هل الإسلام منهج حياة؟
إضاءات إسلامية
يُردّد المثقّفون الغربيّون، وبعض المثقّفين العرب، أنّ الإسلام دين وعقيدة وليس ثورة ومنهجاً للحياة، وأنّه عبارة عن علاقة بين الإنسان وربّه، ولا يصلح لأنْ يكون أساساً لثورة اجتماعيّة كالّتي حصلت في العصر الحديث في إيران بقيادة الإمام الخمينيّ (قدس سره).
عدد الزوار: 22يُردّد المثقّفون الغربيّون، وبعض المثقّفين العرب، أنّ الإسلام دين وعقيدة وليس ثورة ومنهجاً للحياة، وأنّه عبارة عن علاقة بين الإنسان وربّه، ولا يصلح لأنْ يكون أساساً لثورة اجتماعيّة كالّتي حصلت في العصر الحديث في إيران بقيادة الإمام الخمينيّ (قدس سره).
وقد فات هؤلاء أنّ الإسلام ثورةٌ لا تنفصل فيها الحياة عن العقيدة، ولا ينفصل فيها الوجه الاجتماعيّ عن المحتوى الروحيّ، ومن هنا كانت الثورة الإسلاميّة تحت مظلّة الوليّ الفقيه فريدةً من نوعها على مرّ التأريخ.
لقد جاء الإسلام بمبدأ (لا إله إلّا الله)، وهو مبدأ التوحيد الّذي يُمثّل جوهر العقيدة الإسلاميّة، بل بهذا المبدأ تمّ تحرير الإنسان من الداخل أوّلاً، أي حقيقة تحريره من عبوديّة غير الله، وجعله يرفض كلّ أشكال الألوهيّة المزيّفة على مرّ التأريخ، وهذا ما سُمّيَ بـ (الجهاد الأكبر) أو (جهاد النفس)، ليكون ذلك مقدّمة نحو تحقيق نتيجة طبيعيّة ألا وهي تحرير الإنسان من الخارج ثانياً، بمعنى حقيقة تحرير الثروة والكون من أيّ مالك سوى الله تبارك وتعالى، وهذا ما سُمّي بـ (الجهاد الأصغر). وقد ربط أمير المؤمنين عليه السلامبين هاتين الحقيقتين حين قال: "العباد عباد الله والمال مال الله"([1]).
إذاً من خلال ذلك حطّم الإسلام كلّ القيود المصطنعة والحواجز التأريخيّة الّتي كانت تعوق تقدّم الإنسان، وكدحه إلى ربّه، وسيره الحثيث نحوه.
ثورة الأنبياء (عليهم السلام):
لقد حمل الأنبياء عليهم السلام مشعل الإسلام الّذي كافحوا من أجله، ليُشكِّلوا بذلك ثورة اجتماعيّة على الظلم والطغيان، وعلى كلّ ألوان الاستغلال والاستعباد، الأمر الّذي نجم عنه أمران أساسيّان، هما:
أوّلاً: لم تضع ثورة الأنبياء (عليهم السلام) مستغلّاً جديداً في موضع مستغلّ سابق، ولا شكلاً من الطغيان بديلاً عن شكل آخر، لأنّها في الوقت الّذي حرّرت فيه الإنسان من الاستغلال فقد حرّرته من منابع الاستغلال في نفسه أيضاً، وغيّرت من نظرته إلى الكون والحياة.
قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾([2]).
نُلاحظ في الآية الكريمة كيف يسير العملان الثوريّان جنباً إلى جنب، حيث يجعل (المستضعفين أئمّة ويجعلهم الوارثين)، وهذا يعني أنّ حلول المستضعَفين محلّ المستغِلِّين والمستثمرين، وتسلّمهم مقاليد الحكم والسلطة من أيديهم، يواكب جعلهم أئمّة، أي تطهيرهم من الداخل والارتفاع بهم إلى مستوى القدوة والنموذج الإنسانيّ الرفيع.
ولهذا لن تكون عمليّة الاستبدال الثوريّ على يد الأنبياء عليهم السلام كما استُبدل الإقطاعيّ بالرأسماليّ، أو الرأسماليّ بالبروليتاريا (الطبقة العمّاليّة الشيوعيّة)، مجرّد تغيير لمواقع الاستغلال، وإنّما هي تصفية نهائيّة للاستغلال ولكلّ ألوان الظلم البشريّ.
صفه الوارثين
وقد حدّد القرآن الكريم في نصٍّ آخر صفة هؤلاء المستضعَفين الّذين ترشّحهم ثورة الأنبياء عليهم السلام لتسلُّم مقاليد الخلافة في الأرض، إذ قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور﴾([3]).
ثانياً: إنّ صراع الأنبياء (عليهم السلام) مع الظلم والاستغلال لم يتّخذ طابعاً طبقيّاً كما وقع لكثير من الثورات الاجتماعيّة، لأنّه كان ثورة إنسانيّة قد حرّرت الإنسان من الداخل من خلال الجهاد الأكبر قبل كلّ شيء، ولم يكن جانبه الثوريّ الاجتماعيّ إلّا بناء علويّاً.
