 كتب مسلم إلى الإمام عليه السلام بذلك وأرسله مع عابس بن أبى شبيب الشاكري: " أمّا بعدُ، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي هذا، فإنّ الناس كلّهم معك! ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى، والسلام"19.

إنّ هذه البيعة كانت من جهة أهل الكوفة تعبيراً عن الحب والولاء من جانبهم للإمام عليه السلام ، ليس أكثر، ولم يكن معناها أن كل الذين يبايعون قد تحولوا إلى تشكيلات منظمة من سرايا وكتائب وقطعات مسلحة جاهزة للقتال، فكانت هذه مهمة أخرى لمسلم، ومرحلة أدق وأصعب من مرحلة تحصيل البيعة وإعلان الولاء، فكان على مسلم، الذي يمثّل قوة سياسية، كانت بعيدة عن الكوفة طوال عشرين عاماً، أن يختصر عشرين عاماً، كانت السلطة الأموية خلالها تبني أقوى تشكيلاتها الأمنية وأخطبوطها الإرهابي، وامتداداتها القبلية والعشائرية، ولذلك كانت المواجهة غير متكافئة تماماً، فمجرد البيعة لا يعني وجود القوة حتى لو كان عدد المبايعين ثمانية عشر ألفاً!!.

ففي أحد الاجتماعات التي عقدت مع مسلم وبايعه فيها الناس، على كثرة من حضر هذا الاجتماع ممن هو محسوب على التشيّع، لم يقم إلا ثلاثة، استشهدوا بعد ذلك في كربلاء، أظهروا لمسلم استعدادهم التام لامتثال أمره والتضحية في هذا السبيل!20. بينما كان هناك كثرة أظهرت أنها تحبّ الحق ولكنها تكره أن تموت من أجله21.

إن كراهية الموت هنا هي تعبير عن الخوف من الإقدام في ضوء التفوق الكاسح للسلطة الأموية، لأن الإقدام في مثل هذه الحالة يحتاج إلى وعي والتزام كبيرين، وإلى نفوس كبيرة عالية الهمة، وإلى مستوى فكري وعقائدي متين جداًً، لم يكن متوفراً عند جمهور أهل الكوفة، الذي كان يحتاج إلى أن ينجز مسلم مرحلة الإعداد وتشكيل السرايا، فإذا تم ذلك، واستشعر هؤلاء الناس القوة، فإنهم سوف يقاتلون، لأن القتال حينئذٍ مضمون النتيجة، وهذا ديدن الجماهير التي كلما استشعرت الكثرة والتظافر اعتمدت على تجمهرها واعتبرته مصدر قوة فتقوم وتثور، وعلى القيادة بعد ذلك أن تسيّرها نحو أهدافها.

ولما تزايد عدد المبايعين لمسلم انتشر أمره وفشا بين الناس، وكان لا بد للسلطة الأموية من أن تعلم، والظاهر أن النعمان بن بشير بن سعد الخزرجي والي الكوفة، لم يكن مستعدا ًلتنفيذ استعمال القوة ضد مسلم والمبادرة إلى الهجوم عليه، إما لأن مسلماًً كان في بيت صهره المختار، وإما لأنه كان يتبنّى سياسة معاوية، وهي تحاشي المواجهة العلنية مع الإمام الحسين عليه السلام ، بحيث أن معاوية لو اضطر إلى مواجهة علنية وقتال ضدّ الإمام الحسين عليه السلام وظفر به لعفا عنه، وليس ذلك حبّاً للإمام عليه السلام وإنما لأن معاوية يعلم أن إراقة دم الإمام علناً وهو بتلك القدسيّة البالغة في قلوب الأمّة كفيل بأن يفصل الأموية عن الإسلام، ويذهب بجهود حركة النفاق عامة والحزب الأموي خاصة أدراج الرياح، خصوصاً تلك الجهود التي بذلها معاوية في مزج الأموية بالإسلام في عقل الأمة وعاطفتها بحيث أنه لم يعد أكثر هذه الأمة يعرف إلا الإسلام الأموي، حتى صار من غير الممكن بعد ذلك الفصل بين الإسلام والأموية إلا إذا أريق ذلك الدم المقدس، دم الإمام عليه السلام ، ضد الحكم الأموي.

