يتم التحميل...

السبيل إلى معرفة الله عز وجل

إذا كان الارتباط بالله سبحانه وتعالى والتوجه إليه هو هدف التشريعات السماوية وإرسال الأنبياء، والهدف الأساسي من خلق الإنسان، وإذا كانت الفطرة الإنسانية خُلقت بالأصل باحثةً عنه وطالبة له، وإذا كانت آيات الحق التكوينية وأحكامه الشرعية تهدف بدورها إلى تحقيق هذه الرابطة بين الخالق والمخلوق، فما هو السبيل إلى ذلك؟ وما هو الطريق الذي ينبغي لنا اتّباعه ليغدو قربنا من الله تعالى أمراً ممكناً وقابلاً للتحقق؟

عدد الزوار: 19

السبيل إلى معرفة الله عز وجل

إذا كان الارتباط بالله سبحانه وتعالى والتوجه إليه هو هدف التشريعات السماوية وإرسال الأنبياء، والهدف الأساسي من خلق الإنسان، وإذا كانت الفطرة الإنسانية خُلقت بالأصل باحثةً عنه وطالبة له، وإذا كانت آيات الحق التكوينية وأحكامه الشرعية تهدف بدورها إلى تحقيق هذه الرابطة بين الخالق والمخلوق، فما هو السبيل إلى ذلك؟ وما هو الطريق الذي ينبغي لنا اتّباعه ليغدو قربنا من الله تعالى أمراً ممكناً وقابلاً للتحقق؟
 
هذا السؤال جوهري وأساسي، ومن دون الإجابة عنه سيبقى الإنسان حائراً وتائهاً في هذه الحياة. فمن غير الممكن أن يهاجر الإنسان إلى ربه وهو لا يعرف السبيل إلى ذلك. لذا على الإنسان المخلص والصادق في طلبه أن يتعرف إلى الطريق الذي يوصل إلى الحق. والله سبحانه وتعالى قد بيّن ذلك ولم يجعله خافياً: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى[1]، ﴾ ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[2].
 
معرفة النفس
لكي نجيب عن هذا السؤال علينا أن نبدأ من الطريق السهل والذي لن يكلفنا عناء البحث كثيراً. علينا أن نبدأ من أنفسنا التي سوّاها الحق ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾[3]، لأن الجاهل بنفسه بالآخرين أجهل، والعارف بها قد أُعطيَ فرصةً قلَّ نظيرها لاكتشاف الكثير مما قد خفي عنه.
 
إذا رجع الإنسان قليلاً إلى هذه النفس، وأعطى لفكره وقتاً للتأمل في أعماقه، ومحاسبة كل حياته ونشاطاته، فسوف يقف على حقيقةٍ مهمةٍ جداً تعتبر عند أهلها أساس كل خيرٍ وراحة في هذه الحياة. سوف يدرك أنه طالبٌ لأشياء يحتاجها ويرى فيها لذةً لنفسه أو راحةً أو منفعة. ثم إذا حاول أن يفهم سر كل حركةٍ يؤديها أو مشروعٍ يقوم به فسوف يجد أن احتياجه وفقره هو الذي يدفعه للقيام به. فالإنسان قد فطر على أساس الطلب والحاجة، ووجوده فقيرٌ لا ينفكّ عن السعي للغنى والطلب للقدرة. وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الحالة بأروع صورة فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ  ﴾[4]، ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾[5].
  
حقيقة الإنسان
من المؤكد أن الفقر المقصود هنا في الآية ليس الفقر المادي، لأن بعض الناس بطبيعة الحال أغنياءٌ على المستوى المادي. بل المراد منه شيءٌ آخر يمسّ جوهر الإنسانية وحقيقتها. فهذه الآيات الآنفة الذكر تشير إلى أن الضعف والاحتياج هما حقيقة الإنسان ﴿يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾[6].
 
فلو فكّر الإنسان ساعةً واحدة في نفسه وفي موجودات هذا العالم كله فسوف يكتشف أن أي موجودٍ ليس لديه شيءٌ من نفسه، وأن كل ما حصل عليه الإنسان ووصله هو ألطافٌ ومواهب مستعارة وهي ليست منه، سواء قبل أن يأتي إلى هذه الحياة أم خلال حياته فيها، أم حتى بعد الممات. وإذا تأمل الإنسان في كيفية خلقه منذ أن كان طفلاً إلى أن تحين لحظة وفاته وفكّر قليلاً في كل مرحلة وما أُعطي فيها من نِعمٍ وقوىً متنوعة من الفكر والعقل والخيال والقلب والأعضاء والجوارح المختلفة وغيرها من النعم والألطاف، لدهش وتحيّر لأنه في لحظةٍ من اللحظات لم يكن شيئاً مذكوراً ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾[7] ثم أتى من أفاض عليه الحياة والروح ووهبه من ألوان النعم التي تبهر العقول وسخّر له كل هذا الوجود. فالإنسان إذاً في الأصل لا يملك شيئاً، فمن تراه يكون المالك الحقيقي والرازق والمعطي!؟
 
 
﴿وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[8]، ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾[9].
 
فالأمور كلها بيد الله وليس للإنسان من حولٍ وقوة إلا به، وهذا عين الضعف والعجز: ﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾[10]، ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[11]، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾[12].
 
* من كتاب: درب الهداية  - جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


[1] - القرآن الكريم، سورة طه، 50.
[2] - القرآن الكريم، سورة التوبة، 115.
[3] - القرآن الكريم، سورة الشمس، 7.
[4] - القرآن الكريم، سورة فاطر، 15.
[5] - القرآن الكريم، سورة القصص، 24.
[6] - القرآن الكريم، سورة النساء، 28.
[7] - القرآن الكريم، سورة الدهر، 1.
[8] - القرآن الكريم، سورة المائدة، 17.
[9] - القرآن الكريم، سورة يونس، 31.
[10] - القرآن الكريم، سورة آل عمران، 154.
[11] - القرآن الكريم، سورة الذاريات، 58.
[12] - القرآن الكريم، سورة فصّلت، 15 .

2025-12-21