يتم التحميل...

هدف خلق الإنسان

الأخوة

فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لأنه لاَ تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلاَ تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ، وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ".

عدد الزوار: 384
"فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لأنه لاَ تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلاَ تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ، وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ".



مهّد الإمام هذه المقدّمة لأنه عليه السلام لما كان بصدد شرح حال المتقين تفصيلاً حسبما اقترحه همام وكان ربما يسبق إلى الأوهام القاصرة أنّ ما يأتي به المتّقون من مزايا الأعمال والصالحات وما كلّفهم اللّه سبحانه به من محامد الخصال والقربات من أجل حاجة منه - تعالى عن ذلك - إليها، قدّم هذه المقدّمة تنبيها على كونه سبحانه منزّها عن ذلك، متعاليا عن صفات النقص والحاجة في الأزل كما في الأبد، وأنه لم يكن غرضه تعالى من الخلق والإيجاد جلب المنفعة له ودفع المضرّة عنه كما هو شأن البشر حيث يعملون ما يفتقرون إليه ويرفعون به ما بهم من نقص وحاجة، وأمّا اللّه الحيّ القيّوم فهو الغنىّ الكامل المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله: قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ1 والله تعالى لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان ولا تخوّف من عواقب زمان ولا استعانة على ندّ مثاور ولا شريك مكائر ولا ضدّ منافر (كما في الخطبة الرّابعة والستّين).

وهذا المدخل إلى الخطبة يقتضينا الوقوف عند جملة أمور أشار إليها أمير المؤمنين عليه السلام.


غاية الخلق


إن عدم وجود غرض يعود إليه تعالى لا يعني عبثية الخلق والتي تنافي الحكمة الإلهية، قال تعالى ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ2، والعبث يطلق على الشيء الذي لا غاية حقيقية له، وهو يأتي في قبال الحكمة. إن الإنكار هنا بمعنى أنكم حسبتم أن لا حكمة في خلقكم، وأن ليس هناك غاية حكيمة.

إن أي فعل ـ نركز عليه ـ لا بدّ أن يكون باتجاه هدف معين، وطبيعي أن بعثة الأنبياء كانت تستهدف تكميل الإنسان. ومما صرحت به الشرائع أن الأنبياء جاؤوا ليعينوا الإنسان، ويأخذوا بيده إلى الكمال.

إن في حياة الإنسان  في الواقع نوعاً من الخلل والنقص لا يمكن للإنسان الفردي، بل وحتى الإنسان الاجتماعي أن يسده بمعونة طاقات الأفراد العاديين، فيتعين عليه أن يستعين بالوحي.

ويلزمنا حينئذ أن نعود إلى القرآن الكريم ليحدثنا ـ بشكل أكثر تفصيلاً وأشد تعييناً ـ عن هدف الإنسان، وهل تحدث عن الهدف من خلق الإنسان؟ وهل ذكرنا الهدف من بعثة الأنبياء؟ وهل تحدث عن الهدف الذي يعيش له الإنسان؟


العبادة هدف

القرآن الكريم يصرح في موضع منه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ3 أي أن غاية خلق الإنسان والموجود الآخر المسمى بـ(الجن) هي العبادة.

فما معنى هذا الهدف؟ وما هي الفائدة التي تعود بها العبادة على الله؟ وهي حتماً ليست بذات فائدة له، لأن الله غني عن العالمين، لكن ما هي فائدتها العائدة على البشر ليخلق البشر لأجل العبادة.

وفي التوحيد بإسناده عن ابن أبي عمير قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اعملوا فكلٌّ ميسّر لما خلق له؟" فقال: إن الله عز وجل خلق الجن والإِنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه وذلك قوله عز وجل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فيسَّر كلاً لما خلق له فويل لمن استحبَّ العمى على الهدى4.

وفي العلل بإسناده إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: خرج الحسين بن علي عليه السلام على أصحابه فقال: "إن الله عز وجل ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه"5.

