يتم التحميل...

سلوك المتقين

المتقون

فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ: مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ الاْقْتِصَادُ، وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ. غَضُّوا أَبْصَارَهُم عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ. قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ،

عدد الزوار: 358
فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ: مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ الاْقْتِصَادُ، وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ. غَضُّوا أَبْصَارَهُم عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ. قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ. صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مَرْبِحَةٌ، يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُم. يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ، وَالْقَوْلَ بِالْعَمَل. تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ، قَلِيلاً زَلَلُهُ، خَاشِعاً قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُهُ، مَنْزُوراً أَكْلُهُ، سَهْلاً أَمْرُهُ، حَرِيزاً دِينُهُ، مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ، مَكْظُوماً غُيْظُهُ.




المتقون والجوارح

لقد استطاع المتقون أن يملكوا جوارحهم ويسيطروا عليها ويفعّلوا نشاطها لكسب الآخرة، وقد فصّل الإمام عليه السلام ذلك وأشار إلى صفة كل جارحة من جوارحهم، في هذا المقطع الموجز والميئ بالمعاني التي ينبغي الوقوف عندها.


سلامة المنطق

مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ - بعيداً فحشه - ليّناً قوله - إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ
إن اللسان من أصغر الجوارح وأخطرها على مصير الإنسان، ومن أصعب الجوارح ضبطاً وسيطرةً، والمتقون قد استطاعوا السيطرة على هذا اللسان، هذه السيطرة التي تظهر من خلال المفردات التالية:

1- منطق صواب أو صمت

إن نطقوا فمنطقهم الصواب، فلا يسكتون عما ينبغي أن يقال فيكونون مفرّطين، ولا يقولون ما ينبغي أن يسكت عنه فيكونون مفرطين، "إن صمت لم يغمه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته".

الإنسان بأمس الحاجة إلى ما يعالج همومه وغمومه وتخيلاته النفسية التى تقوده إلى الاضطراب والقلق النفسي والصمت الواعي خير علاج لذلك.

والصمت المقصود هو الذي يرجع على الإنسان بمردود إيجابي في مختلف حياته الدنيوية والآخروية.
وله مميزات وثمار ونتائج عديدة على مستوى:

* التربية الفكرية: قال أبو الحسن عليه السلام: "من علامات الفقه العلم والحلم والصمت، إن الصمت باب من أبواب الحكمة، إن الصمت يكسب المحبة إنه دليل على كل خير"1.

* التربية الروحية: لأن له مدخلية كبيرة في تطهير القلب وتهذيب النفس الأمارة بالسوء ومقدمة للعبادة بل من أفضل العبادات حيث يحقق الهدف للعبادة. ففي (ثواب الأعمال) و(الخصال) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما عبد الله بشيء مثل الصمت، والمشي إلى بيت الله"2.

* التربية الاجتماعية: والصمت كما يربي الفرد المسلم التربية الحسنة كذلك يهذب المجتمع ويربيه من خلال تربية الأفراد ويتدخل في كثير من مشاكل المجتمع ليحلها فهو يحقق للمؤمن الصامت الصفات التي يتقدم بها في المجتمع ويقودهم إلى شاطئ الأمان والسلام: فعن الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة: "بكثرة الصمت تكون الهيبة"3.

2- بعيد عن الفحش في الكلام

"وتراه: بعيدا فحشه"، والفحش بمعناه الظاهر من الموبقات العظيمة، وقد حذّر منه فى الأخبار الكثيرة وبشّر الفحّاش بالنّار، فعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: "إنّ اللّه حرّم الجنّة على كلّ فحّاش بذيّ قليل الحياء لا يبالى ما قال ولا ما قيل له" ومن تعرّض للنّاس بشتمهم وهو يعلم أنهم سيردون عليه في نفس الأسلوب، فذلك لا يبالى ما قال ولا ما قيل له.

3- ليّن القول

"ليّنا قوله" يتكلّم بالرّفق ولا يغلظ فى كلامه، فانّ الرّفق فى القول يوجب المحبّة ويجلب الالفة ويدعو إلى الإجابة عند الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولذلك أمر اللّه عزّ وجل موسى وهارون عليهما السّلام عند بعثهما إلى فرعون بأن يقولا له قولا ليّنا ليكون أسرع إلى القبول وأبعد من النّفور.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: "ليجتمع فى قلبك الافتقار إلى النّاس والاستغناء عنهم، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن بشرك، ويكون استغناؤك عنهم فى نزاهة عرضك وبقاء عزّك"4.

