كرامة النفس في القرآن والحديث
التربية
إن هذا الموضوع -كرامة وعزة النفس- لم يعتنَ به كثيراً أو أهمل كلياً في حين إننا نستنبط منه قواعد الأخلاق الإسلامية، وهو أحد طرق تعريف الإنسان بنفسه وتذكيره بكرامته الذاتية، فيجب أولاً أن نرى هل توجد في التعاليم الإسلامية عبارات تشير إلى عظمة وأهمية النفس أو تعرف الإنسان بنفسه أم لا؟..
عدد الزوار: 571
... إن هذا الموضوع( كرامة وعزة النفس) لم يعتنَ به كثيراً أو أهمل كلياً في حين إننا نستنبط منه قواعد الأخلاق الإسلامية، وهو أحد طرق تعريف الإنسان بنفسه وتذكيره بكرامته الذاتية، فيجب أولاً أن نرى هل توجد في التعاليم الإسلامية عبارات تشير إلى عظمة وأهمية النفس أو تعرف الإنسان بنفسه أم لا؟ وان وجدت، فهل هناك تعارض بينها وبين التعاليم الإسلامية التي تنكر النفس أحياناً؟
عزَّة النفس
يعبر في كثير من التعاليم الإسلامية عن حالة الغرور أو الإحساس بالرفعة والشرف بـ"عزة النفس"، وفي مقدمة هذه التعابير قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، ان على المؤمن أن يعلم بأن العزة تنحصر به، وأنه هو الذي يجب أن يكون عزيزاً، وهذا طريق للتعريف بالنفس والتوجه إليها.
وفي الحديث النبوي: "اطلبوا الحوائج بعزّة الأنفس"1 أي لا تذلوا ولا تحقروا أنفسكم أمام الآخرين لطلب حاجتكم، احفظوا عزتكم ولا تقضوا حوائجكم بثمن ذلتكم وذهاب عزتكم.
في نهج البلاغة يقول الإمام عليه السلام لأصحابه: "فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين"2 يتبين هنا أن للعزة والسيادة والقهر قدراً وقيمة عظمى بحيث لا يمكن أن يتخلى عنها في الحياة، فإن تحققت العزة فلا يهم أن يتحرك جسم الإنسان على هذه الأرض أم لا، وان لم تكن فالحركة والحياة على وجه الأرض موت.
كان شعار سيد الشهداء المعروف في يوم عاشوراء هو: "الموت أولى من ركوب العار"3، أي انني أريد العزة فقط، وعبارته الأخرى: "هيهات منا الذلة"4، هي شعار آخر مضافاً إلى شعارات أخرى رفعت في يوم عاشوراء، وقد تلألأت هذه الشعارات في تاريخ عاشوراء، "إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً"5، ومن الكلمات التي ذكرت له عليه السلام: "موت في عزّ خير من حياة في ذل"6.
وهناك تعبير آخر قريب من المعنى الذي ذكرناه يروى أيضاً عنه عليه السلام: "الصدق عز والكذب عجز"7، لذلك يجب أن يكون الإنسان صادقاً، لأن الصدق عز للإنسان "وهنا اعتبرت العزة مبنى الصدق" فالذي يكذب هو الضعيف والعاجز، أما القوي فإنه لا يكذب.
الكلمة الثانية من الحكم في نهج البلاغة: "ازرى بنفسه من استشعر الطمع"، أي احتقر نفسه من جعل الطمع شعاراً له، الطمع يذل الإنسان، ومبنى هذا الخلق السيئ هو حقارة النفس "ورضي بالذل من كشف عن ضره"، يكره شرعاً أن يظهر الإنسان ابتلاءاته للآخرين، لأن هذا الأمر يحقر الإنسان ويذله.
جاء رجل إلى الإمام الصادق عليه السلام وشكاه دهره وانني كذا وكذا، حيران وعليّ دين، فاعطاه الإمام مقداراً من المال، قال الرجل: لم يكن قصدي أن آخذ شيئاً، لقد أردت أن أشرح لكم حالي لتدعوا لي عند الله، فقال الإمام عليه السلام: إنني لم أقل كان قصدك هذا ولكن خذ هذا وانفقه على نفسك، "ولا تخبر الناس بكل ما أنت فيه فتهون عليهم"8.
