التحكيم قبل الطلاق
العلاقات الزوجية
إن الأصل في الحياة الزوجية هو رعاية الحقوق المتبادلة والعدل والمساواة والاحترام، ولذا فإن استمرارها وديمومتها إنما يتوقف على هذه الأسس والمبادئ. ولذا يحتاج الأمر إلى تفهم من قبل الطرفين إلى ذلك وإلى إدراك أحدهما أخلاق الآخر واحترام شخصيته كانسان أولاً وكشريك في الحياة ثانياً ،
عدد الزوار: 104
إن الأصل في الحياة الزوجية هو رعاية الحقوق المتبادلة والعدل والمساواة والاحترام، ولذا فإن استمرارها وديمومتها إنما يتوقف على هذه الأسس والمبادئ.
ولذا يحتاج الأمر إلى تفهم من قبل الطرفين إلى ذلك وإلى إدراك أحدهما أخلاق الآخر واحترام شخصيته كانسان أولاً وكشريك في الحياة ثانياً ، ذلك أن أقل محاولة لفرض الرأي بالقوة وعدم مراعاة تلك الأسس سوف يضر بالحياة الزوجية ويعرّضها إلى القلق وعدم الاستقرار.
إننا نشاهد البعض وبسبب النزاعات الزوجية يقدمون على الطلاق الذي هو أبغض الحلال عند الله.
وبالرغم من شرعية الطلاق في الإسلام إلا أنه يعتبر آخر الوسائل التي يضطر المرء إلى استخدامها إنها آخر وأخطر عملية جراحية يقوم بها الزوج عندما تعجز جميع الوسائل الأخرى.
إن على الزوجين أن يمنعا نفسيهما ما أمكن من التفكير في الطلاق والانفصال وان على الذين يمتلكون وسائل مؤثرة منع الزوجين من الإقدام على الطلاق ما أمكنهم في ذلك.
التنازلات
ما أجمل الإنسان عندما يرى الأوضاع متأزمة في الأسرة وأن النزاع سوف ينفجر في المنزل ان يقوم بالتنازل عن بعض حقوقه مقابل تثبيت دعائم الأسرة.. ما أجمل الإنسان وهو يضحي في سبيل الله من أجل سعادة أبنائه.
ينبغي على الإنسان أن يتحمل وأن يكون طويل النفس.. بعيد النظر.. يغض النظر عن بعض الأخطاء التي يراها.. يتظاهر بعدم سماعه لكلمة جارحة.. يحتوي غضبه ويمنعه من الانفجار.. ذلك أن أكثر المسائل سوف تحلّ في المستقبل عبر التفاهم وعبر إصلاح الطرف الآخر وعودته إلى جادّة الصواب، وعندها يكون المرء قد أحرز على نفسه انتصاراً كبيراً يكون أجره السعادة ورضوان من الله أكبر.
إننا ـ ومع الأسف ـ نشاهد البعض وقد مرّ على زواجه الأعوام والسنون، ولكنه يجد نفسه عاجزاً عن تحمل شريك حياته عاجزاً عن ضبط نفسه في المنعطفات الحادّة والحساسة من حياته، وعندما يقدم ـ وبسبب غضبه الأعمى ـ على ارتكاب خطأ يندم عليه فيما بعد، وحينها لا ينفع الندم.
التفاوض
إن من أنجح السبل في حل النزاع في الحياة الزوجية هو الجلوس للتفاوض حول المشكلة بأعصاب باردة وهدوء كامل، والاستماع إلى الشكوى بقلب واسع رحيم لا يهدف سوى الخير والصلاح، فربما كان هناك ما يدعو إلى الشكوى حقّاً أو ربما هناك ما كان خافياً عليك من الأمور وإذا بساعة من الحوار تكتسح جميع الغيوم من سماء الأسرة فتشرق شمس المحبة من جديد.
إن على الزوجين المبادرة إلى كسر الحاجز الذي يحول بين تفاهمهما وأن يذيبا تلك الثلوج التي تفصل بينهما، فليس هناك ما هو أخطر من الغرور والتكبر في حلّ المسائل العالقة، وأن يحل بدل ذلك التفكير بالسعادة، فسعادة الرجل من سعادة زوجته وسعادة المرأة في سعادة زوجها.
فإذا حصل خطأ ما من أحد الطرفين فعليه أن يبادر إلى الاعتذار من صاحبه وعلى الآخر أن يقبل اعتذاره ويستقبله بالأحضان. على الزوجين أن يتجاوزا ذلك بسرعة ، إنها مجرد غيمة صيف عابرة ما أسرع أن تمر ويصحو الجو مرة أخرى.
