الكذب
كف الأذى
لا يختلف اثنان من صحاح الفطرة على قبح الكذب الذاتيّ، ولا على ذمّ الكذّاب من الناس، ولا يختلفان أيضاً على أثره المسيئ على النفس الإنسانيّة وعلى سائر الناس.فكم من كذبة فصمت ودّ أخ عن أخيه، وكم من كلمة نميمة ولّدت حرباً، أو خصومة لم تنتهِ....
عدد الزوار: 335
تمهيد
لا يختلف اثنان من صحاح الفطرة على قبح الكذب الذاتيّ، ولا على ذمّ الكذّاب من الناس، ولا يختلفان أيضاً على أثره المسيئ على النفس الإنسانيّة وعلى سائر الناس.فكم من كذبة فصمت ودّ أخ عن أخيه، وكم من كلمة نميمة ولّدت حرباً، أو خصومة لم تنتهِ. ولخطورة هذا الأمر، وما يتضمّنه من أذيّة للنفس أوّلاً وللآخرين ثانياً، سنسلّط الضوء عليه سائلين الله تعالى أن يعصمنا من الزلل والخطأ.
كذب أم أكاذيب؟
المعروف بين الناس بالكذب هو الكذب في القول وعدم الوفاء، حيث يضمّ إلى الكذب أيضاً، إلّا أنّ علماء الأخلاق عدّدوا مراتب أخرى للكذب، لا تقلّ خطورة عن الكذب المشهور بين الناس، إذ يقول العلّامة النراقي قدّس الله نفسه الزكيّة:
"الكذب وهو: أمّا في القول، أي الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه، وصدوره إمّا عن العداوة أو الحسد أو الغضب، فيكون من رذائل قوّة الغضب، أو من حبّ المال والطمع، أو الاعتياد الحاصل من مخالطة أهل الكذب، فيكون من رذائل قوّة الشهوة.
أو في النيّة والإرادة، وهو عدم تمحيضها بالله، بألّا يكون الله سبحانه بانفراده باعث طاعاته وحركاته، بل يمازجه شيء من حظوظ النفس. وهذا يرجع إلى الرياء، ويأتي كونه من رذائل أيّ قوّة. وأمّا في العزم، أي الجزم على الخير، وذلك بأن يعزم على شيء من الخيرات والقربات، ويكون في عزمه نوع ميل وضعف وتردّد يضادّ الصدق في العزيمة، وهذا أيضاً من رداءة قوّة الشهوة.
وأمّا في الوفاء بالعزم، فإنّ النفس قد تسخو بالعزم في الحال، لعدم مشقّة في الوعد، فإذا حقّت الحقائق، وحصل التمكّن، وهاجت الشهوات، انحلّت العزيمة، ولم يتّفق الوفاء بالعزم، وهذا أيضاً من رذائل قوّة الشهوة ومن أنواع الشره.
وأمّا في الأعمال، وهو أن تدلّ أعماله الظاهرة على أمرٍ في باطنه لا يتّصف هو به، أي لا يكون باطنه مثل ظاهره ولا خيراً منه. وهذا غير الرياء، لأنّ المرائي هو الذي يقصد غير الله تعالى في أعماله، وربّ واقف على هيئة الخشوع في صلاته، ليس بقصد به مشاهدة غيره سبحانه، ولكنّ قلبه غافل عن الله وعن الصلاة، فمن نظر إلى ما يصدر عن ظاهره من الخشوع والاستكانة، يظنّ أنّه منقطع إلى جناب ربّه، وحذف ما سواه عن صحيفة قلبه، وهو بكلّيّته عنه تعالى غافل، وإلى أمر من أمور الدنيا متوجّه. وكذلك قد يمشي الرجل على هيئة الطمأنينة والوقار، بحيث من يراه يجزم بأنّه صاحب السكينة والوقار، مع أنّ باطنه ليس موصوفاً بذلك. فمثل ذلك كاذب في عمله، وإن لم يكن مرائياً ملتفتاً إلى الخلق، ولا نجاة من هذا الكذب إلا باستواء السريرة والعلانية، أو كون الباطن أحسن وأمّا في مقامات الدين، كالكذب في الخوف والرجاء، والزهد والتقوى والحبّ والتعظيم، والتوكّل والتسليم، وغير ذلك من الفضائل الخلقيّة. فإنّ لها مبادئ يطلق الإسم بظهورها، ثمّ لها حقائق ولوازم وغايات، والصادق المحقّق من نال حقائقها ولوازمها وغاياتها، فمن لم يبلغها كان كاذباً فيها"1.
الرذائل والكذب
بناء على ما أورده العلّامة النراقي قدس سره فإنّ كثيراً من المساوئ الأخلاقيّة مردّها إلى الكذب، بالإضافة إلى العديد من الذنوب الأخرى، فالرياء الذي يظنّ أنّه ذنب وسيّئة أخلاقيّة هو أمر راجع إلى الكذب، في دعوى التوحيد في العبادة، وكذلك ادّعاء المقامات، أي مقامات القرب من الله تعالى، من دون تحقّقها واقعاً يُعدّ من الكذب، رغم أنّ نفس الادّعاء هو مجرّد قول لا أكثر.