الجدير بالذكر أن هناك إشارات وردت في آيات عديدة من القرآن الكريم تبين الهدف من خلق الإنسان أو الكون، وقد تبدو مختلفة، ولكن بالنظرة الدقيقة نلاحظ أنها ترجع إلى حقيقة واحدة:

1- في الآية (56) من سورة الذاريات يعتبر "العبادة" هي الهدف من خلق الجن والإنس ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.

2- وفي الآية (7) من سورة هود يضع امتحان الإنسان وتمحيصه كهدف لخلق السماوات والأرض: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً.

3 - في الآية (119) من سورة هو د يقول: إن الرحمة الإلهية هي الهدف ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ.

4- وفي الآية (12) من سورة الطلاق اعتبر العلم والمعرفة بصفات الله هي الهدف ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماًْ. إن تدقيقا بسيطاً في هذه الآيات يرينا أن بعضها مقدمة للبعض الآخر، فالعلم والمعرفة مقدمة للعبودية، والعبادة هي الأخرى مقدمة للامتحان وتكامل الإنسان، وهذا مقدمة للاستفادة من رحمة الله.


الطاعة والمعصية يعودان على الإنسان نفسه

إن المتأمل في أمور الحياةِ وشؤون الأحياءِ يجِد فئاتٍ مِن النّاس تعيش ألوانًا من التعبِ والشقاء وتنفث صدورُها أنواعًا مِن الضّجَر والشّكوى، ضجرٌ وشقاء يعصِف بالأمانِ والاطمِئنان، ويُفقِد الراحةَ والسعادة، ويتلاشى معه الرّضا والسّكينة، نفوسٌ منغمِسةٌ في أضغانِها وأحقادِها وبؤسها وأنانيتها، ويعود المتأمل مرة أخرى ليرى فئات من الناس قد نعمت بهنيء العيش وفيوض الخير، كريمةٌ على نفوسها، كريمة على النّاس، طيّبة القلبِ سليمة الصدر طليقة المحيا. ما الذي فرق بين هاتين الفئتين؟ إنها الطاعة والمعصية.

فالطاعة سكينة ورضا وحلاوة، والمعصية قلق ولا استقرار وتأفف، والطاعة سعة في الرزق ومحبة في قلوب المؤمنين، والمعاصي خلاف ذلك.


اختلاف الناس في المواهب والرزق

ورد في النص القرآني ما يشير إلى ذلك التفاوت: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ6 والمعنى أنّ الله عز وجل نفى التساوي بين الأفراد الذين خلقهم. ولا شك أنّ التفاضل في الرزق، والتفاوت في القدرة على التصرف بالمال يعتبران من السنن التكوينية وجزءاً لا يتجزأ من التصميم الإلهي للخلق والتكوين. ولكن هذا التفاضل التكويني، والاختلاف في القدرات العقلية والجسدية إنما تؤديان ثمارهما العملية على الصعيد الاجتماعي، إذا التزم الأفراد بتطبيق مفردات الشريعة الإسلامية فحسب؛ وإلاّ أصبحت تلك الاختلافات من موارد انعدام العدالة الاجتماعية.

وفي ضوء ذلك، جعل الإسلام في أموال الأغنياء حقاً ثابتاً للفقراء، وبذلك فهو لم يلغِ التفاضل الاجتماعي، بل وضع له ضريبة ثابتة تدخل في دائرة منفعة الأفراد الذين لم يوفقوا اقتصادياً واجتماعياً.

إن الاخـتلاف في الاستعدادات ينبغي أن يوظف لخدمة مسيرة البناء، كما في اخـتـلاف طـبيعة أعضاء بدن الإنسان أو أجزاء الوردة، فمع تفاوتها إلا أنها ليست متزاحمة، بل إن البعض يعاضد البعض الآخر وصولا للعمل التام على أكمل وجه.

وإلى هذا الأمر في خلق الله أشار أمير المؤمنين بقوله "وقسّم بينهم معيشتهم" وما يعيشون به في الحياة الدّنيا من أنواع الرّزق والخير والمنافع والنعماء، ووضع كلا منهم موضعه من الفقر واليسار والغنى والافتقار والسعة والإقتار على ما يقتضيه حكمته البالغة وتوجبه المصلحة الكاملة كما أشير إليه في قوله عزّ وجلّ ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَات7.