جملة: "ورضي بالذل من كشف عن ضره"، وجملة: "وهانت عليه نفسه من أمّر عليها لسانه"، لها معنى عظيم.
وهناك كلمة أخرى في نهج البلاغة هي: "المنية ولا الدنية، والتقلل ولا التوسل"9، لماذا يمد الإنسان يده للآخرين؟ أقنع بالقليل ولا أستجدي الآخرين.
ينقل سعدي في كتابه "بوستان" أنه مرّ الإمام علي عليه السلام بقصاب، فقال القصاب: عندي لحم جيد، قال الإمام عليه السلام: ليس لي مال لأشتري الآن، فقال القصاب: سوف أنتظر، قال الإمام عليه السلام: أقول لبطني أن تصبر وتنتظر.
وهناك حديث آخر للإمام الصادق عليه السلام في "تحف العقول" بشأن المعاشرة أيضاً يقول عليه السلام: "ولا تكن فظاً غليظاً يكره الناس قربك، ولا تكن واهناً يحقرك من عرفك"، وهذا عكس ما ذكرناه سابقاً عن أبن أبي الحديد الذي ينقل عن أحد مشاهير المتصوفة، أنه فرح في ثلاثة مواضع، منها: أننا كنا في السفينة وكانوا يبحثون عن أحمق يسخرون منه ووجدني أنا، لأنني شعرت بأنه لا يوجد أحد أقل منزلة مني في أعينهم، ففرحت كثيراً، هذا خلاف لما يريده الإسلام، ان الاحساس بالتواضع في داخل النفس، شيء غير إظهار الإنسان نفسه حقيراً أو ان يحقر نفسه أمام الآخرين، ينقل في "الوسائل"10، أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول دائماً:
"ليجتمع في قلبك الإفتقار إلى الناس والاستغناء عنهم" لكن هذا الإجتماع ليس في شيء واحد، بل هو بالإضافة إلى شيئين، والإمام يوضح ذلك بقوله: فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن بشرك، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزك، هنا يجب الاستغناء عن الناس إذا كانت مسألة عرضك وشرفك في البين ولو رأيت انك لو كنت ليناً فقدت عزتك وشرفك وجب عليك أن لا تتعامل مع الآخرين بلين.
هناك بعض العبارات تحت عنوان "العلو" كتعبير القرآن: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾11، يطرح هنا مسألة العلو ويدعو إليها.
والتعبير الآخر هو "القوة" وهو إحدى طرق العودة إلى النفس ولكن بطريقة "شعور القدرة في النفس"، قدمنا حديثاً للإمام الحسين عليه السلام وهو: "الصدق عز والكذب عجز"، القوي لا يكذب أبداً، انه يقول: إن على الإنسان أن ينمي في نفسه الشعور بالقوة والعظمة وان الكذب والغيبة وأمثالها من الضعف والعجز، كما يقول الحديث حول الغيبة: "الغيبة جهد العاجز"12، فالإنسان القوي لا يسمح لنفسه أن يتحدث على الآخرين في غيابهم.
وجاء في حديث آخر: "ليكن طلبك للمعيشة فوق كسب المضيع، ترفع نفسك عن منزلة الواهن الضعيف"13، أي ان على الإنسان أن يبحث عن رزقه بنفسه. تقوم مسألة البحث عن الرزق والمعيشة من الناحية الأخلاقية على أساس القوة واعتبر اهمال العمل، والكسل من الضعف والعجز.
عظمة النفس
وهذا التعبير يعني أن روح الإنسان شيء نفيس وثمين، وأن الأخلاق الحسنة والفاضلة أمور تناسب هذا الشيء النفيس، والأخلاق الرذيلة تنافيه، وعدم التناسب هذا يحط من قيمتها، هذا التعبير يعطي للإنسان ثروة نفيسة جداً ألا وهي نفسه ويقول له: يجب أن لا تضيع هذه النفس ولا تلوثها لأنها ثمينة ونفيسة.
