الأجير
كف الأذى
يقول الله تعالى في محكم كتابه: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ.التصوّر السائد لدى كثير من أهل الغنى أنّ استخدامهم لأجراء يعملون لديهم يجعلهم الأعلى مقاماً، هذا ما تشير إليه الآية الكريمة...
عدد الزوار: 213
تمهيد
يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾1.
التصوّر السائد لدى كثير من أهل الغنى أنّ استخدامهم لأجراء يعملون لديهم يجعلهم الأعلى مقاماً، هذا ما تشير إليه الآية الكريمة، منبّهة إلى أنّ التكامل في الحياة يكون من خلال تسخير البشر لبعضهم البعض، فيستفيد الأجير من مال الغنيّ ومتاعه، مقابل ما يقدّمه له من خدمات يعجز عن أدائها بنفسه، بسبب عدم توفّر الخبرة اللازمة، أو عدم قدرته على مباشرتها بنفسه.
يقول آية الله ناصر مكارم الشيرازي دام ظله معلّقاً على الآية: "إنّ وجود التفاوت والاختلاف بين البشر من ناحية مستوى المعيشة، لا يدلّ على تفاوتهم في المقامات والمنازل المعنويّة مطلقاً، بل: نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات، ليتّخذ بعضهم بعضاً سخريّاً. لقد نسي هؤلاء أنّ حياة البشر حياة جماعيّة، ولا يمكن أن تدار إلّا عن طريق التعاون والخدمة المتبادلة، فإذا ما تساوى كلّ الناس في مستوى معيشتهم وقابليّاتهم ومكانتهم الاجتماعيّة، فإنّ أصل التعاون والخدمة المتبادلة سيتزلزل.بناء على هذا فينبغي أن لا يخدعهم هذا التفاوت، ويظنّوا أنّه معيار القيم الإنسانيّة، إذ: ورحمة ربّك خير ممّا يجمعون. بل إنّ كلّ المقامات والثروات لا تعدل جناح بعوضة، في مقابل رحمة الله والقرب منه"2.
هل الخدمة والتسخير إذلال؟
يحاول أعداء الإسلام ومن يهمّه توجيه الطعنات إلى الدين، أن يدخل من خلال كلمة التسخير في الآية الكريمة، ليستدلّ على أنّ الإسلام دين يمارس الطبقيّة، ويكرّسها من خلال إباحته لتسخير العمّال في خدمة ذوي النفوذ والطبقة المترفة والمقتدرة ماديّاً، إلّا أنّ المدقّق فيما تعنيه الآية الكريمة، يتبيّن له أنّ معنى الآية لا يعني إطلاقاً أنّ "جماعة معيّنة من البشر، تسخِّر جماعة أخرى لأنفسها تسخيراً ظالماً يمتصّ الدماء والجهود، في حين أنّ الأمر ليس كذلك، بل هو استخدام الناس بعضهم بعضاً، أي أنّ كلّ جماعة من الناس لهم إمكانيات واستعدادات خاصة، يستطيعون العمل بواسطتها في مجال ما من شؤون الحياة، وهم بطبيعة الحال يقدّمون خدماتهم في ذلك الحقل إلى الآخرين، كما أنّ خدمات الآخرين في الحقول الأخرى تقدّم إليهم.
فالتسخير هو استخدام متبادل، وخدمة ذات طرفين، وبتعبير آخر: فإنّ الهدف من التسخير هو التعاون في أمر الحياة، ولا شيء آخر. ولا يخفى أنّ البشر لو كانوا متساوين جميعاّ من ناحية الذكاء والاستعداد الروحيّ والجسميّ، فسوف لن تتهيّأ مستلزمات الحياة الاجتماعيّة، والنظم الحياتيّة مطلقاً، كما أنّ خلايا جسم الإنسان لو كانت متشابهة من ناحية البنية والرقّة والمقاومة، لاختلّ نظام الجسم، فأين خلايا عظم كعب القدم القويّة جداً من خلايا العين الرقيقة؟ إنّ لكلّ من هاتين مهمّة خاصّة بنيت على أساسها. والمثال الحيّ الذي يمكن أن يضرب لهذا الموضوع هو الخدمات المتبادلة في جهاز التنفّس، ودوران الدم، والتغذية، وسائر أجهزة بدن الإنسان، التي هي مصداق واضح ليتّخذ بعضهم بعضاً سخريّاً، في إطار نشاطات البدن الداخلية، فهل يمكن الإشكال على مثل هذا التسخير؟"3.