4- التواضع

"مشيهم التواضع" إن التواضع من أعظم ما يتخلق به المرء فهو جامع الأخلاق وأساسها، بل ما من خلق في الإسلام إلا وللتواضع منه نصيب، فبه يزول الكبر، وينشرح الصدر، ويعم الإيثار، وتزول القسوة والأنانية والتشفي وحب الذات وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السّلام في ما أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى داود: "كما أنّ أقرب الناس من اللّه المتواضعون كذلك أبعد الناس من اللّه المتكبّرون"5.

والمقصود من التواضع المحمود أن يترك المرء التطاول على عباد الله والترفع عليهم والإزراء بهم حتى مع وقوع الخطأ عليه، ومن ذلك أيضاً التواضع للدين والاستسلام لشرع الله بحيث لا يعارضه المرء بمعقول ولا رأي ولا هوى. وأن ينقاد لما جاء به خاتم الرسل صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تعبد الله وفق ما أمرك به.

وليس من التواضع الاستكانة أمام نصرة دين الله سبحانه، والذي يسبب التخاذل وهجر النصيحة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخنوع أمام الباطل، والبعد عن نصرة والمظلوم.

ومما ورد في صفات رسول الله صلى الله عليه وآله: "لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم جمَّ التواضع، وافر الأدب، يبدأ الناس بالسلام، وينصرف بكله إلى محدثه، صغيراً كان أو كبيراً، ويكون آخر من يسحب يده إذا صافح، وإذا تصدق وضع الصدقة، وإذا جلس جلس حيث ينتهي به المجلس، لم يُرَ ماداً رجليه قط، ولم يكن يأنف من عمل لقضاء حاجته، أو حاجة صاحب أو جار، فكان يذهب إلى السوق، ويحمل حاجته بيده ويقول: أنا أولى بحملها وكان يجيب دعوة الحرِّ والعبد والمسكين، ويقبل عذر المعتذر، وكان يرفو ثوبه، ويخصف نعله، ويكنُس داره، ويخدم نفسه، ويعقل بعيره، وكان في مَهنة أهله، وكان يأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس، وكان يمشي هوناً خافض الطرف...".


القناعة

"قَانِعَةً نَفْسُهُ وحاجاتهم خفيفة"
قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيبة6.

روي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال في معنى الحياة الطيبة، إنها القناعة والرضا بما قسم الله تعالى.

وتتجسد حالة القناعة عند المؤمن في: التفاؤل وبسط الوجه، وعدم الشكوى، كذا وصف الله تعالى أهل القناعة والعفة فقال: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًاًً7.

والقانع على درجة من الايمان وحسن الظن بالله تعالى، والثقة به في كل أحواله، فهو يعلم أن الله عز وجل لا يمنع إلا لمصلحة العبد وهو العزيز الحكيم، يهب لحكمة، ويمنع لحكمة، ويقدر الأرزاق لحكمة. قلبه مطمئن بالله تعالى، وروحه متوجهة إلي الآخرة، لم يُسحر قلبه بزينة الدنيا الزائلة.

عن الإمام الرضا عليه السلام: "لا يسلك طريق القناعة إلا رجلان: إما متعبد يريد أجر الآخرة، أوكريم متنزه عن لئام الناس".

ثم القناعة تأتي بخصال أخرى كريمة، تبينها النصوص الشريفة التالية:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من قنعت نفسه، أعانته على النزاهة والعفاف- القناعة رأس الغنى- كفى بالقناعة ملكاً- من عز النفس لزوم القناعة- ثمرة القناعة العز- أعون شيء على صلاح النفس: القناعة".


غض البصر ووقف السمع

"غضوا أبصارهم.. ووقفوا أسماعهم.."

ولأن السمع والبصر نعمتان فهما تستوجبان شكر الله المنعم ، وحق الشكر أن لا تستخدم نعم الله في معصيته ، بل يذكر الإمام السجاد عليه السلام لهما حقوقاً فيقول:

"وأما حق السمع فتنزيهه عن أن تجعله طريقاً إلى قلبك إلا لفوهة كريمة تحدث في قلبك خيراً، أو تكسب خلقاً كريماً، فإنه باب الكلام إلى القلب، يؤدي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أوشر، ولا قوة إلا بالله..".