وهذا الأمر يبتني على حكمة وليس تفاضلا عبثياً ففي الحديث القدسي، "إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ومن عبادي لا يصلحه إلا الغنى".

وقد يكون ابتلاءً، فإن وجود التفاضل بين الناس مهم في عملية الابتلاء فلو كان بنو الإنسان جميعهم على نمط واحد ينالون قسطاً من عطاء الله متساوياً لتعطل الجزء الأكبر من الابتلاء بجميع تفاعلاته ولما ظهرت خفايا كل امرئ وما تكنه الصدور.

وفي ابتلاء الإنسان منافعٌ له ولغيره. المنفعة الأولى، هي أن الابتلاء يقرب الإنسان من ربه، فيتضرع إلى الله، يقوم الليل، ويصوم النهار، ويتصدق على المساكين والفقراء، ويدعو الله أن يمن عليه ويفك كربته كما إن الابتلاء، يكشف عن معدن الإنسان.


الرزق وسعي الإنسان

إن كل شيء من الناحية العقائدية تنتهي نسبته الى اللّه عز وجل، وكل موحد يعتقد إن منبع وأصل كل خير منه سبحانه وتعالى، ويردد ما تقوله الآية (26) من سورة آل عمران: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وقد أعطت الأحاديث والروايات أهمية استثنائية للسعي في طلب الرزق المصحوب بالتقوى، وحتى روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "لا تكسلوا في طلب معايشكم، فان آباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها"8.

وروي عنه أيضاً: "الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل اللّه"9.

وذكر أن من جـمـلة من لا يستجاب لهم الدعاء أولئك الذين تركوا طلب الرزق على ما لهم من استطاعة، وانزووا في زوايا بيوتهم يدعون اللّه أن يرزقهم.

فالسعي والعمل الصحيح البعيد عن أي إفراط أو تفريط، هو أساس كسب الرزق، ولعل هـذا الأمر هـو الذي دفع أمير المؤمنين عليه السلام في كلماته القصار في تقديم ذكر الرزق الذي يطلبه الإنسان على الرزق الذي يطلب الإنسان، حيث قال : "يا ابن آدم، الرزق رزقان : رزق تطلبه، ورزق يطلبك"10.


الابتلاء بالشر والخير

والابتلاء بالشر مفهوم إجمالاً ويمكن مواجهته بالانتباه والثبات حتى تنقشع غيوم الشدة، أما أن يبتلي المرء بالخير فهنا الامتحان الملتبس، فالكثيرون وهم ينغمسون في طيبات الخير لا يحسبون أنهم مبتلون ولذا تتراخى أعصابهم حد غياب اليقظة والحذر ويرتكبون أغلظ الأخطاء وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً..!

غير أن هم المؤمن الحق وهو يتقلب بين نار المصيبة ورخاء النعمة يجب أن ينصب دائماً على التماس رضا الله تعالى، مع الالتفات إلى أن كثرة الرزق عند البعض لا تعبر عن كرامة نالها من عند المنعم سبحانه، وكذلك خواء اليد لا يدل على هو أن، يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ..وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ.. كَلَّا! فالعبرة ليست بالمنع والعطاء ولكن بما يسفر عنه الابتلاء..!

* المتقون.سلسلة الدروس الثقافية, نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. ط: الأولى آب 2007م- 1428ه. ص: 11-17.


1- فاطر:15.
2- المؤمنون:115.
3- الذاريات:56.
4- المجلسي - محمد باقر- بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة -ج5 ص157.
5- المجلسي - محمد باقر- بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة -ج5 ص312.
6- النحل:76.
7- الزخرف:32.
8- الشيخ الصدوق - من لا يحضره الفقيه-جامعة المدرسين- الطبعة الثانية 1404هـ-ج3 ص157.
9- الوسائل، ج12، ص 43.
10- نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم379.

2011-03-04