فكان النعمان بن بشير يعتقد أن يزيد سوف يطبق سياسة معاوية في تجنب الاصطدام الدموي مع رمز الإسلام المحمّدي الأصيل آنذاك، الحسين بن علي، خوفاً من وقوع الفرز بينه وبين الإسلام الأموي، وبالتالي انكشاف اللعبة النفاقية التي كان يحتاج إليها معاوية في بناء واستمرارية ملك بني أمية!

وإما لأن القوة المعنوية لنهضة مسلم كانت قد انتشرت بحيث إنها تحتاج، لمواجهتها، إلى استعمال شرس وعنيف للسلطة الأمنية، ولم تكن شخصية النعمان لذاتها قادرة على ذلك!.

هذه هي الاحتمالات الممكنة، فلم يكن النعمان بن بشير محباً لأهل البيت عليه السلام ولا ذا ميل إليهم22، بل كان له ولأبيه تاريخ أسود طويل في نصرة حركة النفاق بعد موت النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان عثماني الهوى، يجاهر ببغض علي عليه السلام ، ويسيء القول فيه، وقد حاربه يوم الجمل وصفّين، كذلك فلم يكن النعمان "حليماً ناسكاً يحبّ العافية ويغتنم السلامة"23، بل تلميذاً نبيهاً في مدرسة معاوية السياسية، فكان يتضعّف مكراً وحيلة، ويعوّل على الأسلوب السرّي والخدعة الخفية للقضاء على الثورة والتخلص من مسلم بن عقيل، بل التخلص حتى من نفس الإمام عليه السلام .

وعلى كل حال، لم يرق موقفه لحلفاء بني أمية في الكوفة24، فأخذت تتوالى رسائلهم إلى يزيد في الشام 25 تخبره بمستجدات حركة الأحداث في الكوفة، وبموقف النعمان بن بشير منها، وقد أجمعت على أنه "إن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلاًً قوياً، يُنفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعّف!" 26.
* تاريخ النهضة الحسينية، سلسلة المتون الدراسية للمنبر الحسيني، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط2، ص88-94.


1- أنساب الأشراف، 2، 836.
2- بحار الأنوار ج 42 ص 93.
3- بحار الأنوار ج 42 ص 116.
4- تاريخ الأمم والملوك، 3، 278، الإرشاد، 204، الأخبار الطوال، 230.
5- الحموي، معجم البلدان، 2، 343.
6- مروج الذهب، 3، 55.
7- الفتوح، 5، 36، ومقتل الخوارزمي، 1، 196.
8- تاريخ الأمم والملوك، 3، 275، مروج الذهب، 3، 55.
9- سير أعلام النبلاء، 3، 299.
10- الإرشاد، 186، وتاريخ الأمم والملوك، 3، 279، وإبصار العين، 80.
11- الإرشاد: 186، وتاريخ الأمم والملوك، 3، 28، والأخبار الطوال، 231.
12- الفتوح، 5، 35، ومقتل الخوارزمي، 1، 195- 196.
13- الفتوح، 5، 36، ومقتل الخوارزمي، 1، 196.
14- الإرشاد، 186.
15- شرح الأخبار، 3، 143.
16- تاريخ الأمم والملوك، 3، 279.
17- الأخبار الطوال: 235،روضة الواعظين، 173.
18- إن أقل عدد للمبايعين ذكرته المصادر التأريخية هو اثنا عشر ألفاً، مناقب آل أبي طالب، 4، 91، وتاريخ الأمم والملوك، 3، 275، ومروج الذهب، 3، 55، وغيرهم-، وأما ثمانية عشر ألفاً فعليه أكثر المؤرخين اللهوف: 16، وروضة الواعظين، 173، والأخبار الطوال، 235.
19- تاريخ الأمم والملوك، 3، 290، مثير الأحزان، 32.
20- تاريخ الأمم والملوك، 3، 279.
21- تاريخ الأمم والملوك، 3، 279.
22- الإمامة والسياسة، 2، 4.
23- الأخبار الطوال، 231. تاريخ الأمم والملوك، 3، 279.
24- تاريخ الأمم والملوك، 3، 279، والكامل في التاريخ، 3، 386، والأخبار الطوال، 231، والإرشاد، 186.
25- تاريخ الأمم والملوك، 3، 289.
26- تاريخ الأمم والملوك، 3، 280.

2010-09-18