موقف الشرع من الكذب
ذمّ الشرع المقدّس الكذب بكلّ أشكاله، واحتقر الإنسان المتّصف بهذه الصفة، إذ تجد من الروايات والآيات الكثيرة التي أشارت لقبح هذه الصفة، والنهي عن الوقوع في شرّها، ومن هذه الروايات ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أعظم الخطايا اللسان الكذوب"2.
55
من الظاهر. وهذا القسم من الكذب ربّما كان من رذائل قوّة الشهوة وربّما كان من رذائل قوّة الغضب، وربّما كان من رداءة القوّة المدركة، بأن كان باعثه مجرّد الوسواس.
وممّا روي في احتقار صاحب الكذب، ما روي أيضاً عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا كذب العبد، تباعد الملك عنه ميلاً من نتن ما جاء به"3.
بل اعتبر القرآن الكريم الكذب من صفات الذين لا يؤمنون بالله تعالى، فالمؤمن الحقيقيّ هو الذي لا يكذب، ولو كذب فإنّ هذا يدلّ على خلل ما في حقيقة إيمانه، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾4.
وورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - لمّا سُئل: "أيكون المؤمن جباناً؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم.
قيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم.
قيل له: أيكون المؤمن كذّاباً؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا"5.
علاج الكذب
ذكر علماؤنا الأعلام علاجاً للمصاب بمرض الكذب، وأوّل العلاج الذي ذكروه أن يكثر الإنسان في تأمّل الآيات والروايات الذامَّة لهذا العمل، ليدرك أثرها الأخرويّ المأساويّ والمخزي، يقول العلّامة النراقي قدّس الله نفسه الزكيّة:
"أوّلاً: أن يتأمّل في ما ورد في ذمّه من الآيات والأخبار، ليعلم أنّه لو لم يتركه لأدركه الهلاك الأبديّ. ثمّ يتذكّر أنّ كلّ كاذب ساقط عن القلوب في الدنيا، ولا يعتني أحد بقوله، وكثيراً ما يُفتضح عند الناس بظهور كذبه. ومن أسباب افتضاحه أنّ الله سبحانه يسلّط عليه النسيان، حتّى أنّه لو قال شيئاً ينسى أنّه قاله، فيقول خلاف ما قاله، فيفتضح. وإلى ذلك أشار الصادق عليه السلام بقوله: "إنّ ممّا أعان الله به على الكذّابين النسيان"6.
"ثمّ يتأمّل في الآيات والأخبار الواردة في مدح ضدّه، أعني الصدق كما يأتي، وبعد ذلك إن لم يكن عدوًّا لنفسه، فليقدّم التروّي في كلّ كلام يريد أن يتكلّم به، فإن كان كذباً يتركه وليجتنب مجالسة الفسّاق وأهل الكذب، ويجالس الصلحاء وأهل الصدق"7.
آثار الكذب
من المناسب الإشارة لبعض آثار الكذب التي ذكرها القرآن الكريم، والروايات الشريفة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وآل البيت عليهم السلام فمنها:
1- عدم الهداية
إذ يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الله لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾8, ويقول في آية أخرى:
﴿إِنَّ الله لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾9.
2- النفاق
إذ يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ﴾10.
3- فقدان الهيبة بين الناس
فالكاذب يحتقره المجتمع ويمجّه، وينظر إليه بعين الريبة دوماً، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام فيما روي عنه: "ثمرة الكذب المهانة في الدنيا والعذاب في الآخرة"11.
وعن السيّد المسيح عليه السلام: "من كثر كذبه ذهب بهاؤه"12.
4- فقدان الثقة
وهذا أمر طبيعي جدّاً، فكيف يصدّق الناس رجلاً معروفاً بالكذب بل يُعدّ التصديق بكلامه من السفه والحمق، وقد جاء في الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "من عُرف بالكذب قلّت الثقة به، من تجنّب الكذب صدقت أقواله"13.
5- الفقر
ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الكذب ينقص الرزق"14، وعن الإمام علي عليه السلام: "اعتياد الكذب يورث الفقر"15.
* كف الأذى. تأليف مركز نون للتأليف والترجمة. نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. ط: الأولى شباط 2010م- 1431هـ. ص: 53-58.
1- جامع السعادات - النراقي - ج 2 ص 247.
2- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 3 ص 2672.
3- م. ن. - ج 3 ص 2673.
4- النحل:105.
5- ميزان الحكمة - الري شهري - ج 3 ص 2673.
6- وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 12 ص 245.
7- جامع السعادات - النراقي - ج 2 ص 256.
8- الزمر:3.
9- غافر: من الآية 28.
10- التوبة: 77.
11- ميزان الحكمة - الريشهري - ج 3 ص 2677.
12- م. ن. - ج 3 ص 2677.
13- م. ن. - ج 3 ص 2677.
14- م. ن. - ج 3 ص 2678.
15- م. ن. - ج 3 ص 2678.