مكانة العامل
يتعاطى الإسلام مع مسألة العامل من منطلق إنسانيّ، فالعامل كسائر البشر، ولا ينقص من قدره أنّ يكون أجيراً لقاء عمله، كما أنّ عمله لدى إنسان آخر، لا يعلي من مقدار ذلك الإنسان، فالأجير والمستأجر في الإنسانيّة سواء، وهذا ما تحكم به الفطرة السليمة.
وبناء على هذا المبدأ، لا بدّ وأن تبنى عليه سائر المسائل، ومن الأمور التي أكّد عليها الإسلام بخصوص العامل:
1- الرأفة به
بمداراته وعدم القسوة في التعاطي معه بتحميله ما لا يحتمل أو ما يفوق طاقته، وفضل المداراة كثير، بل إنّ هناك عشرات الروايات التي أشارت بشكل مباشر وغير مباشر إلى فضل المدارة، منها ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مداراة الناس نصف الإيمان، والرفق بهم نصف العيش"4.
وفي رواية أخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس، في غير ترك حقّ"5.
2- العفو عنه
فيما لو أخلّ بغير قصد ببعض ما أوكل إليه، وهذا ما كان من أخلاق أهل البيت عليهم السلام، ففي الرواية أنّه جعلت جارية لعليّ بن الحسين عليه السلام تسكب الماء عليه وهو يتوضّأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجّه، فرفع عليّ بن الحسين عليه السلام رأسه إليها، فقالت الجارية: "إنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿والكاظمين الغيظ﴾.
فقال عليه السلام لها: قد كظمت غيظي.
قالت: ﴿والعافين عن الناس﴾.
قال عليه السلام لها: قد عفا الله عنك.
قالت: ﴿والله يحبّ المحسنين﴾6.
قال عليه السلام: إذهبي فأنت حرّة"7.
ويكفي ما في العفو من الفضل، ما ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أوقف العباد نادى منادٍ: ليقم من أجره على الله وليدخل الجنّة، قيل: من ذا الذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس"8.
ومن وصيّة الإمام عليّ عليه السلام للأشتر لمّا ولّاه مصر : "ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تحبّ وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه... ولا تندمنّ على عفو، ولا تبجحنّ بعقوبة"9.
خير الطعام
إنّ العمّال أكرمهم الله تعالى لأنّ كسبهم من خير الكسب، فهو من عرق الجبين وكدّ اليمين، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أكل أحد طعاماً قطّ خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإنّ نبيّ الله داود كان يأكل من عمل يده"10.
فينبغي النظر إليهم بالعين التي نظر إليهم فيها الإسلام، ولهذا ينبغي رفع الظلم الذي يلحق بهم، من خلال أداء حقوقهم إليهم كاملة دون نقصان، لتحقيق العدالة التي حثّت عليها الروايات الواردة من آل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، ففي الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ما عمرت البلدان بمثل العدل"11.
وعنه عليه السلام: "جعل الله سبحانه العدل قواماً للأنام، وتنزيهاً من المظالم والآثام، وتسنية للإسلام"12.
فهل سيأتي اليوم الذي نرى فيه العمّال في غاية الإنصاف من البشر، ولا يعانون من التمييز والاضطهاد؟
هذا ما يتوقّف عليه سلوك كلّ فرد منّا، حينما يشعر بالمسؤوليّة الشرعيّة والإنسانيّة تجاه العامل، فيكفّ أذاه عنه، ومن إصلاح النفس يبدأ مشوار الألف ميل، لتحقيق العدالة الاجتماعيّة.
* كف الأذى. تأليف مركز نون للتأليف والترجمة. نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. ط: الأولى شباط 2010م- 1431هـ. ص: 45-50.
1- الزخرف: 32.
2- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 16 ص 44.
3- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج16، ص45 – 46.
4- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص 117.
5- تحف العقول- ابن شعبة الحراني - ص 42.
6- الآيات من سورة آل عمران: 134.
7- مستدرك الوسائل - الميرزا النوري - ج 1 ص 345.
8- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 3 ص 2012.
9- م. ن. - ج 3 ص 2013.
10- ميزان الحكمة - محمد الري شهري - ج 3 ص 2699.
11- ميزان الحكمة - محمد الري شهري - ج 3 ص 1839.
12- ميزان الحكمة - محمد الري شهري - ج 3 ص 1838.