ان أمير المؤمنين عليه السلام يخاطب الإمام الحسن عليه السلام في رسالة له في نهج البلاغة: "أكرم نفسك عن كل دنية، فانك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً"، فيجب عدم تضييع هذا الشيء الثمين، الذي يفوق كل ثمن وقيمة، إن الأشياء التي يتعلق بها استقلال الدولة وشرفها تعد فوق كل القيم بالنسبة للأمة، ليس هناك شعب ـ وان كاد يموت من الفقر ـ مستعد لكي يساوم على قيمه أو تراثه، كبعض الآثار العلمية والأدبية وحتى الذوقية الفنية.
ولأمير المؤمنين كلام آخر يقول فيه: "لا دين لمن لا مروءة له"14، (وفي الحقيقة ان الدين هو المروءة)، "ولا مروءة لمن لا عقل له، وان أعظم الناس قدراً من لا يرى الدنيا لنفسه خطراً"15، ما هي هذه النفس لتكون الدنيا بأكملها رخيصة في نظره وقدره، بحيث لو أعطي الدنيا كلها قبال نفسه فسيرى أن نفسه أفضل من الدنيا وما فيها.
هناك قول للإمام الصادق عليه السلام في شعر رباعي وجدته في المجلد الثاني عشر من البحار، الشعر هو للإمام عليه السلام حفظت البيت الأول منه:
أثار من بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن16
الغيرة
التعبير الآخر هو "الغيرة" إن بعض الأمور الأخلاقية تكون بمقتضى الغيرة أو عدم اقتضائها، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "قدر الرجل على قدر همته، وشجاعته على قدر أنفته، وعفته على قدر غيرته"17، فبقدر شعور الإنسان بالغيرة على شرفه وعرضه فإنه يحترم شرف الآخرين وعرضهم وكرامتهم، أي أن غيرته لا تسمح له بالتعدي على عرض الآخرين، لذا يقول عليه السلام في تعبير آخر: "ما زنى غيور قط"18، أي أن كل من يزني ويهدم عفة الآخرين لا غيرة له أبداً.
والتعبير الآخر في هذا المجال هو كلمة "الحرية" يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً".
وهناك تعابير حول "كرامة النفس" مثل: "من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته"19، ويقول الإمام الهادي عليه السلام: "من هانت عليه نفسه فلا تأمن شره"20.
هل يوجد تناقض؟
كل هذه التعابير حول شعور الإنسان بقيمة نفسه، ومن جهة أخرى نجد في الإسلام تعاليم أخرى أشهر من هذه، وقد تعد منافية لها، فمثلاً عندما نقول: عزّة النفس، إذاً ما نصنع بالتواضع؟ هل التواضع شيء غير التذلل؟ فلو أردنا أن نحفظ عزة النفس إذاً علينا أن لا نتواضع! فهل عزة النفس ضد التواضع أم لا؟ وكذلك علو النفس، فالقرآن الكريم من جانب يقول: ﴿وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، وفي مكان آخر يذم علو النفس فيقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾21.
كل ما سمعناه لحد الآن كان حول الضعف، يقول سعدي: انا تلك النملة التي تسحق بالأقدام، لا نحلة يصرخ من لدغها... فكيف اُأدي شكر هذه النعمة وهي أنني لا أملك طاقة إيذاء الآخرين.