إن الحياة المشتركة تعني المشاركة في كل شيء، يعني تنوع الأذواق واختلاف المشارب وتعايش كل ذلك في جو من التفاهم والاحترام الكامل والمتبادل.
ينبغي أن يكون هناك تفاهم قبل اتخاذ أي قرار يهمّ الأسرة، وينبغي أن يستشير أحدهما الآخر في كل شيء يهمهما معاً، ذلك أن التفاهم والتشاور يعزز من أسس البناء العائلي ويشيع الدفء في الأسرة ويشعر الطرفين معاً بالقوة.
ضرورة التحكيم
ربما ينشب النزاع ويعلو صوت العراك بين الزوجين حتى ليضيع صوت أحدهما أمام صراخ الآخر ويضيع صوت العقل بينهما ويختفي دوره تماماً، وإذن فلابد هنا من انتخاب حكم يفصل بينهما بعدما طغت المشاعر والعواطف، ولم يبق من أمل في التفاهم بينهما معاً بمعزل عن الآخرين، فكل منهما يعتقد بأن الحق إلى جانبه وأن الآخر هو المعتدي.
ومهما بلغت تجربة الرجل وخبرته في الحياة فإنه يبقى جاهلاً ببعض نواحيها، وهو إذن يحتاج إلى من يرشده في بعض الأمور.
إن تحكيم إنسان مجرّب له خبرته في الحياة يهيىء فرصة ذهبية لحلّ النزاع وإقناع الطرفين به، وهذا ما أوصى به القرآن الكريم وأوجبه بعض الفقهاء كأمر ضروري قبل الإقدام على الطلاق الذي يعتبر في الواقع كارثة اجتماعية لها آثارها الوخيمة.
فكرة التحكيم
إن فكرة التحكيم هي لجوء المرأة والرجل وبعد اشتداد النزاع ووصوله حداً يستحيل فيه التفاهم بينهما إلى شخص يتمتع بالمؤهلات المطلوبة وذلك لفض النزاع والوصول إلى الحل المنشود.
إن اشتداد النزاع لا بد وأن يعمي الطرفين عن رؤية الحق والحقيقة، واكتشاف الحل، فلكل منهما قناعاته وأحكامه المسبقة في ذلك وكل منهما وبسبب توتر أحاسيسه وتأزم مشاعره يعتبر الحق إلى جانبه وأنه الطرف المظلوم في القضية، ومن هنا تأتي فكرة التحكيم لتهيىء رؤية أكثر وضوحاً للمسألة وتوفر كذلك الموضوعية في وضع الحلول المطلوبة لإصلاح ما فسد من الأمور وإعادة المياه إلى مجاريها.
إن على من يقوم بهذه المهمة أن يكون ممثلاً حقيقياً للطرفين دون أدنى تحيز لأحدهما على حساب الآخر وأن يكون همهم الأول والأخير هو الإصلاح ووضع حدّ لكل أشكال الاستبداد في التعامل وأن يضع يده على أصل المشكلة، فقد يعامل الرجل زوجته كما لو كانت جارية لديه، أو تعامل المرأة زوجها كما لو كان خادماً لديها.
إن المرأة والرجل يجب أن يسلما لأوامر القرآن في تسيير حياتهما المشتركة، وليس من حق أيّ منهما الاعتراض بعد ذلك على ما يصدر من رأي في حل خلافاتهما.
ولذا فإن فكرة التحكيم إنما تأتي من انسداد جميع الطرق الأخرى في حلّ النزاع، وهذه المسألة تعكس مدى اهتمام الإسلام بالأسرة ككيان اجتماعي ينبغي صيانته من خطر التفكك والانحلال.
المقومات
وفيما يخص من يقع عليه مسؤولية التحكيم، وكما أشار إليه القرآن الكريم في انتخاب حكم من قبل الزوج يمثله في المفاوضات مع آخر يمثّل الزوجة بغية بحث أسس النزاع والتوصل إلى نتيجة ترضي الطرفين.
ولذا فإن من مقومات ذلك الحكم أن يكون محيطاً بالحوادث والمشاكل، وعلى بيّنة من الأسباب وبواعث نزاع الزوجين وخلافاتهما وله خبرة وتجربة في الحياة تؤهله لذلك العمل الحساس، ذلك أن الحكم سيكون موضعاً لجميع الأسرار والعلل الحقيقية التي أدّت أو تؤدي إلى توتر العلاقات الزوجية.
