أحداث ليلة ضرب الرأس الشريف لأمير المؤمنين
شهيد المحراب
تقول أمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين صلوات الله عليه:" لمّا كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قدّمت إليه عند إفطاره طبقاً فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن وملح جريش، فلمّا فرغ من صلاته أقبل على فطوره، فلمّا نظر إليه وتأمّله حرَّك رأسه وبكى بكاءً شديداً عالياً،
عدد الزوار: 96
تقول أمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين صلوات الله عليه:" لمّا كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قدّمت إليه عند إفطاره طبقاً فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن وملح جريش، فلمّا فرغ من صلاته أقبل على فطوره، فلمّا نظر إليه وتأمّله حرَّك رأسه وبكى بكاءً شديداً عالياً، وقال: يا بنيّة أتقدّمين إلى أبيك إدامين في فرد طبق واحد؟ أتريدين أن يطول وقوفي غداً بين يدي الله عزّ وجلّ يوم القيامة، أنا أريد أن أتَّبع أخي وابن عمّي رسول الله صلّى الله عليه وآله، ما قُدِّم إليه إدامان في طبق واحد إلى أن قبضه الله، يا بنيّة ما من رجل طاب مطعمه ومشربه وملبسه إلّا طال وقوفه بين يدي الله عزّ وجلّ يوم القيامة، يا بنيّة إنّ الدنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب، وقد أخبرني حبيبي رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّ جبرائيل عليه السلام نزل إليه ومعه مفاتيح كنوز الأرض، وقال: يا محمّد، السلام يقرؤك السلام ويقول لك: إن شئتَ صيّرتُ معك جبال تهامة ذهباً وفضّة، وخذ هذه مفاتيح كنوز الأرض ولا ينقص ذلك من حظّك يوم القيامة، قال: يا جبرائيل، وما يكون بعد ذلك؟ قال: الموت، فقال: إذاً لا حاجة لي في الدنيا، دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً، فاليوم الذي أجوع فيه أتضرّع إلى ربِّي وأسأله، واليوم الذي أشبع فيه أشكر ربِّي وأحمده، فقال له جبرائيل: وفِّقت لكل خيرٍ يا محمّد.
ثمّ قال عليه السلام: يا بنيّة الدنيا دار غرور ودار هوان، فمن قدّم شيئاً وجده، يا بنيّة والله لا آكل شيئاً حتى ترفعين أحد الإدامين، فلمّا رفعته تقدّم إلى الطعام فأكل قرصاً واحداً بالملح الجريش، ثمّ حمد الله وأثنى عليه.
ثمّ قام إلى صلاته فصلّى ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرّعاً إلى الله سبحانه، ويكثر الدّخول والخروج وهو ينظر إلى السماء، وهو قلق يتململ، ثمّ قرأ سورة "يس" حتى ختمها، ثمّ رقد هنيئة وانتبه مرعوباً، وجعل يمسح وجهه بثوبه، ونهض قائماً على قدميه، وهو يقول: "اللهم بارك لنا في لقائك"، ويكثر من قول: "لا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم"، ثمّ صلّى حتى ذهب بعض الليل، ثمّ جلس للتعقيب، ثمّ نامت عيناه وهو جالس، ثمّ انتبه من نومته مرعوباً.
وعن الحسن عليه السلام أنّه قال:" أتيته سَحَراً فجلست إليه، فقال: إنّي بِتُّ الليلة أوقظ أهلي، فملكتني عيناي وأنا جالس، فسَنَح لي رسول الله، فقلت: يا رسول الله، ما لقيتُ من أُمّتك من الأوَد واللَّدَد، فقال لي: ادْعُ اللهَ عليهم، فقلت: اللهم أبدلني بهم خيراً لي منهم، وأبدلهم شرّاً لهم منّي "1.
قالت أمّ كلثوم: كأنّي به وقد جمع أولاده وأهله، وقال لهم: في هذا الشهر تفقدوني، إنّي رأيت في هذه الليلة رؤيا هالتني وأريد أن أقصّها عليكم، قالوا: وما هي؟ قال: إنّي رأيت الساعة رسول الله صلّى الله عليه وآله في منامي وهو يقول لي: يا أبا الحسن إنّك قادم إلينا عن قريب، يجيء إليك أشقاها فيخضب شيبتك من دم رأسك، وأنا والله مشتاق إليك، وإنّك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان، فهلمَّ إلينا فما عندنا خيرٌ لك وأبقى، قال: فلمّا سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء والنحيب وأبدوا العويل، فأقسم عليهم بالسكوت فسكتوا، ثمّ أقبل يوصيهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر.