وأما بشأن النفس النفيسة، فيقال: أليست النفس هي ذلك الشيء الشرير والخبيث التي تشبه بالكلب وكل الأشياء الشريرة؟ إذاً كيف تُعرف هنا بالشيء النفيس والثمين؟ وهكذا العبارات الأخرى من قبيل الحرية، الكرامة وغيرها، ألم يوص الإسلام بجهاد النفس؟ فكيف يجب هنا احترام النفس التي تجب مجاهدتها والنظر إليها كالعدو كما قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك"22، ونجد أن "العجب" مذموم. أليس العجب هو غير عظمة النفس في عين صاحبها؟ وهكذا التكبر، كيف تتناسب هذه التعابير مع ما قيل من قبل؟ هل هناك تناقض أم لا؟
لا يوجد تناقض، لأن للإنسان نفسين، فنفس لو نظر إليها الإنسان لكان ذلك عجباً، وان نظر إليها باكبار كان تكبراً، ولو أرادها هي وحدها كان ذلك غروراً مذموماً، فهذه هي التي تجب مجاهدتها والنظر إليها بوصفها عدواً تجب محاربة أهوائه، أما النفس الأخرى فهي التي يجب تعزيزها وتكريمها واحترامها وحفظ حريتها وقدرتها وقوتها وعدم تلويثها بالضعف، ولكن كيف نوضح هاتين النفسين؟ إن للإنسان "نفسين" وذاتين، فهل معنى ذلك أن له "أنانيتين"؟ لاشك أن لكل شخص "أنا" واحدة لا اثنين، ووصف الإنسان بتعدد الشخصية غير مقبول، هناك مرض يعرف في علم النفس "بازدواج الشخصية" ولكن ذلك المرض في الحقيقة ليس شخصين قد يقال للشخص غير المتعادل وغير المتوازن أنه مصاب بمرض تعدد الشخصية لكنه في الحقيقة لا يملك شخصيات متعددة، ليس للإنسان نفسان في الحقيقة، بل إن للإنسان نفسين، بمعنى أنه يمتلك نفساً حقيقية وواقعية وأخرى مجازية وتسمى لا نفس، ومحاربة النفس في الحقيقة هي محاربة النفس مع اللانفس، إننا نملك نفساً بعنوان نفس شخصية وفردية، فعندما أقول "أنا" سوف أضع نفسي في مقابل "أنانية" الآخرين، أو في الحقيقة أنفي الأنانيات الأخرى: أنا، لا أنتم، فارادة شيء لهذه النفس تعني لهذا الشخص في مقابل بقية الأفراد وأحياناً ضدهم، كلما أصبحت النفس شخصية وفردية ومنفصلة عن بقية الأنفس فهذه الحالة مرتبطة بالأنفس أي مرتبطة بجوانبه البدنية، ولكن للإنسان في باطنه وذاته نفسه حقيقة تعتبر أصل ذاته وهذه الأخرى التي يتصورها "نفساً" هي في الحقيقة "لا نفس"، وهذه هي التي يعبر عنها القرآن الكريم: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾23. وهذه حقيقة ليست من جنس المادة والطبيعة، بل من جنس الملكوت والقدرة، من جنس عالم آخر، فالتوجه لهذه النفس يعني معرفة حقيقة إنسانيته، عندما يتوجه لها الإنسان يراها الحقيقة المحضة، لأن جوهرها هو جوهر الحقيقة وأنها مخالفة للباطل وكل ما هو عدم، إنها تلائم الصدق، لأن الصدق حقيقة، ولأن الكذب عدم ولا حقيقة وبلا معنى وفائدة فهو غير ملائم لها، وهي من سنخ القدرة والملكوت، ولذا فهي لا توافق العجز والضعف، وهي من سنخ العلم فلا توافق الجهل، هي من سنخ النور، فلا توافق الظلام، هي من سنخ الحرية، لأن "أنا" الإنسان الحقيقية حرة وبما أنها من جوهر الحرية والإرادة فهي مخالفة للذلة والعبودية للآخرين أو للشهوات هي من سنخ التجرد وما وراء المادة فهي مخالفة للتلوثات والأوساخ المادية والطبيعية التي تجعل الإنسان أسيراً لها.
لذلك فان التوجه إلى "الأنا" بعنوان فرد يعيش الآن في مقابل بقية الافراد ـ هي التي تحدث الحروب لأجلها ـ أو بقول العارفين "أنا" بعنوان شخص وفرد وجسم، ومن مقتضيات هذا الجسم: الأكل، النوم، الشهوات الجنسية، وكل ما يرتبط بحياة هذا الجسم، نعم التوجه إلى "الأنا" بهذا المعنى مذموم.
والأنا التي يجب أن يسيطر عليها وينظر إليها بعين العدو كي لا تسلب اختيار الإنسان، وبعين الخادم الذي لا يغفل عنه سيده، هي "الأنا" التي تقف في مقابل بقية الأفراد، أما تلك "الأنا" التي ذكرت بمعنى عزة النفس، قوة النفس، كرامة النفس، شرف النفس، وحرية النفس، فليس فيها أنا ونحن، هي ذلك الجوهر القدسي الإلهي الذي يوجد عند كل إنسان، كل فرد لو يراجع ذاته وباطن نفسه يرى سلسلة من الصفات التي تتناسب معه وأخرى دون شأنه، وهي صفات الشر والحقارة، فكما لو رميت لوحة في الأوساخ تشعر بأن هذا المكان دون شأنها، فالأنا عندما ترى نفسها ملوثة ـ تشعر بأن هذه التلوث غير لائق بها ـ فتلك "الأنا" هي المعنى الواقع في مقابل المعاني، وهذه "الأنا" هي فرد واحد وتقع في مقابل بقية الأفراد.