وعلى الحكم أن يكون إنساناً جديراً عاقلاً وورعاً تقياً وموضوعياً في بحثه لا يبغي سوى العدل والحق وأن يكون همه الأول والأخير هو الإصلاح.
الخيارات
وهنا يختلف الفقهاء في مدى صلاحيات الحكمين ودائرة تحركهما، فالقرآن الكريم يشير إلى دائرة الإصلاح وهكذا كان تحرك الأئمة من أهل البيت في هذا المضمار، ولذا فإن مهمة الحكمين هي التحرك في حدود ما يصلح الحياة الزوجية وترميم ما هدّمه النزاع من علاقات وما ضيع من واجبات وحقوق لكي تستأنف الأسرة مسارها الطبيعي مرة أخرى.
ولا تنحصر مهمّة الحكمين في بحث النزاع بينهما فقط بل وإقناع كل من الطرفين بأخطائه وضرورة تصحيحها لكي تعود الحياة إلى مجاريها الطبيعية، ولذا فليس من حق الحكمين أبداً اتخاذ قرار بالطلاق دون علم الزوجين، وإذا حدث وتوصل الحكمان إلى هذه النتيجة فعليهما إعلام الزوجين بذلك فقط، ومن ثم الانسحاب وترك القرار لهما إلا إذا طلب الزوجان منهما ذلك.
تأخير الطلاق
إن مهمة التحكيم هي السعي إلى اصلاح ذات البين ورفع الخلافات وحلّ النزاعات، ولذا فإن على الحكمين أن يتمتعا بنفس طويل في هذه المهمة، ذلك إن بعض الخلافات تستلزم وقتاً طويلاً من أجل حلّها وإزالتها.
ومهمة الحكمين بالدرجة الأولى تنصبّ على تأجيل الطلاق وإقناع الطرفين باستبعاده عن دائرة تفكيرهما آخذين مصلحة الأطفال بنظر الاعتبار.
وإذا نجح الحكمان في هذه الخطوة فإنهما يكونان قد قطعا منتصف الطريق في حل الأزمة، فالتريث في اتخاذ قرار الطلاق ودراسة ذلك من جميع الوجوه سوف يوفر فرصاً كبيرة للحلّ، ولذا فإن الإسلام يؤكد على من يتم على يديه إجراء الطلاق أن يوضح للزوجين خطورة ما يقدمان عليه ويعرّفهما بواجباتهما وحقوقهما الزوجية وأن يتجاوزا خلافاتهما والعودة إلى بيت الزوجة.
قبول التحكيم
إن مسألة التحكيم، وكما أشرنا إلى ذلك هي انتخاب ممثل ينوب عن الزوجين، وطرح مسائل النزاع على بساط البحث، ولذا فإن على الزوجين قبول النتائج دون عناء ومكابرة. إن عليهما أن يسلما لحكم الشرع والعقل وأن لا يركبا رأسيهما عنادا وتكبّراً.
ينبغي أن يدع المرء في مثل هذه الحالات أنانيته وغروره جانباً وأن يترك للحكمين المجال ويفتح أمامهما الطريق في مهمتهما الإصلاحية، وأن يقبل النتائج حتى لو جاءت في غير مصلحته، بل حتى لو جاءت خلافاً لما هو واقع، إذ ينبغي قبولها تأدباً واحتراماً.
حذار من الشيطان
الخطر كل الخطر من الشيطان إذا ركب أحد الزوجين أو كلاهما وأعماهما عن الرؤية الواضحة، ذلك أن تغير نظرة الرجل إلى زوجته ورؤية نفسه أعظم منها وأكرم لدى الله أو العكس سوف يجر وراءه المشاكل والمتاعب.
إن كلا الزوجين يتمتعان على حد سواء بكرامة الإنسانية وهما عضوان من أعضاء المجتمع وكلاهما أيضاً عبدان من عباد الله.
فدعوا المن والأذى ودعوا الجارح من الكلام واجتنبوا الضرب وابتعدوا عن حياة العراك، إذ ليس من اللائق أن يترك الإنسان التفاهم بمنطق العقل واللجوء إلى التفاهم باليدين.
إن ضعف أحدكما لا يبرر استبداد الآخر وتحوله إلى دكتاتور وان الله للظالمين بالمرصاد. أسأله تعالى أن يمنّ على الجميع بالعمر الهانئ الطويل والحياة الطيبة النابعة من راحة الضمير.
*الأُسرة و قضايا الزواج،الدكتور علي القائمي،دار النبلاء،لبنان، بيروت،ط1ـ1414هـ 1994م،ص119ـ125.