قالت أمّ كلثوم: ولم يزل تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، ثمّ يخرج ساعة بعد ساعة يقلّب طرفه في السماء وينظر في الكواكب، وهو يقول: والله ما كذَّبت ولا كُذِّبت، وإنّها الليلة التي وُعدت بها، ثمّ يعود إلى مصلاّه ويقول: اللهم بارك لي في الموت، ويكثر من قول: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون" "ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم" ويصلّي على النبي وآله، ويستغفر الله كثيراً.
قالت أمّ كلثوم: فلمّا رأيته في تلك الليلة قلقاً متململاً كثيرَ الذِّكر والاستغفار أرقت معه ليلتي...... ثمّ قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فقلت: يا أباه مالك تنعى نفسك منذ الليلة؟ قال: يا بنيّة قد قرب الأجل وانقطع الأمل، قالت أمّ كلثوم: فبكيت، فقال لي: يا بنيّة لا تبكين فإنّي لم أقل ذلك إلّا بما عهد إليّ النبي صلّى الله عليه وآله، ثمّ إنّه نعس وطوى ساعة، ثمّ استيقظ من نومه وقال: يا بنيّة إذا قرب وقت الأذان فأعلميني، ثمّ رجع إلى ما كان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرّع إلى الله سبحانه وتعالى.
قالت أمّ كلثوم: جعلت أراقب وقت الأذان، فلمّا لاح الوقت أتيته ومعي إناء فيه ماء، ثمّ أيقظته، فأسبغ الوضوء وقام ولبس ثيابه وفتح بابه، ثمّ نزل إلى الدار وكان في الدار إوز قد أهدي إلى أخي الحسين عليه السلام، فلمّا نزل خرجن وراءه ورفرفن وصحن في وجهه، ولم يصحن قبل تلك الليلة2، فقال عليه السلام: لا إله إلّا الله، صوائح تتبعها نوائح3 ، وفي غداة غدٍ يظهر القضاء..... فلمّا وصل إلى الباب فعالجه ليفتحه فتعلَّق الباب بمئزره فانحلّ مئزره حتى سقط، فأخذه وشدَّه وهو يقول:
اشدد حيازيمك للموت فإنّ الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت إذا حلَّ بناديكا
ولا تغترّ بالدهر وإن كان يواتيكا
كما أضحكك الدهر كذاك الدهر يبكيكا
ثمّ قال: اللهم بارك لنا في الموت، اللهم بارك لي في لقائك، قالت أمّ كلثوم: وكنت أمشي خلفه، فلمّا سمعته يقول ذلك قلت: واغوثاه يا أبتاه أراك تنعى نفسك منذ الليلة، قال: يا بنّيّة، ما هو بنعاء، ولكنّها دلالات وعلامات للموت تتبع بعضها بعض، فأمسكي عن الجواب، ثمّ فتح الباب وخرج....
وسار أمير المؤمنين عليه السلام حتى دخل المسجد، والقناديل قد خمد ضوؤها، فصلَّى في المسجد وِردَه وعقَّب ساعة، ثمّ إنّه قام وصلّى ركعتين، ثمّ علا المئذنة ووضع سبّابتيه في أذنيه وتنحنح، ثمّ أذَّن، وكان عليه السلام إذا أذَّن لم يبق في بلدة الكوفة بيت إلّا اخترقه صوته.
وأمّا ابن ملجم فبات في تلك الليلة يفكّر في نفسه، ولا يدري ما يصنع... وبقي عامّة ليله يتقلّب على فراشه.....
فلمّا أذّن عليه السلام، نزل من المئذنة، وجعل يسبّح الله ويقدّسه ويكبّره ويكثر من الصلاة على النبي صلّى الله عليه وآله.
وكان من كرم أخلاقه عليه السلام أنّه يتفقد النّائمين في المسجد ويقول للنّائم: الصلاة يرحمك الله الصلاة، قم إلى الصلاة المكتوبة عليك، ثمّ يتلو عليه السلام:{إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، ففعل ذلك كما كان يفعله على مجاري عادته مع النّائمين في المسجد، حتى إذا بلغ إلى الملعون فرآه نائماً على وجهه، قال له: يا هذا قم من نومك هذا فإنّها نومة يمقتها الله، وهي نومة الشيطان ونومة أهل النار، بل نم على يمينك فإنّها نومة العلماء أو على يسارك فإنّها نومة الحكماء، ولا تنم على ظهرك فإنّها نومة الأنبياء.
قال: فتحرّك الملعون كأنّه يريد أن يقوم وهو من مكانه لا يبرح، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: لقد هممت بشيء تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخر الجبال هدّاً، ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك..
* راجع: شهيد المحراب-مقتل أمير المؤمنين ع، معهد سيد الشهداء ع للمنبر الحسيني، ط1، ص 14-20.
1- ابن سعد: الطبقات الكبرى ج 3 ص 36.
2-في البحار: وكان قبل تلك الليلة لم يصحن، وما في المتن أثبتناه من الكوكب الدري للمازندراني ج 2 ص 171.
3- أنظر: الكليني: الكافي ج 1 ص 259.