وقد استطاع الإسلام بعمليّة التحرير من الداخل، أنْ يُنبّه في النفوس الخيّرة كلّ كوامن الخير والعطاء، ويُفجِّر فيها طاقات الإبداع على اختلاف انتماءاتها الطبقيّة في المجتمعات الجاهليّة، فكان الغنيّ يقف إلى جانب الفقير على خطّ المواجهة للظلم والطغيان، وكان مستغِلّ الأمس يندمج مع المستغَلّ في إطار ثوريّ واحد بعد أنْ يُحقّق الجهاد الأكبر فيه قيمه العظيمة.
إذاً: إنّ الثائر على أساس نبويّ ليس ذلك المستغِلّ الّذي يؤمن بأنّ الإنسان يستمدّ قيمته من ملكيّة وسائل الإنتاج وتمكّنه في الأرض، ويسعى في سبيل انتزاع هذه القيمة من يدٍ مستغِلّة، والاستئثار بها لنفسه، لكي تفرض طبيعة هذا الصراع أنْ يكون الانتماء إلى طبقة المستغِلّين أو المستغَلّين هو الّذي يُحدّد موقع الإنسان في الصراع، بل الثائر النبويّ هو ذلك الإنسان الّذي يؤمن بأنّه يستمدّ قيمته الإنسانيّة من سعيه الحثيث نحو الله تعالى، واستيعابه لكلّ ما يعني هذا السعي من قيم إنسانيّة وفضائل أخلاقيّة، وفي الوقت ذاته يشنُّ حرباً لا هوادة فيها على الاستغلال، باعتباره هدراً لتلك القيم، وتحريفاً للإنسانيّة عن مسيرتها نحو الله وتحقيق أهدافها الكبرى.
شبهة أحكام الإسلام الثابتة في ظلّ أحكام الحياة المتغيّرة:
كثيراً ما يُثير المُشكِّكون سؤالاً حول كيفيّة معالجة مشاكل الحياة الاقتصاديّة([4]) في نهاية (القرن العشرين)([5]) على أساس الإسلام، مع ما طرأ على العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة بعد قرابة قرناً من توسّع وتعقيد، وما يواجه إنسان اليوم من مشاكل نتيجة ذلك!
والجواب: إنّ الإسلام قادر على قيادة الحياة وتنظيمها ضمن أطره الحيّة دائماً، ذلك أنّ الاقتصاد الإسلاميّ تمثّله أحكام الفقه في الثروة والمال، وهذه الأحكام تشتمل على قسمين من العناصر:
1- العناصر الثابتة، وهي الأحكام المنصوص عنها في الكتاب والسُّنة فيما يتّصل بالحياة الاقتصاديّة.
2- العناصر المرنة والمتحرِّكة، وهي تلك العناصر الّتي تُستمدّ - على ضوء طبيعة المرحلة في كلّ ظرف - من المؤشّرات الإسلاميّة العامّة والّتي تدخل في نطاق العناصر الثابتة.
وبالتالي لا يُستكمل الاقتصاد الإسلاميّ إلّا باندماج العناصر المتحرّكة مع العناصر الثابتة في تركيب واحد تسوده روح واحدة وأهداف مشتركة.
أما عمليّة استنباط العناصر المتحرّكة وتحديدها من المؤشّرات الإسلاميّة العامّة فهي تتطلّب ما يلي:
1 - منهجاً إسلاميّاً واعياً للعناصر الثابتة.
2 - استيعاباً شاملاً ودقيقاً لطبيعة المرحلة، وشروطها الاقتصاديّة، وأهدافها، وأساليبها الّتي تتكفّل بتحقيقها.
3 - فهماً فقهيّاً قانونيّاً لحدود وصلاحيّات الحاكم الشرعيّ.
* من كتاب كتاب الإسلام منهج حياة – سلسلة دروس في فكر الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قدس سره)، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
([1]) وليس مال الله لله ومال قيصر لقيصر...، كما في العهد الجديد.
([2]) القرآن الكريم،سورة القصص، الآية: 5.
([3]) القرآن الكريم،سورة الحج، الآية: 41.
([4]) الإشارة إلى المشكلة الاقتصاديّة دون المشاكل الأخرى (الثقافيّة - السياسيّة - الاجتماعيّة...) هو للدلالة على أنّ أكثر المشاكل تعقيداً وبالغة الصعوبة - والّتي نعيشها اليوم - هي المشكلة الاقتصاديّة، بل هي المدخل الرئيس - أحياناً كثيرة - إلى بروز المشاكل السياسيّة والاجتماعيّة وغيرهما. والدليل على هذا فإنّ الأزمة العالميّة المرتقبة في المستقبل القريب هي أزمة اقتصاديّة بامتياز، وتتمثّل في شح المياه العذبة، وندرتها، الأمر الّذي سيُسبّب مشاكل سياسيّة وحروب عسكريّة بين دول العالم، قد نتلمّس بعض معالمها ـ اليوم ـ بمحاولة العدوّ الصهيوني إعادة احتلال مياه الوزّاني في جنوب لبنان، ولو تطلّب ذلك حرباً عسكريّة شاملة مع لبنان وفي المنطقة كلّها.
([5]) كتب الشهيّد الصّدر (قدس سره) هذه الدراسة في أواخر سبعينات القرن العشرين المنصرم.