إذاً لا يوجد تضاد بين هذين التعبيرين فمن جانب أمرنا بجهاد النفس وتزكية النفس: "واجعل نفسك عدواً تجاهده"24 "إن المؤمن لا يصبح ولا يمسي إلا ونفسه ظنون عنده"25 ومن جانب آخر يقال: اعرف نفسك واحترمها، واكرمها واعزها، واحفظ عزّتها وشرفها وكرامتها وحريتها، هذه جوهر الإنسانية وهي حقيقة، ويوجد هذا النور الإلهي في كل إنسان (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) فهي من عالم أفضل من هذا العالم، إذاً لا يوجد ارتباط بين الإثنين.
...... يقول الإمام السجاد عليه السلام: "طلب الحوائج إلى الناس مذلة للحياة ومذهبة للحياء واستخفاف بالوقار وهو الفقر الحاضر" أي أن الفقر لا يقتصر على فقدان المال، الفقير يعني الحاجة، وفقدان المال احتياج وفقر، واظهار الإحتياج إلى الآخرين هو عين الفقر "وقلة طلب الحوائج إلى الناس هو الغنى الحاضر".
وخلاصة الكلام هي أن الفقر والغنى لا ينحصران بالفقر والغنى المالي والمادي، بل هناك فقر وغنى آخر، وعلى الإنسان أن لا يخطئ ويصاب بفقر آخر بدافع من رفع فقره المادي، وعليه أن يعلم بأن الغنى المعنوي أفضل من الغنى المادي.
يقول علي عليه السلام: "ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلباً لما عند الله، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتكالاً على الله" مفهوم عبارة "تيه" تشابه تقريباً مفهوم التفاخر والتكبر، ولكن التكبير بهذا المعنى ليس مذموماً، والقصد منه هو حفظ الشخصية وعدم تحقير النفس لأجل الثروة والغنى أي لا تنحني لأجل ثروة الآخرين، بل كن شامخاً أمامهم.
المراد هنا تأكيد الشعور بعزة النفس وشرفها وكرامتها أيضاً، وقال عليه السلام أيضاً: "البخل عار، والجبن منقصة، والفقر يخرس الفطن عن حجته، والمقل غريب في بلدته، والعجز آفة، والصبر شجاعة، والزهد ثروة، والورع جنّة".
هنا يذم البخل والجبن والفقر والعجز لأسباب سنذكرها، ويمدح الصبر والزهد والورع لأدلة أخرى، الأدلة التي تنفي وتثبت كلها تقوم على أساس شعور الإنسان بشخصيته، وعلى أساس الشعور بالعزة والكرامة.
البخل عار، فمن يخشى العار، عليه أن لا يكون بخيلاً.
والجبن منقصة للإنسان، فلا يحسن به أن يتحمل هذا النقص.
الفقر يخرس الفطن عن حجته، فمهما كان الإنسان قوياً في بيانه، فإن الفقر سوف يفقد هذا البيان، إذاً الفقر مذموم بدليل أنه يحقر ويصغر الإنسان، المقل غريب في بلدته، ـ يختلف المقل عن الفقير ـ المقلُّ، هو الذي عنده مال قليل فهو غريب حتى في بلدته، الجزع آفة للإنسان وليس كمالاً: وفي المقابل يكون الصبر شجاعة.
والورع جنة والزهد ثروة، لأنه يجعل الإنسان مستغنياً عن الآخرين لماذا يريد الإنسان الثروة؟ لأجل الغنى، والزهد نفسه يجعل الإنسان غنياً ـ سئل الإمام السجاد عليه السلام: "من أعظم الناس خطرا؟ قال عليه السلام: "من لم ير الدنيا خطراً لنفسه"، أي يكون من كرامة النفس وعزتها بحيث لو وضعت الدنيا بأكملها في كفة ميزان ووضع شرف النفس وكرامتها في الكفة الأخرى فسوف يرجح كفة نفسه.
يقول الإمام السجاد عليه السلام: "من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا"، يريد أن يقول إن الإنسان لو عرف عظمة نفسه وكرامتها سوف تصغر الدنيا في عينه.
