هل السياسة جزء من الدين؟
أبحاث ومفاهيم
الوقائع التاريخيَّة تفيد أنّ النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لمّا هاجر إلى المدينة، دعا جميع القبائل المقيمة فيها وعلى مقربة منها إلى الإسلام، وعقد العديد من الاتفاقيات انطلاقاً من مركزيَّة المدينة. وكان تفسير المسلمين لهذه الوقائع أنّ النبيّ محمد (صلى لله عليه وآله) شكَّل حكومة في المدينة، ونهض بمسؤوليَّة الزَّعامة السِّياسيَّة للمسلمين إلى جانب وظائف النبوّة في التبليغ والإرشاد والهدي. وكان لنشاطه هذا جذور في الوحي والتعاليم السماويَّة.
عدد الزوار: 136 الفئة الأُولى، من منكري الحكومة الدِّينيَّة، تعتقد بأنَّ الإسلام لم يتضمَّن، في جوهره ومضمونه، حثَّ المسلمين على تشكيل الحكومة الدِّينيَّة. ومحور بحث هذه الفئة يتمثَّل في سنيّ وجود النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، وفي ما إذا كان قد شكَّل حكومة هناك. وعلى فرض الجواب بالإيجاب، فهل كان منشأ هذه الحكومة من الأوامر الإلهيَّة والدَّعوة الدِّينيَّة أو كانت لها جذور جماهيريَّة؟ كما يتمُّ البحث في حقيقة التعليمات الإسلاميَّة، وما إذا كانت عمليَّة تشكيل الحكومة وإدارة المجتمع تفتقد إلى الوضع القانوني.
الوقائع التاريخيَّة تفيد أنّ النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لمّا هاجر إلى المدينة، دعا جميع القبائل المقيمة فيها وعلى مقربة منها إلى الإسلام، وعقد العديد من الاتفاقيات انطلاقاً من مركزيَّة المدينة. وكان تفسير المسلمين لهذه الوقائع أنّ النبيّ محمد (صلى لله عليه وآله) شكَّل حكومة في المدينة، ونهض بمسؤوليَّة الزَّعامة السِّياسيَّة للمسلمين إلى جانب وظائف النبوّة في التبليغ والإرشاد والهدي. وكان لنشاطه هذا جذور في الوحي والتعاليم السماويَّة. وقد نشأت ولاية النَّبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من تنفيذ الأمر الإلهيّ، فقد قال تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾([1])، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ﴾([2]).
فقد منح الله تعالى، في هاتين الآيتين، النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولاية أمر المسلمين، وأن يحكم بين الناس وفاقاً لما جاء في القرآن. وهكذا، تأمر آيات أُخرى المسلمين بطاعته (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما في الآيتين الآتيتين: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾([3])، ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾([4]).
وعلى أساس هذا التَّفسير السائد والمعروف، فإنّ إقدام مسلمي صدر الإسلام على تشكيل الحكومة الدِّينيَّة له أُصول تنتهي إلى الدِّين وتعاليمه، وهو عمل دينيّ ومشروع تماماً، وفي الواقع هو تلبية لرسالة الدِّين ودعوته. أمّا العقود الأخيرة، فقد شهدت معارضة من بعض كتّاب أهل السنَّة، وفئة ضئيلة من مفكري الشِّيعة لهذه الرؤية([5]) فقد أورد هؤلاء الأفراد تفاسير وتحليلات أخرى في مقابل التفسير السَّائد والمعروف لزعامة النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) السِّياسيَّة في المدينة. فبعض هؤلاء ينكرون، من الأساس، ولاية النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) السِّياسيَّة، ويؤكّدون أنَّه نهض بعبء الزَّعامة الدِّينيَّة، ولم يتصدّ قطُّ للقضايا السِّياسيَّة والحكوميَّة، بينما يعتقد بعض آخر منهم بأنَّه كانت للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) زعامة وولاية سياسيَّتان، إلّا أنّ هذه الولاية لم تكن من جانب الله، بل انبثقت زعامته (صلى الله عليه وآله وسلم) من تأييد الأُمّة وتفويضها. وبناءً عليه، فالدِّين لم يتضمّن، في تعاليمه، الدعوة لتشكيل الحكومة الدِّينيَّة والأمر بذلك، ولم تكن حكومة النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) سوى واقعة تاريخيَّة حدثت مصادفةً، ولا يمكن التعامل معها بوصفها أمراً دينياً.
* كتاب الحكومة الإسلامية (دروس في الفكر السياسي الإسلامي)، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
([1]) سورة الأحزاب: 6.
([2]) سورة النساء: 105.
([3]) سورة النساء: 59.
([4]) سورة النساء: 65.
([5]) ابتدأ هذا البحث بكتاب الكاتب المصري عليّ عبد الرَّزاق: "الإسلام وأُصول الحكم" الّذي طبع في القاهرة سنة 1925م.