إن جهاز السمع هو الأداة الفعالة في تكوين شخصية الإنسان، وبناء سلوكه، وذلك بما ينقله من المسموعات التي تنطبع في دخائل الذات وقرارة النفس، ومن حقه على الإنسان أن يجعله بريداً لنقل الآداب الكريمة، والفضائل الحسنة، والمزايا الحميدة ليتأثر بها، وتكون من صفاته وخصائصه.

وهكذا يفعل المتقون الذين (وقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم) في الدّنيا والآخرة الموجب لكمال القوّة النظرية والحكمة العمليّة، وأعرضوا عن الإصغاء إلى اللّغو والأباطيل كالغيبة والغناء ونحوها، وقد وصفهم اللّه سبحانه بذلك في قوله ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونًًَ وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "الغناء مما وعد الله عليه النار" وتلا هذه الآية ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينًًٌ8، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة، ولا تجاب فيه الدعوة، ولا يدخله ملك"9.

"وأما حق بصرك فغضه عما لا يحل لك، وترك ابتذاله إلا لموضع عبرة تستقبل بها بصراً أو تستفيد بها علماً فإن البصر باب الاعتبار" إن للبصر حقاً على الإنسان، وهو حجبه عن النظر إلى ما حرمه الله الذي هو مفتاح الولوج في اقتراف الآثام، فينبغي للمسلم أن يغض بصره عما لا يحل له، وأن ينظر إلى مواضع العبر ليستفيد منها في بناء شخصيته، كما أنه ينبغي له أن يستفيد ببصره علماً يهذب به نفسه، وينفع به مجتمعه.

فالمتقون غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم امتثالا لأمره تعالى ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونًًََ10".

وعن الإمام الصادق عليه السّلام: "كلّ عين باكية يوم القيامة إلاّ ثلاثة أعين: عين غضّت عن محارم اللّه، وعين سهرت في طاعة اللّه، وعين بكت في جوف اللّيل من خشية اللّه"11.


عفة النفس

كما في خطبة وصف المتّقين. يقول عليه السلام عن المتقين "حاجاتهم خفيفة وأنفسهم عفيفة"

وفي رواية عنه عليه السلام: "ما المجاهد في سبيل الله بأعظم أجراً ممن قدر فعفّ، لكاد العفيف أن يكون ملكا من الملائكة"12، وهذا الحديث ترجمة لحديث الجهاد الأكبر مع النفس التي تتجلى بصيانة النفس والتنزه عن الدنايا.

ومن أهم موارد العفاف: الطعام والشهوة. قال تعالى: ﴿وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفًًَْ13، ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهًًَ14، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله: "أحبّ العفاف الى الله تعالى عفة البطن والفرج"15.

* المتقون.سلسلة الدروس الثقافية, نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. ط: الأولى آب 2007م- 1428ه. ص: 41-47.


1- الحر العاملي- محمد بن الحسن- وسائل الشيعة- مؤسسة أهل البيت- الطبعة الثانية 1414هـ.ق- ج12 ص182 ح16023.
2- الحر العاملي- محمد بن الحسن- وسائل الشيعة- مؤسسة أهل البيت- الطبعة الثانية 1414هـ.ق- ج12 ص 185 ح16034.
3- الحر العاملي- محمد بن الحسن- وسائل الشيعة- مؤسسة أهل البيت- الطبعة الثانية 1414هـ.ق- ج12 ص 187 ح16040.
4- الشيخ الكليني- الكافي- دار الكتب الإسلامية، آخوندي- الطبعة الثالثة- ج2 ص149.
5- الشيخ الكليني- الكافي- دار الكتب الإسلامية، آخوندي- الطبعة الثالثة- ج2 ص124.
6- النحل:97.
7- البقرة:273.
8- لقمان:6.
9- الشيخ الكليني- الكافي- دار الكتب الإسلامية، آخوندي- الطبعة الثالثة- ج6 ص434.
10- النور:30.
11- الشيخ الكليني- الكافي- دار الكتب الإسلامية، آخوندي- الطبعة الثالثة- ج2 ص80.
12- الريشهري- محمد محمدي- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج1 ص20.
13- النساء:6.
14- النور:33.
15- الشيخ الكليني- الكافي- دار الكتب الإسلامية، آخوندي- الطبعة الثالثة- ج2 ص79.

2011-03-04