في نهج البلاغة جملتان ـ تؤكدان موضوع الكرامة والعزة ـ وهما قوله عليه السلام "الصادق على شفا منجاة وكرامة، والكاذب على شرف مهواة ومهانة".
وهناك آيتان توضحان الفكرة جيداً قال تعالى ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ﴾، يمكن أن يقال: إن كثرة الحلف والقسم تنشأ من المهانة، فالإنسان الذي يشعر بالعزة في نفسه لا يؤكد كلامه بالحلف المكرر، لذلك فإن القسم الكاذب حرام والحلف الصادق مكروه.
وأكثر من هذا تصريحاً الآية الشريفة ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾.
التكريم نوعان، أحدهما تكريم الإنسان لأخيه الإنسان، وهذا أمر اعتباري، مثلاً عندما تدخلون بيتي استطيع أن أعاملكم بصورتين: إحداهما أن لا أعتني بمجيئكم وذهابكم، والثانية أن أحترمكم وأتواضع لكم، ولكن عندما يقول الله تعالى: (ولقد كرمنا) ليس قصده هو أننا عاشرنا الإنسان لفترة، واحترمناه وجعلناه أفضل الموجودات، إنما قصده هو أننا كرمناه في الخلق والإيجاد أي جعلنا الكرامة والشرف والعظمة في خلقته وطبيعته، في الواقع ان العزة والكرامة والعظمة جزء من طبيعة الإنسان، لذلك فإن الإنسان لو عرفت نفسه بما هي، لعرف العزة والكرامة.
اللذات المادية واللذات المعنوية
تتمة لهذا نقول: هناك موضوع كان مطروحاً منذ القدم ألا وهو المادة والمعنى كانوا يقسمون الأمور إلى مادية ومعنوية، ليس المقصود من الأمور المعنوية الأمور المجردة وما وراء الطبيعة "الله والملائكة... الخ".
بل المقصود أن في حياة الإنسان أموراً غير محسوسة أو ملموسة، وليس لها حجم أو وزن ولكنها موجودة، كالأمور التي ذكرناها، وكان هذا السؤال يطرح على البشر دائمأً: ما هي الحرية؟
لا يستقر المال في يدي الأحرار، كما لا يستقر الصبر في قلب العاشق ولا الماء في الغربال.
لا تنحصر الأمور التي يهتم بها الإنسان ويعيرها أهمية وقيمة بالأمور المادية والجسمانية، والأمور المحسوسة التي لها حجم ووزن، إن الماء والخبز ضروريات للإنسان ولكن هناك أمور أخرى ذات أهمية للإنسان أيضاً، كالحرية الإجتماعية وحرية العقيدة، فإن لحرية العقيدة أهمية خاصة عند الإنسان فيها يتمكن أن يكون حراً في اعتقاده ولا يزاحمه أحد في عقيدته.
عَرَّفَ العلماء القدامى هذه الأمور "بالأمور المعنوية"، فالإنسان يتمتع ويلتذ بنيل أهدافه المعنوية، كما يلتذ بنيل الأهداف المادية، وفي المقابل تكون آلام الإنسان نوعين أيضاً فبعدم نيل الأهداف المادية والمعنوية أو الوصول إلى ضدها تحصل الآلام المادية والمعنوية.
وهناك تفسير مماثل في علم النفس أيضاً، يقولون: اللذات المادية واللذات المعنوية، والآلام المادية والآلام المعنوية، ويفرقون بين الاثنين مثلاً بأن اللذات المادية والآلام هي عضوية وجسمية أي أنها تختص بعضو معين وأنها ترتبط بعامل خارجي، أي أنها تحصل بسبب التلاقي والتماس مع التعامل الخارجي، كلذة الأكل، فإنها تختص بعضو معين، أي ان الإنسان يحس بها في عضو خاص هو عضو التذوق، ولا يشعر بها في باطن يده مثلاً؛ إضافة إلى أنه لابدّ من وجود شيء فوق اللسان لتحدث هذه الانفعالات وتحصل اللذة. أما اللذات المعنوية فإنها لا تختص بعضو وليس لها مكان خاص للإحساس بها. وهي لا ترتبط بعامل خارجي يسبب الاحساس باللذة بسبب التماس معه. فكم يحدث أن تؤدي فكرة ما إلى التذاذ الإنسان كلذة الافتخار التي تنتاب الفائز في المسابقة. لنفرض أن شخصاً اشتهر بعنوان أفضل فنان أو كاتب ويسمع بأنه مُدِحَ في المكان الفلاني، فإنه سوف يشعر باللذة في نفسه "لا يمكن القول بأن لهذا عاملاً خارجياً وهو السماع. لأن الاستماع وسيلة لاخباره واطلاعه على الموضوع، وأما اللذة فهي ليست لذة السمع والأذن كالتي يلتذ بها في سماع الموسيقى مثلاً". أين هذه اللذة؟ هل هي في حاسة البصر؟ أم في الأذن؟ أم في الفم؟ كلا، إنه يشعر باللذة في تمام وجوده، دون أن يتمكن من تعيين مكان ونقطة واحدة.
إن الأمور المادية والمعنوية كانت معروفة لدى الإنسان. يعتقد الفلاسفة أن اللذة على ثلاثة أقسام:
1 ـ اللذات الجسمية.
2 ـ اللذات العقلية.
3 ـ اللذات الوهمية.
والتي تعتبر محقرة بالنسبة إلى اللذات العقلية، وعلى الإنسان أن يبحث عن اللذات العقلية لا الوهمية.
أصل القيمة والأهمية
تطرح هنا مسألة أخرى وهي: أن البشر يريد هذه الأمور فهو مضطر لأن يعطي أهمية وقيمة لها. القيمة هي نفسها التي نسميها في اصطلاح العرف: الثمن.
والآن من أين تحصل القيمة، ولماذا توجد قيمة للاشياء؟ إن الشيء إذا كان مفيداً ومحققاً لغرض خاص ويعد كمالاً للوجود الإنساني ولا يحصل عليه بسهولة أو دون ثمن، يكون ذا قيمة وأهمية. فليس للهواء مثلاً قيمة. لماذا؟ لأنه لا يشترى بثمن، ولا يمكن تملكه. أما الأرض فانها ليست كذلك؛ فإن البعض يستثمر الأراضي ويختص بها دون غيره ويحرم الآخرين منها. ومن هنا تحصل لها القيمة والأهمية.
ولهذا السبب يكون للأمور المعنوية قيمة. فإن الإنسان ينجذب نحو الأمور المادية بالفطرة وهو لنفس السبب ينجذب نحو الأمور المعنوية. لهذا فنحن نقيم للأمور المعنوية وزناً وقيمة، ولكنها قيمة معنوية. إن القيم المعنوية من مختصات الإنسان والقيم المادية ليست من مختصاته، فإنسانية الإنسان هي أن تكون القيم المعنوية قوية لديه وبمقدار ما يكون ملتزماً بهذه القيم، فانه يعد متكامل الإنسانية.
كان القدماء يطرحون المسائل بهذا النحو من الاُصول والمباني التي لا تنتهي إلى طريق مغلق. ولكن الغربيين اليوم يطرحونها بنحو آخر، ولهذا وصلوا إلى طريق مسدود، لقد فككوا بين الأمور المادية والأمور المعنوية وبين المنفعة والقيمة، قالوا: إن بعض الأشياء نافعة ومفيدة للإنسان، وبعضها غير نافعة، لكن الإنسان يضع لها قيمة ويثمنها. أما القسم الأول فهو الأمور المادية، وأما القسم الثاني فيقيّمه الإنسان مع أنه لا فائدة فيه، ولا يزيد من كماله. إننا نبحث عن الشيء المفيد، أما الشيء الذي لا يحقق لنا الخير والسعادة، فلا نقيم له أهمية وقدراً. انه لا يعد كمالاً لنا، ليمدحنا عليه الآخرون. انه يدخل ضمن الأمور الفرضية والخيالية والاعتبارية.
علة هذا التفكير انهم لم يريدوا وضع معنى في مقابل المادة، ولم يريدوا وضع قيم معنوية لواقع الإنسان، ويقولون: إن للإنسان بطناً، وله ما وراء البطن أيضاً؛ كل ما تحتاجه بطنه يعد قيماً، وهكذا لكل ما يحتاجه ما وراء بطنه قيمة واهمية، هؤلاء لم يضعوا قوة أخرى وراء هذه القوى المادية. رأوا في الظاهر أن الإنسان لا يملك غير هذه البنية المادية. فاهتموا فقط بما تحتاجه هذه البنية. وقالوا: إن إرادة الشيء غير المفيد للبنية المادية مخالف للمنطق، والسؤال: ما هو أصل هذه القيمة؟ لا جواب لذلك.
يرى البعض اننا نضع لأعمالنا قيمة؛ نحن أنفسنا نخلق القيمة والثمن هل أن القيمة شيء مخلوق واعتباري؟ ان ما يمكننا خلقه وإيجاده هو الاعتبارات. ونحن لا نتمكن من أن نخلق لكل شيء قيمة دون سبب؟ القيمة والمنفعة شيء واحد، أي أنهما متساويان من جهة واحدة. ويرتبطان بواقع الإنسان الذي يبحث عن خيره وكماله.
ولكن الإنسان ليس فقط هذه البنية المادية، فان الخير المادي له نوع من القيمة بالنسبة للإنسان، والخير المعنوي له نوع آخر من القيمة. فبدلاً من قولنا: المنفعة والربح والقيمة، نقول المادة والمعنى أو القيمة المادية والقيمة المعنوية. هذا هو الكلام المنطقي، وإنما يسمون دنيا اليوم بعالم تزلزل القيم لأنهم يريدون قطع جذور القيم وإعطاء البشر قيمة في الوقت نفسه، وهذا تناقض. إنهم قطعوا جذور القيم بما لديهم من نظرة بشأن تعريف الإنسان. عندما ينظرون إلى الإنسان نظرة مادية ويعرفونه بأنه هذا الجسم المادي فقط، فإن الأخلاق والقيم المعنوية وأصالة البشر والإنسانية تصبح كلها بدون معنى. عندما يكون الإنسان مادة أعقد من باقي المواد، إذاً فما معنى الشرف؟ يقال إن جهاز "أبولو" يتكون من خمسة ملايين جزءاً وقطعة اتصلت ببعضها، لا يمكن مقايسة هذا الجهاز مع كرسي صغير متكون من أربع قطع، لكن هل تقيمون "لأبولو" وزناً وشرفاً كما تقيمون للإنسان شرفاً؟ كلا، إن "أبولو" لا يختلف عن باقي المواد لكنه أعقد منها. لو اعتبرنا الإنسان ماكنة عظيمة فحتى لو كان حجم هذه الماكنة بقدر الدنيا فلا قيمة لها. لهذا فإنهم قطعوا جذور تلك الأشياء التي سموها أنفسهم (قيماً) ـ أو التي نسميها نحن "معاني" ـ. نحن لا نفكك بين المادة والمعنى، ولا نقول بأن الشخص يريد شيئاً دون سبب، ولكن نقول "إرادة" الاثنين لها سبب ومنطق خاص، ومن المستحيل أن يبحث الإنسان عن شيء ويتابعه دون سبب....
*التربية والتعليم في الاسلام،الشيخ مرتضى مطهري،دار الهادي، بيروت لبنان،ط4 1426هـ ـ2005م، ص135ـ151.
1- نهج الفصاحة، حديث 325، ص64.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 51.
3- بحار الأنوار، ج78، ص128.
4- مقتل الخوارزمي، ج2، ص6.
5- اللهوف، ص69.
6- بحار الأنوار، ج44، ص192 الطبعة الجديدة.
7- تاريخ اليعقوبي، ج2، ص246.
8- بحار الأنوار، ج47، ص34.
9- الحكمة، 369.
10- ج2، ص203.
11- سورة آل عمران، الآية: 139.
12- نهج البلاغة الحكمة، 453.
13- الوسائل، ج12، ص30.
14- تحف العقول، ص410.
15- تحف العقول، ص410.
16- بحار الأنوار، ج45، ص25.
17- نهج البلاغة، الحكمة: 44.
18- نهج البلاغة، الحكمة: 297.
19- نهج البلاغة، ص441.
20- تحف العقول، ص512.
21- (سورة القصص، الآية: 83
22- المحجة البيضاء، ج5، ص6.
23-(سورة الحجر، الآية: 29
24- الوسائل، ج11، ص123.
25- نهج البلاغة، الخطبة 176